}

جان أستروك.. الطبيب الذي أسهم بتطور نقد "الكتاب المقدس"

أحمد الجندي أحمد الجندي 1 نوفمبر 2022
استعادات جان أستروك.. الطبيب الذي أسهم بتطور نقد "الكتاب المقدس"
تمثال لجان أستروك في متحف تاريخ الطب- باريس

 

أطباء ومبدعون

"لا ينبغي لمن أبدع في مجال بعينه أن يترك مجاله الذي أبدع فيه، خاصة حين يكون ما قدّمه في هذا المجال معروفًا ومقدّرًا من الجميع، ناهيك عن أن يقفز إلى مجال مختلف تمامًا". قد تكون التجارب التي قرأنا عنها، أو رأيناها في حياتنا لمن غيروا مجال تخصصهم مؤيدة للمقولة السابقة للفيلسوف الألماني غوته، لكن ذلك لا يعني صدق مقولته على الدوام؛ فكثيرًا ما كان تغيير مجال التخصص فرصة كبيرة للإبداع، أو لنيل شهرة واسعة، أو للقيام بدور لم يكن ليتحقق لو بقي الشخص في مجاله الأصلي.

فجان أستروك؛ ذلك الطبيب الفرنسي الذي ألّف عددًا كبيرًا من الكتب الطبية خلال مسيرة حياته، والذي تخطت شهرته حدود محيطه الضيق، ربما لا يعرفه حاليًا في مجال الطب سوى قلة قليلة من المتخصصين، بل ربما هؤلاء أيضًا لا يعرفونه، لكننا حين نراجع أي مدخل من مداخل دراسة العهد القديم، فأغلب الظن أننا لن نجد كتابًا يخلو من اسمه كباحث في دراسات الكتاب المقدس، ولن نجد متخصصًا في مجال دراسات العهد القديم لا يعرف قيمته.

لا أعرف لماذا يبدع الأطباء تحديدًا حينما ينطلقون من عالمهم إلى عالم الإبداع والكتابة؛ ليس كل الأطباء بالطبع، لكن كثيرًا منهم يبدعون حين يمسكون بالقلم، ربما، كما يقول البعض، لأن ميدان الطبيب والكاتب واحد، الإنسان، فالأول يعالج الجسد، بينما الآخر يخاطب الروح والعقل.

كثيرون هم الأطباء الذين جمعوا بين مهنة الطب، ومهارة الكتابة، حتى أصبح الأمر ظاهرة تستدعي تأليف العديد من الكتب حولها؛ وإذا شئت بعضها فخذ مثلًا: معجم أدب الأطباء لمحمد الخليلي، الأطباء الأدباء لفخري الدباغ، أطباء أدباء لعبد الجبار ديه.. وغير ذلك من كتب ومقالات ترصد هذه الظاهرة الفريدة.

في الأدب العالمي تعددت أسماء من جمعوا بين الطب والأدب؛ كأنطون تشيخوف، الأديب الروسي وأحد مبدعي فن القصة القصيرة في الأدب العالمي، والأديب البريطاني، فرنسي الأصل، سومرست موم، الذي أبدع في مجال الرواية والتأليف المسرحي، ومايكل كرايتون الأميركي، رائد أدب الخيال العلمي، والسير آرثر كونان دويل الأسكتلندي مبتكر شخصية شرلوك هولمز.

في الأدب العربي أيضًا هناك أسماء كثيرة كالشاعر المصري إبراهيم ناجي صاحب "الأطلال" التي تغنت بها أم كلثوم، والأديب المصري يوسف إدريس أحد مبدعي فن القصة القصيرة في الوطن العربي، ونجيب الكيلاني المصري رائد الأدب الإسلامي، والدكتور مصطفى محمود، والشاعر والروائي السوري عبد السلام العجيلي، والروائي المصري أحمد خالد توفيق.. ومئات أو ربما آلاف غيرهم. ولو ذهبنا في مجال الكتابة الدينية وتفسير النص الديني، أو حتى الكتابة السياسة فسوف نجد الأمر يشكل أكبر من كونه ظاهرة عالميًا وعربيًا كذلك.

لم يكن أستروك إذًا حالة فردية، بل هو جزء من ظاهرة قديمة وممتدة، برز فيها كثير من الأعلام جمعوا بين الطب والكتابة في الفلسفة والأدب؛ كفخر الدين الرازي، وابن سينا، وابن حزم، وابن رشد، وموسى بن ميمون ومئات غيرهم.

ولد جان أستروك (1684 – 1766) في بلدة سوڤي Sauve في مقاطعة لانجدوك الفرنسية التي تضم عددًا من المدن أهمها مونبلييه، وظل محافظًا على روابط قوية بمقاطعته تلك طوال حياته، حتى أن أهم أعماله التي تركها أظهرت تلك الصلة القوية؛ فكتب: التاريخ الطبيعي لمقاطعة لانجدوك، وتاريخ كلية الطب في مونبلييه، الذي نشر بعد وفاته. ويقال إن اسم (أستروك) كان منتشرًا بين يهود إسبانيا وجنوب فرنسا، وكان ذلك سببًا في أن اعتبره كثيرون يهودي النسب، ولو صح ذلك فقد يكون هذا أحد دوافع اهتمامه بالعهد القديم.

جان أستروك ومن أقدم نسخ كتابه "تخمينات حول الوثائق الأصلية التي يبدو أن موسى استخدمها في تأليف سفر التكوين"


ثمة احتمال كبير أن يكون هذا الاهتمام لدى أستروك جاء نتيجة تأثره بوالده بيير أستروك، الذي كان عند ولادة ابنه راهبًا في إحدى الكنائس التي تتبع المنهج البروتستانتي قرب بلدة سوڤي، ومن المثير أن أستروك ولد في نفس العام الذي ألغي فيه مرسوم نانت الذي كان قد صدر عام 1598، وكان يعطي لطوائف البروتستانت المختلفة الحق في ممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية وفق مذهبهم، وكان بيير الوالد من بين المضطهدين الذين حكم عليهم بالموت غيابيا، غير أن تحوله إلى المذهب الكاثوليكي كان سببًا في صدور قرار عفو لصالحه. لاحقًا اضطر الأب للهرب إلى مونبلييه خوفًا من تعرّضه لانتقام بعض الحركات البروتستانتية المسلحة التي نشأت نتيجة اضطهاد البروتستانت، وهناك عمل محاميًا، واستفاد من مكتبته المتنوعة في ممارسة هوايته في مجال الدراسات القديمة.

وقد قام أستروك فيما بعد بتخليد اسم والده بيير في عمله الذي ذكرناه سابقًا "التاريخ الطبيعي لمقاطعة لانجدوك" والذي تحدث فيه عن أسفار الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، وأظهر أستروك فيه معرفته باللغة العبرية، وقال إنه قد ورثها عن أبيه الذي يكن له كل الحب والتقدير. وقد تعلم الوالد العبرية أثناء دراسته في جنيف على يد مايكل توريتيني، أستاذ اللغة العبرية هناك، والذي كان ينتمي لعائلة من دارسي اللاهوت في جنيف، وكان واضحًا أن بيير لم يتعلم فقط العبرية من أستاذه، بل تعلم اللاهوت أيضًا، الذي من المؤكد أنه نقله فيما بعد لولديه؛ حيث نُقل عن جان أستروك لاحقًا أنه وأخاه تعلما في مدرسة والدهما النظام والمنهج، والذي "لولاهما لكان العلم بلا قيمة". وتشير الأخبار إلى أن "آن لويس" الأخ الأصغر لجان عمل فيما بعد أستاذًا للقانون الفرنسي في جامعة تولوز.

أما جان فقد درس في مونبلييه، ونال درجة الماجستير في الطب وهو في السابعة عشرة من عمره، ثم حصل على الدكتوراه عام 1703 ولما يكمل التاسعة عشرة بعد. ومن الواضح أن أستروك كان أستاذًا ماهرًا في الطب؛ حيث كان عمل أستاذًا للتشريح في تولوز، ثم عمل أستاذًا في مونبلييه، وبعدها انتقل لباريس في 1728، وهناك تلقى دعوة من الملك أغسطس الثاني القوي، ملك بولندا، ليكون طبيبه الخاص، ثم عاد بعدها بعامين- 1730- إلى باريس وأصبح الطبيب الخاص للملك لويس الخامس عشر، وعمل أستاذًا للطب في الكلية الملكية في فرنسا، وفي 1743 انتخبته كلية الطب في جامعة السوربون عضوًا فيها، وظل حتى وفاته أحد أهم أعضاء مجلسها.

وخلال مسيرته الطبية قدم أستروك العديد من الأبحاث الطبية حول مرض الزهري، وأمراض النساء، والأمراض التناسلية، وحركات العضلات، وأمراض الجهاز الهضمي، ومرض الكلب، كما اشتهر برفضه لاستخدام التجدير في معالجة مرض الجدري (وهو شكل من أشكال التلقيح ضد الجدري؛ حيث كان الصديد يستخرج من بثور المصابين بالجدري، ثم يتم إدخاله في جروح سطحية على أجسام الأصحاء، أو بطحن قشور البثور من شخص مريض وإدخالها في أنف شخص سليم) رغم ما ثبت لاحقًا من نجاعته في مقاومة المرض، لكن كل ذلك لم يجعل أستروك مسهمًا في تجديد الطب على نحو كبير مثلما فعل آخرون من أطباء عصره، ولم يكن لهذه الأبحاث، ولا للمراكز التي نالها السبب في تخليد اسمه، الذي تحقق له نتيجة ما كتبه في مجال آخر، بكتاب واحد صغير كان لبنة في تطور، لم يقصده، لعلم نقد الكتاب المقدس.

كتاب جان أستروك في نسخ جديدة



العهد القديم

كانت مقدمة الكتاب الذي وضعه أستروك لتعليم القابلات وتدريبهن للقيام بمهنتهن مؤشرًا على العالم الذي يلهم أستروك؛ فقد كانت استشهاداته بالعهد القديم في مقدمة كتابه الذي وضعه عام 1745 لتدريب القابلات دليلًا على تأثير العهد القديم في أستروك.

هذه السيرة المبهرة لأستروك أثرت في نوعية مرضاه؛ فكان أغلبهم من الأغنياء وأصحاب النفوذ، وكان يحضر مجالسهم التي يجتمع فيها الأدباء والكتاب والفلاسفة؛ أمثال: برنار ده فونتينل، وبيير دي ماريفو، ومونتسكيو.. وغيرهم.

لم يكن ما قدمه أستروك في مجال نقد الكتاب المقدس شيئًا كبيرًا، بل يمكن القول إنه كان نواة صغيرة، غير أن هذه النواة الصغيرة ظلت تنمو خلال العقود والقرون اللاحقة حتى تأسست عليها آلاف الأبحاث والدراسات حتى يومنا هذا.

ألف أستروك في عام 1753 كتابه:

 CONJECTURES SUR LES MEMOIRES ORIGINAUX Dont il paroit que Moyse s 'est servi pour composer le Livre de la GENESE,

"تخمينات حول الوثائق الأصلية التي يبدو أن موسى استخدمها في تأليف سفر التكوين"

كان الكتاب صغير الحجم، ولا يحمل اسم مؤلفه، وقد كتب عليه طباعة بروكسل، لكن الحقيقة أن الجميع كانوا يعرفون أن الكتاب قد طبع في باريس، وأن أستروك قد ألف الكتاب وهو في التاسعة والستين من عمره، وهو كتابه الوحيد في هذا المجال.

لقد أراد أستروك توظيف المعارف الحديثة التي كانت متاحة في عصره في القرن الثامن عشر ليرد على ما ذهب إليه فلاسفة سابقون شككوا في كتابة موسى للتوراة؛ فخلال القرن السابع عشر كتب توماس هوبز، وإسحاق لابيرير، وباروخ سبينوزا، عن التناقضات والمفارقات الموجودة في التوراة والتي دفعتهم للقول بأن موسى لا يمكن أن يكون مؤلف أسفار التوراة الخمسة (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية). كان ذلك يزعج أستروك حد الغضب، وقد أراد من كتابه الوحيد إثبات خطأ ما ذهب إليه هؤلاء الفلاسفة، وأراد التأكيد على أن موسى هو من كتب التوراة فعلًا. ولم يكن أستروك يعلم حينها أن تلك البذرة الصغيرة التي زرعها بيديه سوف تجد من يتعهدها لاحقًا لتورق على غير ما أراد زارعها.

انطلق أستروك من اعتقاده بأن موسى كانت لديه وثائق قديمة تضمنت الروايات التاريخية منذ بدء الخلق، وأن موسى قام بتقسيم هذه الوثائق حسب الأحداث التي تضمنتها، وأن سفر التكوين كله، والإصحاحين 1، 2 من سفر الخروج كتبهم موسى معتمدًا على هذه الوثائق.

كان طرح أستروك لنظرية الوثائق محاولة منه، لينقذ sauve فكرة تأليف موسى للتوراة، ولعله لم يكن من المصادفة أن حروف صيغة المضارع "sauve ينقذ" التي استخدمها أستروك مرارًا في كتابه المذكور، والمأخوذة من الفعل الفرنسي sauver بمعنى أنقذ، هي نفس حروف اسم بلدته التي ولد بها، والتي كان يعتز بالانتساب إليها.

كان أستروك يرى أن هناك أربع ملاحظات أساسية تدعم نظريته عن الوثائق التي طرحها: أولها تكرار الحدث الواحد أكثر من مرة (كقصة الخلق والطوفان)، ثانيها: التنقل بين اسمي الإله (إلوهيم/الله، يهوه/الرب)، ثالثها: تراجع هذا التنقل كثيرًا بدءًا من الإصحاح الثالث في سفر الخروج حتى نهاية التوراة؛ حيث لم يعد موسى معتمدًا على الوثائق القديمة لأنه كان يقدم روايته عن أحداث عاصرها بنفسه، أما آخرها فهو المفارقات المنتشرة في سفر التكوين الذي ركزت الدراسة عليه.

وقد حدد أستروك لنفسه وسيلة للتعرف على الوثائق، وفصل نصوص كل وثيقة عن الأخرى بالاعتماد على اختلاف اسم الإله؛ فجمع كل الفقرات التي تستخدم الاسم (إلوهيم/الله) في عمود لوحدها وأعطاه الرمز A واعتبرها أجزاء تنتمي للوثيقة الأولى، وفي عمود مجاور جمع الفقرات التي تحمل الاسم (يهوه/الرب) وأعطاها الرمز B، واعتبرها تنتمي للوثيقة الثانية، لكن أستروك وقف عند بعض النصوص كقصة الطوفان والتي تتكرر فيها نفس الأشياء ربما ثلاث مرات دون وجود اسم الإله فيها، فلم يستطع وضعها مع العمودين السابقين، وبالتالي وضع مثل هذه النصوص التي لا تتضمن اسما للإله في عمود ثالث وأعطاه الرمز C، كما وجد نصوصًا لا يرد فيها اسم الإله، وتروي تفاصيل لا تتعلق بتاريخ "الأمة العبرية" وهذه وضعها في عمود رابع أعطاه الرمز D.

بالنسبة للوثيقة D فإن أستروك لم يرفض احتمالية انقسامها إلى عشر وثائق فرعية صغيرة، تعود إلى الشعوب التي كانت مجاورة لبني إسرائيل، ويزعم أستروك أن لغة هذه الشعوب كانت العبرية، وأن هذا ما سهل لموسى استخدام هذه الوثائق، وفي نفس الوقت لم يرفض أستروك احتمالية أن تكون كل وثيقة من الوثيقتين A، B تعود في الأصل لأكثر من وثيقة تصادف أن استخدم كاتبها نفس اسم الإله.

واعتقد أستروك حينها أن نظريته هذه قد حققت أربعة أمور مهمة في إطار الهدف الذي كان ينشده بالدفاع عن تأليف موسى للتوراة؛ أولها: أنها قدمت لنا سببًا للمناوبة بين استخدام اسمي الإله (إلوهيم، ويهوه)، وثانيها: أنها فسرت لنا سبب تكرار بعض الروايات في سفر التكوين، وأن ذلك عائد لوجود أربع وثائق مختلفة، وثالثها: أنها حلت مشكلة عدم انضباط الرواية التاريخية، وآخرها: أنها برأت موسى من أي إهمال أو خطأ موجود في سفر التكوين، لأن ذلك مرده إلى الكاتب أو الكتاب الذين كانوا مهملين عند مزجهم النصوص التي وضعها موسى في الأعمدة الأربعة.

يوهان جوتفريد أيخهورن (1752 – 1827)، الأستاذ بجوتنجن، قام بتطوير أفكار أستروك



لقد قام موسى إذًا بترتيب هذه الوثائق في أربعة أعمدة جنبًا إلى جنب؛ حيث وضع على أقصى يسار الصفحة الوثيقة التي تستخدم اسم الإله إلوهيم/الله والتي رمز لها بالرمز A، والتي تستخدم الاسم يهوه/الرب والتي رمز لها أستروك بالرمز B على أقصى يمين الصفحة، أما الوثيقتان التي رمز لهما بالرمزين C، وD، فوضعهما في منتصف الصفحة، وطبقًا لنظرية أستروك فإن موسى رتب الوثائق الأربعة جنبًا إلى جنب في الأعمدة الأربعة كما هو موصوف، إلا أن يدًا متأخرة هي من قامت بنسج رواية واحدة من الأعمدة الأربعة.

وعلى الرغم من هذا الهدف الذي أعلنه أستروك، والذي ظن حينها أنه تمكن من تحقيقه، إلا أن ما شهدته النظرية، التي أوجدها هو، من تطورات لاحقة سارت في طريق مغايرة لأهداف أستروك تمامًا، وإن كان أستروك قد كتب كتابه ليقف به في صف الدين والكنيسة في مواجهة المفكرين الأحرار، فإن الحقيقة أن جهده هذا سار في الاتجاه المعاكس، وإن كان بغير قصد.


أستروك وألمانيا

لم تكن أفكار أستروك لتجد اهتمامًا كبيرًا في فرنسا، بحكم مذهبها الكاثوليكي، ولذلك فإن انتقال أفكاره إلى ألمانيا، أدى لاهتمام عدد كبير من الأساتذة الألمان البروتستانت الأكثر انفتاحًا على دراسة الكتاب المقدس بالطرح الذي قدمه أستروك، ومن ثم تطورت أفكاره هناك.

في بداية الأمر تلقى بعض الباحثين الألمان الطرح بشيء من الاستخفاف، وعلق يوهان دافيد ميخائيليس (1717 – 1791)، الأستاذ في جوتنجن، وهي واحدة من أعرق الجامعات في تخصص دراسات العهد القديم، على الطرح بقوله "هذه ثمرة عدم القراءة بشكل كاف قبل الشروع في الكتابة"، لكن يوهان جوتفريد أيخهورن (1752 – 1827)، الأستاذ بجوتنجن، قام بتطوير أفكار أستروك لدرجة أن أستاذه ميخائيليس تراجع عن رأيه السابق الذي كتبه من قبل، مع تأكيده على أن أيخهورن تمكن من تطوير هذه الأفكار وعرضها بشكل أفضل بكثير مما قدمه صاحبها الأصلي؛ حيث أخذ النظرية إلى مستوى أكثر عمقا بتحليله لهذه الوثائق لغويًا وأسلوبيًا، وتأكيده على أن الأمر لا يتعلق باختلاف اسم الإله فحسب، بل باختلاف شخصية كل وثيقة من الوثائق عن الأخرى، كل هذا قاد أيخهورن إلى توسيع النظرية التي كان أستروك قد قصرها فقط على سفر التكوين، لتشمل التوراة كلها.

كان أستروك قد قدّم ملاحظة عارضة، أو احتمالًا إضافيًا في كتابه حين قال "ليس هناك ما يمنع فرضية أن يكون هناك أكثر من وثيقة كانت تستخدم اسم إلوهيم/الله". هذه الاحتمالية أخذها عالمان ألمانيان آخران هما كارل دافيد إلجن (1763 – 1834) وهرمان هوبفيلد (1796 – 1866) وقسّما الوثيقة التي استخدمت الاسم إلوهيم إلى وثيقتين أو مصدرين، وأصبح الاثنان من ممتدحي أستروك، فوصفه إلجن بقوله "الطبيب الذي يمتلك أفكارًا رائعة في مجال دراسات العهد القديم، مثلما يمتلكها في مهنته"، ووصفه هوبفيلد بقوله "لم يكن شخصًا متخصصًا، لكن ذلك لم يمنع كونه مفكرًا يتمتع بمواهب نقدية حقيقية".

أخذ يوليوس فلهاوزن (1844 – 1918) النظرية إلى مستوى جديد، حين تتبع فكرة تطور التشريعات، أو ما يعرف بنظرية تاريخ الأدب



وعلى الرغم من بعض نقاط الضعف في نظرية أستروك؛ مثل عدم تقديمها أي إجابة عن عدة أسئلة مثل: كيف انتقلت هذه الوثائق إلى موسى عبر أجيال سبقته؟ ومن الذي كتبها؟ وكيف كانت مكتوبة ولم تكن الأبجدية معروفة بعد في ذلك الوقت؟ فضلًا عن افتراضه الخاطئ بأن العبرية كانت لغة سكان المنطقة حينها. كل هذه النقاط وغيرها لم تمنع من تطور النظرية لاحقًا، وظهور نظريات تفرعت من الطرح الذي قدمه أستروك، وما يهمنا منها هنا هو ما قام به الباحث الألماني و. م. ل. دي ڤته (1780 - 1849) حين اعتبر أن سفر التثنية ينتمي لمصدر قائم بذاته وسماه المصدر التثنوي نسبة إلى اسم السفر، محددًا تاريخه بنهاية القرن السابع ق. م. على أساس أن الإصلاحات الدينية التي قام بها الملك يوشياهو، الذي حكم مملكة يهوذا في نهاية القرن السابع ق. م، تتوافق تمامًا مع نصوص هذا السفر ومواده القانونية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها التأريخ لأحد المصادر بتاريخ دقيق إلى حد كبير، وهي الخطوة التي سيكون لها دور كبير في التأريخ لبقية المصادر فيما بعد. وبخطوة دي ڤته أصبح الحديث عن ثلاثة مصادر، مع الوضع في الاعتبار احتمالية انقسام المصدر الذي يستخدم اسم الإله إلوهيم إلى مصدرين حسبما ذهب إليه هوبفيلد، ما يعني أننا كنا أمام أربعة مصادر دون أي تحديد لترتيب ظهورها تاريخيًا، باستثناء المصدر التثنوي الذي حدّد تاريخه بشكل دقيق إلى حد بعيد؛ وهذه المصادر هي: المصدر الذي يستخدم اسم الإله يهوه، ثم الذي يستخدم الاسم إلوهيم والذي ينقسم، وفق ما طرحه هوبفيلد، إلى مصدرين، ثم المصدر التثنوي.

فيما بعد جاء كارل هينريش جراف (1815 – 1869)، متأثرًا بإدوارد رويس (1804 – 1891)، وقام بفصل المادة القانونية عن المادة التاريخية في المصدر الذي يستخدم الاسم إلوهيم، وأطلق اسم توراة الكهنة (الذي سيسمى المصدر الكهنوتي لاحقًا) على المادة القانونية، لنصبح، وبشكل واضح هذه المرة، أمام أربعة مصادر. ثم جاء يوليوس فلهاوزن (1844 – 1918) الذي أخذ النظرية إلى مستوى جديد، حين تتبع فكرة تطور التشريعات، أو ما يعرف بنظرية تاريخ الأدب، متأثرًا هو الآخر برويس، مع تطويره لها حتى فاق أستاذه، وقام فلهاوزن بوضع تصور لتسلسل هذه المصادر الأربعة تاريخيا معتمدًا على تأريخ دي ڤته للمصدر التثنوي بنهاية القرن السابع ق. م. فاعتبر اليهوي الذي يستخدم اسم الإله يهوه أقدمها ويعود للقرن العاشر أو التاسع ق. م.، وتلاه المصدر الإلوهيمي ويعود للقرن التاسع أو الثامن ق. م، ثم التثنوي في نهاية القرن السابع ق. م.، وأخيرًا المصدر الكهنوتي بعد السبي البابلي في القرن السادس ق. م. وقد قادت جهود فلهاوزن وجراف إلى أن سميت النظرية فيما بعد باسميهما، وإن كان البعض قد سماها باسم فلهاوزن، وهو العالم الأشهر في مجال النقد المصدري للعهد القديم.

لم تتوقف نتائج ما طرحه أستروك من أفكار عند فلهاوزن وزملائه، ولا عند العلماء الذين وردت أسماؤهم في هذا المقال، فقد فتحت تلك الأفكار التي طرحها أستروك منذ ما يزيد عن قرنين ونصف القرن الباب واسعًا، من حيث لا يدري، أمام تطوّر علم دراسات العهد القديم، وتحولت نظرية الوثائق Documentary hypotheses بمجهودات العلماء إلى أن أصبحت واحدة من أهم مدارس نقد العهد القديم المسماة بالنقد المصدري Source Criticism والتي ما تزال الدراسات تصدر حولها، ويتم تحليل نصوص العهد القديم من خلال منهجها.

صحيح أن نظرية أستروك لم تنجح في إثبات أن موسى هو من كتب التوراة، مثلما خطط صاحبها، وصحيح أيضًا أنها قادت إلى عكس الهدف الذي رسمه، لكنها أثبتت أن التراكم قيمة علمية كبيرة في حد ذاتها، وأن كل نظريات العلم بدأت من شيء صغير، وأن ما أنتجته البشرية في كل المجالات لم يبدأ إلا طرحًا بسيطًا، وأثبتت كذلك أن بعض الناس ربما ارتبط مصيرهم ونجاحهم وشهرتهم بتغيير مجال تخصصهم، وذلك على عكس ما قال غوته.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.