}

عن تحوّلات القمح.. لونُ وجوهنا الذي ضيّعناه

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 23 أبريل 2022
استعادات عن تحوّلات القمح.. لونُ وجوهنا الذي ضيّعناه
القمح

لم تعد حبوب سنبلةٍ تجفُّ تملأ الوادي سنابل. قد تفعل إنْ قرر البنك الدوليّ ذلك.
القمح؛ زاد الشعراء وموّال الحصادين، مرّ في بلادنا العربية، على وجه العموم، وبلاد الشام على وجه الخصوص، بتحولات كبرى، وتجلى بوصفه شاهدًا على كل شيء: الصعود والهبوط، الأصالة والمعاصرة، الاستقلال والاستلاب، الخصب والجفاف، الوفاء للأرض، أو إدارة الظهر لها.
حرب روسيا على أوكرانيا أعادت موضوعه للواجهة، وقصته للعلن، وموسمه للتأمّل العميقِ قراءةً في تحوّلاته، وتدبّرًا في سرديته، وسفرًا في مسيرته.
في سياق كل ذلك، فإن الحقيقة التي يصعب طمسها، أن الأمر لا يتعلّق بتحوّلات القمح، بل بتحوّلاتنا نحن أبناء حنطته، فهو ينزرع لنا حين ننثر في الحقل بذوره، وتتوارى انحناءة سنابله حين نتخلّى عن أسبقيّتنا حوله.


لون بشرتنا..
في هويّات أيام زمان، كانت تُسجَّل مواصفات حامل الهوية على النحو الآتي:
- لون الشعر: خرّوبي.
- لون العينين: عسلي.
- لون البشرة: حنطاوي.
وأكاد أجزم أن من كانوا يشذّون عن هذه المواصفات، لا يتعدّون، في الأردن على سبيل المثال، أصابع اليد الواحدة. جميعنا، من دون استثناء، كنّا نحمل هذه المواصفات. جميعنا، بجرّة قلم تعداد النفوس، لون عيوننا عسليّ، وشعرنا خروبي، ووجوهنا حنطاوية. فهل الأمر، هنا، من دون معنى؟ لا بد أن الموظف قبل أن يصل إلى مرحلة كتابة هذه المواصفات، من دون حتى أن ينظر في وجه من تُكتبُ له، كان قد جرّب أن يفعل وينظر ويقلّبنا، فإذا بالتشابه يكاد يشمل الجميع، وإذا بنا أولاد قمح حوران وما حولها، نحمل لون المحصول الزراعيّ الذي سبقْنا باقي الحضارات باستئناسه وتدجين عنفوانه وكشف أسراره: قمحاويون بالوراثة. وعلى مرّ آلاف السنين التي تعانقنا وتعالقنا فيها مع القمح بوصفه عنوان وجود، وتقرير مصير سنويّ؛ فإن جاء الموسم وافرًا زوّجنا الأولاد، وسدّدنا الديون، ولحّفنا المخدات، وجدّدنا بعض عناوين الحياة، وإلا فإنّ شُحَّ الزيت في القنديل سيصاحبنا عامًا من انتظار موسمٍ أبرك، صار القمح لوننا وصرنا بلاده.
لا بل هو صار، على مرّ الدهور، هويتنا، وليس لون وجوهنا فقط. فإذا بالأهازيج تتوزّع بينه وبين زيتون بلادنا، وكذا قصائد الشعراء، والأمثلة الشعبية، ومواويل المساء.


فرادةُ القمح..
من بين محاصيل الحقول جميعها، يملك القمح خصوصية لا ينافسه فيها محصول حقليٌّ آخر، لا من محاصيل الحبوب، ولا البقوليات، ولا الأعلاف، ولا المحاصيل السكّرية، ولا أي شيء. فرادةٌ منحته ما يشبه القداسة التي توارثناها عن أجدادنا وبُناة حضاراتنا المتعاقبة، في حوران، وحوض الفرات، وما بين النهرين، ومصر، وفلسطين، وغيرها من مناطق شرقنا الملفوح مثلنا بحنطة الأرض وشمس القمح. فإذا به يصير مجدًا يجري على لسان الناس، وتنزل محمّلة باسمه الآيات: "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة، الآية: 261). ويصير منتوجه الأهم: الخبز، صلاة الصابرين: "أعطنا خبزنا كفاف يومنا" (الصلاة الربيّة). إنه المنتوج الذي ذكرت الأناجيل أن يسوع كثّره للجائعين مرّات ومرّات (متّى ويوحنا).
فرادةٌ في الشكل والمحتوى، في المبنى والمعنى. في حبته ذات الفلقة الواحدة، وحبّته ذات الفلقتيْن. في قصائد الشعراء، وفي أمثال الناس. في لونه حين إيناعه يلمع على امتداد الحقول كأنه سبائك الذهب، وفي وعده محتاجيه أن مناجلهم لن تذهب ضرباتها سدى. وكما الشجر الذي يرميه الناس بالحجارة ويرميهم بالثمر، كذلك القمح الذي يقطع الحصادون حبل وصال سنابله بالأرض، ومع ذلك يكمل معهم، بالصبر والرضى، باقي مسيرة ما بعد نضج حبّاته وانتفاخها وتمايل السنابل بها مثقلة بحملها؛ من الحصاد مرورًا بالتجفيف، ثم التجرين (نقل المخزون إلى مكان حفظه الذي يختلف اسمه من بلد عربي إلى آخر، ويسمّى في مصر باسم الجرن)، ثم الدراس، أو الغربلة، ثم نقل أكياس القمح أخيرًا، وتخزينها في الصوامع، أو الخوابي، أو الأهراءات، بحسب اختلاف اللهجات، وصولًا، بعد الغربلة والتنقية وفصل الزوان، إلى مرحلة الطحن وتحوّل القمح إلى طحين. وفي البال هنا الطاحونة، أو المطحنة القديمة (البابور بحسب لهجة أهل الشام، وهو غير وابور مصر المقصود به باللهجة المصرية القطار: "يا وابور قلّي رايح على فين").




فرادةٌ يغنّي لها الفلاحون كل موسم: (عمره ما يخلف مواعيده يا رب تبارك وتزيده..) التي غنّاها، لاحقًا، محمد عبد الوهاب بتغيير طفيف في بعض الكلمات: "القمح.. الليلة ليلة عيده، يا رب تبارك وتزيده"، أو:
"منجلي يا أبو رزة
وشو جابك من غزة
جابني حب البنات
والخدود الناعمات".

أو ما كانوا يرددونه أثناء الغربلة، وبما يقع في منطقة ملتبسة بين الأمثال الشعبية والغناء: "بخاف أهزك يا غربالي، ليسقط كل حبيب وغالي".
القمح لم يكن مجرّد حبوب محصول والسلام، بل كان مقياس الفلاحين السنويّ لِمدى تحكم الإقطاعيّ بهم، واستغلاله طاقتهم وأرض أجدادهم التي كان يضع يده عليها بطرق يعجز عنها الشيطان شخصيًا، ليحوّل كل أفراحهم بموسم حصادهم وبركاته وخيره إلى مقايضة غارقة بالضحك حتى البكاء:
"هبهبوا يا هبهبوا وجه الحلة ما أطيبو
المعلم عرّش عرّش من كثر الأكل كرّش
يا معلم حلنا ولّا بنهرب كلنا
يا معلم حلنا وعلى الحلّة حلنا
ومن زخيخات العرق حتى منا انْدَلَق".


ذاكرة شفوية..

استراحة حصادي القمح 


شكّل القمح، وفق السياقات أعلاه جميعها، ذاكرةً جمعيةً وجدانيةً شفويةً توارثها أهل بلادنا كابرًا عن كابر. فزعة الناس لبعضها، وعونتها التي لم تكن تحتاج أي تعاونية رسمية، أو جمعية أهلية. وهو ظلَّ نبراس إيمانها الراسخ أن الرزق من عند الله، وأن وفرة موسم، أو مَحْلِ آخر، هي تقادير، من دون إهمال قيمة السعي والكدّ وعدم التواكل، أو الكسل، فللقمح مواقيت لا يجوز عدم التقاط أجراسها الدقيقة، أو الفشل في لمحها لحظة أوانها.
مستحضرًا تلك الذاكرة الجمعية، يورد الكاتب الفلسطيني يحيى يخلف في روايته "نهرٌ يستحمّ في البحيرة" (1997)، مشهدًا يصف فيه نزول الحصادين من جبال سكناهم ومرتفعات إقامتهم، وتحضرهم لموسم الحصاد، منشغلين بمهام أخرى، لِحين موعد سنابلهم الدقيق، ليحلو السهر ويلعلع الغناء:
"كان الحصادون القادمون من المناطق العالية يهبطون باكرًا في مطلع الصيف ليعملوا في جزِّ الصوف، في انتظار أن تنضج السنابل.. وفي ليالي الحصاد كان يحلو السمر والسهر والغناء والمواويل والأوف والمعنّى والشروقي والزجل" (الرواية صفحة 99 وصفحة 100).
إنها الذاكرة الشفوية نفسها التي جعلت الأديب السوري، عيسى الشيخ حسن، يتذكر تفاصيل الموسم المحفورة عميقًا داخل غرف روحه، وداخل حروف كتابته.




في هذا السياق، يخبرنا حسن عن وَلَعِ رَبْعِهِ شرق الفرات (دير الزور، والرقّة، والحسكة) بالقمح والحنطة، ورهانهم في كل شيء عليه، وعن مرثية كان يردّدها الكبار والصغار اسمها "مرثية حسن"؛ الشاب الجميل، والجنيّة التي تتخفّى في "قرص الحنطة":
"حسن ضيّع دبّوسو/ قام يلبلب عروسو/ عروسو بنتَ عمّو/ شربت حفنة من دمّو/ دمّو دم الحَصَاني/ آخ يا عروگ لساني/ شدوا لي على حصاني/ لانْحر هلي وعمامي/ وعمامي شرجي وغربي/ ومناحرين الوردِ/ وهمّو والورِد همّو/ همو گصيرة عمو/ ألفلفها واطويها/ واطلع شبابـ ن بيها/ واطلع بنيّة بطة/ تلعب بكريص الحنطة.

يواصل عيسى استذكار مختلف متعلّقات القمح في شرق الجزيرة قائلًا: "يسمّي الفلاحون القمح (الحبّ)، ويسمّون الخبز (النعمة). وتروي الشفاهيات القريبة من الأساطير عواقب إهانة الخبز،  أو رميه على الأرض، وكثيرًا ما رأينا أولئك الكبار يقبّلون قطع الخبز اليابسة المرميّة على الأرض، ويرفعونها كي لا يدوسها أحد، متبوعة بعبارة: "أستغفر الله". وفي روايتي "العطشانة"، التي تصوّر جانبًا من المجتمع السوري الفراتي عام 1968، رصدتُ بعض الأغاني التي كان يغنيها الأطفال، مثل "لعبة حمل الزميل"، وينشد فيها الأولاد: "كيل حنطة/ كيل شعير* بيش تعبّي/ بالزنبيل". ولعلّ القارئ يلاحظ أن مكاييل القمح كانت معروفة حتى عند الأطفال، لأنها أداة المقايضة مع الباعة المتجولين الذين يبيعون الفاكهة بمقابل القمح".
ذاكرة خصبة من خصب موسم الحصاد المأمول، شحنت بوفرة محمولها ودلالتها، الكاتب الفلسطيني حسن حميد، فإذا به يرسم لنا في روايته "النهر بقمصان الشتاء"، صورة اجتماعية جمعية لطيفة تكشف عن عادات الناس في فلسطين، وطقوسهم في بعض المواسم، يظهر ذلك عند حديث السّارد عن الطاحونة التي تقع قرب النهر في قرية الشماصنة؛ إذ يصف مجيء الناس إليها بقوله: "تقع الطاحونة في أخفض منطقة من محيط النهر... وتبدأ عملية الطحن.. تأتي النساء بالحمير والبغال والكدش، وقد علت ظهورها أكياس البرغل والقمح... ويطحن القمح والبرغل.. كما توجد ثلاث معاصر للزيتون". (الرواية ص 120).
موغلٌ في الوجدان والشعر والطقوس والمواسم قمح بلادنا. منثور فوق قبور أجدادنا. متناسلٌ من "منجلي يا مين جلاه". ملفوح بالشمس وقت الدراس. طالع من مواويل التعاونٌ والتعاضُد: "كثرة الأيادي في الحصيدة بركة.. وأهل المعونة رافعين المونة، عونة وإلا راعونة".


أمن القمح..

حاصدة قمح فلسطينية


يرتبط القمح، أكثر من أي محصول آخر، بالأمن الغذائي للدول والكيانات، هذا ما أدركه العالم (خصوصًا في قطبيْه: روسيا وأميركا) على غفلة منّا. ورغم أهميته الجذرية الحاسمة، إلا أنه شهد في بلادنا تراجعًا مؤسفًا يثير الريبة والوجع في آن.




المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة "إيكاردا"، وعلى لسان ممثله في فلسطين، المهندس الزراعي عبد الله العمري، يورد في سياق استعراضه وضع القمح في فلسطين أيام زمان، ووضعها الحالي، أن فلسطين تنتج حاليًا "فقط 5% من حاجتها للقمح، إلا أن وثائق بريطانية رسمية تعود إلى حكومة عموم فلسطين، تشير إلى أن فلسطين كانت مصدّرة للقمح".
الأردن، بدورها، وبعد أن انتعشت زراعة القمح فيها أيام العهد العثماني، وأصبح المزارعون يأتون من فلسطين لزراعته، بتشجيع من الدولة العثمانية، التي سنّت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر القوانين لهذا الغرض. وبعد أن بلغ إنتاجها من القمح حدًّا أعفى حكوماتها المتعاقبة من استيراد أي كميات منه، بل وقامت عام 1965 بتصديره إلى مصر والسعودية. وبعد أن وصلت منتصف سبعينيات القرن الماضي مساحة الأراضي المزروعة قمحًا 2 مليون دونم. بعد كل هذا وذاك، عادت هذه المساحة وتقلصت في العقود التالية، حتى وصلت حاليًا إلى 250 ألف دونم، وذلك لأسباب متعددة، أهمها إغراق السوق الأردنية بقمح أميركي أقل كلفة، مما جعل زراعة القمح غير مجدية. لذلك يعتمد الأردن كليًّا، حاليًّا، على استيراد القمح.
أما الأرقام الأكثر بؤسًا فهي أن 50% من قمح مصر يأتي من روسيا، و30% منه يأتي من أوكرانيا. فما هو شعور المواطن المصري حين يخبره أحدهم أن فراعنته كانوا من أوائل سكان الكوكب استئناسًا للقمح وزراعته قبل آلاف السنين؟
قهرٌ ينتقل من بلد عربيٍ إلى آخر. في هذا السياق، يقول الأديب السوري، موسى رحوم عباس: "إنني أنتمي إلى منطقة قريبة من "تل المريبط" التاريخي الذي تؤكد الدراسات الأركيولوجية (الآثارية) أنه أول تجمع بشري في التاريخ، حيث وجدت البعثات الآثارية المتعاقبة فيه آثارَ القمح والشعير والتنور قبل الميلاد على كتف الفرات الشرقي.. يحزنني أننا بحاجة لشراء خبزنا من الآخرين، بل نقف ساعات للحصول على عدة أرغفة سيئة الصنعة. ترى هل يكفي الأمل في مثل هذه الكارثة؟ وهل سننتظر كل عام نزول المطر لنحصل على قوتنا؟ أم سيسرقه لصوص البلاد من أبناء جلدتنا ومناصروهم من كل حدب وصوب؟".
 

قصة القمح السعودي
للسعودية مع القمح قصة تستحق أن تُروى يوردها الكاتب داود عمر داود في مقال نشره له في أبريل/ نيسان 2020 موقع "عمّون"؛ ومفادها أنه عندما انهار الاتحاد السوفييتي، نهاية عام 1991، تحوّل وريثه، الاتحاد الروسي، من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي، فنتج عن هذا التحوّل كساد اقتصادي خطير، استمر لسنوات، فانتشرت حالة من العوَز والفقر، فقامت دول كثيرة بمد يد العون، من بينها السعودية، التي أرسلت، من ميناء جدة، باخرتين كبيرتين محمّلتين بالقمح السعودي. فكيف لدولة مثل السعودية، مساحتها 2 مليون كيلومتر مربع، وتشكل الصحاري جزءًا كبيرًا منها، ولا يوجد فيها أنهار أو بحيرات رئيسية، وتعتمد على المياه الجوفية، أن تساهم في إطعام شعب دولة عظمى مثل روسيا، الأكبر مساحة بين الدول، وفيها ربع المياه العذبة في العالم، وأكبر احتياطات الغابات والبحيرات؟
جواب السؤال هو السياسة الزراعية التي بدأت الحكومة السعودية باتباعها مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بإنتاج القمح، عندما شاعت مقولة، غير موثقة علميًا، أن المياه الجوفية في البلاد تعادل مصب نهر النيل. وفي غضون خمس سنوات، وصلت السعودية إلى حد الاكتفاء الذاتي والتصدير. وفي عام 1992، بلغ حجم إنتاج القمح السعودي أكثر من أربعة ملايين طن، ما يفوق حاجة البلاد بنسبة الربع. وكانت الحكومة تشتري كيلوغرام القمح من المزارعين بسعر تشجيعي بلغ ثلاثة ريالات، ما يعادل ستة أضعاف سعره العالمي، البالغ آنذاك، نصف ريال للكيلوغرام.
وفي عام 2008، وبعد ثلاثة عقود على بدء زراعة القمح في السعودية، شاعت مقولة أخرى غير موثقة علميًا أيضًا، عكس المقولة الأولى، تتحدث عن نضوب مخزون المياه الجوفية. وقد جاءت هذه المقولة في تقرير للبنك الدولي لم يكن يستند إلى أي دراسة جيولوجية دقيقة. وكان هذا الرأي كفيلًا بوقف زراعة القمح، بعد قصة نجاح دامت ثلاثين عامًا. وهكذا أصبحت السعودية تستورد حاجتها من القمح البالغة 3.5 مليون طن، بعد أن كانت تعتمد على محصولها المحلي، وتصدر الفائض.
نحن لا نتحدث عن التاريخ هنا، وعن تفاخر بعض أبناء جلدتنا به، ولن أكرّر ما سمعته منذ بدأت بحثي في القمح ومآلاته من عشرات الناس حول أن أهراءات روما كانت تنتظر قمح حوران، فإن جاد شعت تلك الإهراءات، وإلّا جاع الناس في الإمبراطورية العظمى. فلا شك بذلك وفق حقبة تاريخية مضت وانتهت، ولا شك أن فرنسا ودول أوروبية كثيرة كانت، حتى قبل أقل من مئتي عام ماضية، توقّت صناعاتها النسيجية على مواعيد قطاف قطن مرج ابن عامر، وأن إيطاليا وإسبانيا ودولًا أوروبية عديدة، كانت، حتى قبل أقل من مئة عام ماضية، تنتظر بلهفة برتقال يافا لتنافس بماركاته العالمية الأهم. نود أن نتناول اللحظة المتعيّنة التي يقول الكاتب حبش رشدي عنها في مقال نشرته له صحيفة "الوطن" القطرية: "عدد قليل من الدول العربية تحقق اكتفاءً ذاتيًا من القمح، ولكن دولًا عربية أخرى عُرِفت بأنها في الأساس دول زراعية، لا يكفيها إنتاجها من القمح، وتضطر سنويًا إلى استيراد القمح إمّا من الروس، أو الأميركيين، أو من دول أوروبية، فالعالم يطوِّر من اقتصاداته الغذائية، ويتفوّق في إنتاج القمح والحليب واللحوم والزبدة، حتى أن بلادًا صغيرة المساحة، كالدنمارك وهولندا، زبدتها وحليبها وجبنتها تدخل معظم مطابخ البيوت في العالم، بينما العرب، كل العرب، بإمكاناتهم الهائلة التزموا مقاعد المتفرجين، ولم يحوّلوا إنتاج الغذاء بأنواعه إلى هدف استراتيجي لا يجب تأجيله أو التهاون في إنجازه، في عالم تشهد بعض أصقاعه مجاعات وفقرًا وحروبًا وأزمات وكوارث".
إدراك الولايات المتحدة الأميركية لأهمية القمح في مساعي إدارات الدول لِتحقيق أمنها الغذائي، جعلها تلقي في البحر كل قمح قد يؤدي إلى خفض سعر منتوجها الاستراتيجيّ منه!
أما نحن فندرك وندفن رأسنا في الرمال، نعرف ونحرف، نشعر بالخذلان، فنلوذ بالشعر، نشعر في حضرته بقليل من قمحٍ كان لنا ثم صار علينا:
"خضراء أكتبها على نثر السنابل في كتاب الحقل، قوّسها امتلاءٌ شاحبٌ فيها وفيّ، وكلما صادقت أو آخيت سنبلةً تعلّمت البقاء من الفناء وضده، أنا حبّة القمح التي ماتت لكي تخضرّ ثانية، وفي موتي حياةٌ ما".
نسترجع الدرّاسين وأغنياتهم عن ياسين. نواصل الحنين إلى دمشق كانت تنقِّر العصافير داخل حاراتها ما نتركه لها من القمح في أيدينا.
وبعدما كنّا نرى لغتنا جميعها "على حبّة القمح مكتوبة، بإبرة أنثى، ينقّحها حَجَلُ الرافديْن" (محمود درويش)، صرنا عن حبّة القمح نبحث، تحت سرير الحاكمين، بين مزدوجيْن وقافية. يواصل قمح بلادنا تحوّلاته، ونواصل، بدورنا، قطف الكفاف من حقول العافية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.