}

في الحاجة إلى مُريد ورضوى.. عن المثقف النقدي الشجاع

نبيل سليمان 15 مارس 2022
استعادات في الحاجة إلى مُريد ورضوى.. عن المثقف النقدي الشجاع
رضوى عاشور ومريد البرغوثي

 

في الرابع عشر من شباط/ فبراير الماضي، أي في عيد الحب، كانت الذكرى الأولى لرحيل الشاعر الصديق مريد البرغوثي عن سبعة وسبعين عامًا. ومنذ ذلك اليوم لا تفتأ أطياف مريد تتلامح لي من حين إلى آخر، وبالطبع لم تغب عن لقاءٍ لنا الروائية والناقدة الصديقة رضوى عاشور (1946- 2014).

لا بد أن مريد اختار يوم رحيله عامدًا كي يوافي رضوى في عيد الحب بعد فراق أضناه وتطاول سبع سنوات. لكأني بهما الآن في العناق الأبدي لعاشقين وصديقين وزوجين وأبوين ومبدعين وناشطين في الشأن العام. والحق أنني لم أعرفهما يومًا إلا في ذلك العناق، وربما كان ذلك ما جعلني أعجز أو أجبن من أن أعزي مريد برضوى، بل ومن أن أعزي تميم، الابن والشاعر والصديق والناشط، برضوى ومريد.

أحييت الذكرى الأولى لرحيل مريد (عيد الحب 14/2/2022) بالقراءة في كتابه (روايته/ سرديته/ سيرته) الثاني: (ولدتُ هناك، ولدتُ هنا). وها أنا اليوم ألهج بهذه السطور منه: "تحت الاحتلال تهتز مشاعر الإنسان بالسرور الحقيقي لمجرد حصوله على أنبوبة بوتاغاز أو ربطة خبز أو تصريح مرور أو مقعد في الباص، يفرح لوجود حبة الضغط في الصيدلية ولوصول سيارة الإسعاف قبل أن يموت مريض يخصه".

عن أي بلد عربي غير فلسطين يتحدث مريد؟

دعوا السؤال يحوّم حيث يشاء، ويحط حيث يشاء، ولنتابعْ في الكتاب نفسه قول مريد: "في الديكتاتوريات، أفضلُ الصناعات الوطنية وأكثرها إتقانًا ومتانة وتغليفًا وسرعة في التوصيل إلى المنازل هي: صناعة الخوف".

كانت الديكتاتوريات – بالجمع وليس بالمفرد – أول ما وصل بيني وبين مريد. وأول الحكاية أنني كنت قد قرأت لمريد قصائد (الصنم) في مجلة (القاهرة) المحتجبة التي كان يديرها بامتياز غالي شكري. وقصائد الصنم هي ما سيضمها ديوانه (ليلة مجنونة - 1996). والصنم أصنام ليست إلا الديكتاتوريات، حيث الصنم/ الديكتاتور ليس فقط ذلك الرئيس أو هذا القائد، وليس فقط المشير أو المهيب أو الملهم أو الأمين العام للحزب.. ولئن بدا الصنم في قصيدة (الرحيم) عاديًا – وربما لأن القصيدة عادية – فها هو في قصيدة (المشورة) ذلك الصنم الرخامي الحيران الحزين الخائف الذي قالت له عرافة أعجمية: "ستموت، إن لم تستشر أحدًا". وقد تفاءل الناس بذلك، لأنهم سيُمنحون أخيرًا فرصةً للنطق بين يدي الديكتاتور لأول مرة منذ ألف عام "فإذا بسيدنا الصنم/ يستلّ مرآة ويرفعها/ وينظر.. ثم يسألها فتنطق/ بالمشورة/ ثم يشكرها/ ويكسرها/ مخافة أن يعوّدها حق الكلام"!




تصل قصيدة (الصنم الحزبي) بين اليوم وبين قراءتي الأولى لها قبل ثلاثين سنة تقريبًا، عندما تراءى لي أنها صورة لخالد بكداش (1912 - 1995)، الأمين العام للحزب الشيوعي السوري منذ 1932 حتى وفاته. أما اليوم فقد تكاثر من هي القصيدة صور لهم، حيث واحدهم: "يتناول أدوية الشيخوخة/ ويبدل سماعة الأذنين/ ليلقط أي دبيب يدنو من منصبه"، وحيث واحدهم يحمل الكرسي بمساعدة حارسين إلى البيت "ويحطّ أصابعه اليمنى فوق الكرسي ويمسكه مغتبطًا وينام".

ومن قصيدة (المفسر) أذكر: "صنمٌ مسبحة من اليسر المتوج بالذهب/ متربع في فرو خاروف/ ويشرح ما يريد من الكتاب/ في عينه ورع/ ولكن عينه الأخرى/ تهيؤنا ولائم للذئاب". ولم ينس مريد رجال الصنم الذين يعرفون في هذا الزمن بالبلطجية أو الشبيحة. ولأن واحدهم يتشبه بمولاه، سماه مريد (صوينم) وكتب: "صنم يربي كالدجاج صوينمات ثم يطلقها علينا". وكتب: "وسلالة الأصنام تولد هكذا/ صنم يحنّ على صنم/ يسوقنا الاثنان في زهو/ إلى قفص المخافة/ كالدجاج".

حين قرأت قصائد الأصنام أسرعت إلى الكتابة إلى مريد، ولم نكن قد التقينا من قبل. وأفترض أن رسالتي محفوظة في أرشيفه. أما رسالته الجوابية، فقد عدت إليها في الذكرى الأولى لرحيله، وها أنا أشارك القراء والقارئات بها:

***

القاهرة 24/6/1995

"أخي نبيل:

محبة

عدت من عمّان لأجد، من بين الرسائل التي تنتظرني هنا، في القاهرة، رسالتك المؤثرة، وكانت أجمل ما في بريدي على الإطلاق. إن كاتبًا مبدعًا مثلك وله ذائقتك المتميزة والمجربة، إذ يمنحني هذا الاهتمام ويقرأ لي نصًا بهذا الاعتناء، إنما يقيدني بكرم واسع إلى جانب أنه يطمئن المرء على جدوى مهنتنا التعيسة وجدوى انتظار قارئ لعملنا، فما بالك إذا كان "القارئ" هو "الكاتب" نبيل سليمان؟

امتناني لا حدود له وأرجو أن تتقبّل اعتذاري عن عدم الرد مبكرًا على رسالتك – المُعَنوَنة: - فلم أرها إلا بعد مجيئي للقاهرة، وأرجو أيضًا أن تعلم أنك غمرتني بحماسك لقصائد الصنم بحيث بتُّ أتساءل إن كنت أستحق حقًا أن أعزو للقصائد فضل تأثيرها على نفسك، ولعل الظن يذهب بي إلى أن تماثل الشواغل بيننا، والوجع المقسوم بالتساوي في قلوبنا، ووطأة الدنيا ذاتها أضافت للقصائد ما أضافت، إن طريقتك في قراءتها هي الشيء الثمين الذي يهمني، في زمن أصبح الكثير من الناس يقرأ النصوص الأدبية في استعجال المسرع إلى محطة.

وفي رسالة قادمة أيها العزيز سأحدثك عن "مدارات الشرق" التي أتحفز لقراءتها في اكتمالها، إنني عشت تبعثرًا جغرافيًا لا يوصف ويطول شرحه، وطالما أنني وعدت نفسي باختراع "المجال الحيوي" الضروري للتفرغ لها ولا ينوبني دائمًا إلا ما ينوب شهوة السفن.

أما رضوى، فمنذ انتهائها من "غرناطة" وهي تعمل على جزئيها الثاني والثالث، وأخيرًا، ومنذ أيام فقط سلّمتهما لدار الهلال.

وبعد تصحيح البروفات المترافق مع تصحيح أوراق الامتحانات يمكنك محاسبتها دون أن يدافع عنها "أحد" إذا واصلت تقصيرها معك، ولا يغفر لها حتى الآن إلا أنها معترفة بهذا التقصير بلا لف ولا دوران!

وسأترك لها المساحة المتبقية "من شان تدبر حالها معك"...

أكرر لك شكري.

يا نبيل، إن رسالتك لي شكل من أشكال الكرم".

****

حين قرأت قصائد الأصنام أسرعت إلى الكتابة إلى مريد، ولم نكن قد التقينا من قبل. أما رسالته الجوابية، فقد عدت إليها في الذكرى الأولى لرحيله، وها أنا أشارك القراء والقارئات بها



ترك مريد لرضوى النصف الثاني من الصفحة الثانية من رسالته، وها أنا أشارك القراء والقارئات بها:

***

"العزيز جدًا نبيل

زادتني رسالة مريد إحساسًا بالذنب وها أنا أضع جانبًا القلم الأحمر الذي كنت أصحح به أوراق الامتحانات لأكتب لك. إنني آسفة جدًا على عدم الكتابة لك طوال الفترة الماضية. والحق أنني لم أتجرأ على الكتابة قبل الانتهاء من قراءة "مدارات الشرق"، ولم أنته من قراءة رواياتك لأنني كنت موزّعة – كالمعتاد – بين التزامات عملي في الجامعة ومحاولة إتمام ثلاثية غرناطة.

تقصيري فادح، أعرف، ولكني أطمح في كرم أخلاقك!! ولعلك لو رأيتني الآن تسامحني بل تشفق عليّ، وأنت تراني محاصرة بالمئات من كراريس الإجابة التي يتعين عليّ تصحيحها في مثل هذا الشهر من كل عام. (هل تصدق أنني قمت بذلك طوال الـ 27 سنة؟!) لو أسقطنا حاجز الزمان لرأيتني جالسة بين أعمدة من أوراق الإجابة ترتفع إلى السقف وتتجاور متلاصقة، ولا تترك من الفضاء سوى حيّز ضئيل تجلس فيه رضوى بنظارتها وقلمها الأحمر!!

كن بخير، مع محبتي رضوى"

***




ليست أطياف أول الحكاية ما تلامح لي في ذكرى رحيل مريد فقد رأيته – ها هو – يرغط في دير غسانة أو في ثانوية رام الله أو في جامعة القاهرة، طفلًا وفتى وشابًا وشاعرًا يغمرني ديوانًا إثر ديوان: (زهر الرمان) هذا أم (رنة الإبرة)؟ و(فلسطيني في الشمس) هذا أم (منطق الكائنات).

ها هو مريد المثقف النقدي الشجاع والصلب، مريد (رأيت رام الله) ومريد (ولدت هناك، ولدت هنا)، مريد الذي ستظل قولته تتحداني كما تتحدى – فيما أظن – الكتاب: ألا تساوي متعة الحذف متعة الكتابة؟ هل تستمد الكتابة قيمتها إلا من المحذوف...؟

ها هو مريد العاشق، وها هي رضوى العاشقة، ها هو بيتهما ينفحه عزف تميم على العود بأسرار الشعر والغناء والموسيقى والألفة.

ها هي رضوى في احتفالية دمشق بالذكرى العشرين لاستشهاد غسان كنفاني، والتي نظمتها الجبهة الشعبية، وتتوسطنا: نصر حامد أبو زيد وبوعلي ياسين وأنا، تهديني رواية (حجر دافئ) فتغمرني الآن أطياف روايات (غرناطة) و(مريمة) و(الرحيل) و(الصرخة) و(خديجة وسوسن) و(أثقل من رضوى). رضوى الأستاذة ورضوى الناقدة ورضوى (الطالبة في أميركا) ورضوى (الطريق إلى الخيمة الأخرى)، ورضوى الفلسطينية كما المصرية ورضوى... لكنه الرحيل، الفقد، بينما سورية تزلزل زلزالها، وتخرج أثقالها، بل العالم كله يزلزل زلزاله ويخرج أثقاله، والحاجة إلى الصداقة تجأر.

 

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.