}

كيف تناول أنطونين أرتو شخصية الإمبراطور هيليوغابال؟

جمال شحيّد جمال شحيّد 20 يوليه 2022
استعادات كيف تناول أنطونين أرتو شخصية الإمبراطور هيليوغابال؟
أنطونين أرتو وتمثال لهيليوغابال

 

من مفارقات التاريخ أن هذا الإمبراطور الحمصي الذي حكم 4 سنوات فقط ما بين 218 و222، كان فتى مراهقًا عاش 18 سنة فقط وكان ينتمي إلى عائلة سبتيموس سيفيروس (146-211) الذي تزوج عاهرة حمصية هي جوليا دومنا أم الإمبراطور كراكلّا (الذي حكم من 211 إلى 217)، وخلفه رئيس حرسه ماركوس ماكرينوس الذي قُتل بعد ذلك بسنة مخلفًا السلطة لهيليوغابال.

ما يهمني في هذا المقال هو كتاب "هيليوغابال أو الفوضوي المُتوّج" الذي نشره المسرحي والسينمائي السوريالي أنطونين أرتو (1896-1948) عام 1943 في دار دينويل الباريسية ثم تولت دار غاليمار عام 1979 إعادة نشره ورقيًا وإلكترونيًا. واللافت أن أرتو درس شخصية هيليوغابال دراسة تاريخية مستفيضة وتردَّد كثيرًا إلى متحف اللوفر ليدرس التماثيل والمسكوكات الباقية لهذا الإمبراطور. والمعروف عن أرتو أنه اهتم بالجانب السحري والغرائبي في الأدب؛ وهذا ما دفعه إلى الانتماء إلى السورياليين. لقد عشق المسرح والسينما ووظف موهبته في الرسم لتصميم الملابس والديكور؛ وعمل كمساعد مخرج مع لويس جوفيه. ومثّل في عدد من الأفلام كـ"نابوليون" لأبيل غانس (1926) و"شغف جان دارك" لكارل دريير (1928). وسافر إلى المكسيك للبحث عن شعائر الشمس عند قبائل التاراهوماراس. ونشأ مذاك اهتمامه بعبادات الشمس في حمص التي أصبح فيها الغلام هيليوغابال كاهنًا للشمس في السابعة من عمره.

كتاب أرتو "هيليوغابال أو الفوضوي المتوّج" Héliogabale ou l’anarchiste couronné مهدى إلى الفيلسوف الفيثاغوري المحدّث أبولونيوس التياني الذي أعجب أرتو بشخصيته وتعاليمه الساحرة. وأُعجب كذلك بشخصية الرسام فان غوغ وكتب عنه كتاب "فان غوغ المنتحر بسبب المجتمع" (1947).

يتألف كتاب هيليوغابال لأرتو من ثلاثة فصول هي: مهد النُطَف، حرب المبادئ، الفوضوية. يقول في البداية إن الجميع كانوا يضاجعون الجميع في عصر هيليوغابال، لذا كان الانتماء يرجع للأم. ومن هنا برزت أهمية النساء الأربع اللاتي حكمن روما عمليًا وهنّ جوليا دومنا التي ولدت كراكلّا، وأختها جوليا ميسا التي ولدت جوليا ماميا (أم الإمبراطور سيفيروس الكسندروس 222-235) وجوليا سيميا أم هيليوغابال (يمكن في هذا الصدد مراجعة كتاب جودفرى تورتون: "أميرات سوريات حكمن روما" ترجمة خالد أسعد عيسى وأحمد غسان سبانو، دمشق، دار الريم للتوزيع والنشر، 1987). وتذكر كتب التاريخ أن هؤلاء الأميرات كنّ داهيات محنّكات في إدارة شؤون الدولة، ولو عن طريق الدسائس والمكائد والاغتيالات. وهذا ما دفع الشاعر جوفينال إلى القول: "لقد فاض نهر العاصي فغمر نهر التيبر".

كتاب أرتو "هيليوغابال أو الفوضوي المتوّج"مهدى إلى الفيلسوف الفيثاغوري المحدّث أبولونيوس التياني الذي أعجب أرتو بشخصيته وتعاليمه الساحرة 



إن تأثيل اسم هيليوغابال مؤلف من كلمة يونانية هي "هيليوس" [الشمس] وغابال السريانية والعربية التي تعني الجبل. ومن ألقابه أيضًا: فاريوس أفيموس باسيانوس، سليل الأنطونيين المزيف، سردنبال. فُتِن أرتو بشخصية هذا الغلام الذي كان يربط عضوه الذكري ليتشبه بالنساء، لأن العصر كان عصرهن. وأُعجب بذلك الفتى الكاهن الذي كان يقيم الصلاة في معبد الشمس في حمص: معبد هيليوس أو القمة المتلألئة التي تعبّر عن أسرار الكوزموس (الكون) ومناهل الحياة، مما يتجلى في الحجر الأسود أو النيزك النازل من السماء بشكل إحليل ذكري عملاق. وكانت الأختان جوليا دومنا وجوليا ميسا تحرصان على حماية هذا الصرح المقدس، بعد وفاة الإمبراطور سبتيموس سفيروس مؤسس هذه السلالة. ودومنا – كما يقول أرتو – هي ديانا وأرتيميس وعشتار (آلهات الخصب والبركة)، وهي أيضًا بروسيربينا (أو ملكة الهاوية والجحيم).

ويتوقف أرتو عند جمال هذا الفتى الذي بهر بتماثيله ومسكوكاته في متحف اللوفر، ويرى أنه كان يجمع بين الجمال الذكري المتناسق وبين المفاتن الانثوية، أي أنه يعيد الجنس البشري إلى عنصر واحد. لقد آمن هيليوغابال – كما قال أرتو – بإله واحد هو الشمس، أي بدين الواحدية التي تنقسم إلى جزأين متصاديين: الرجل والمرأة.

ويرى أيضًا أن هيليوغابال وُلد فوضويًا، أي أنه كان العدو المعلن للنظام القائم. وطبّق هذه الفوضوية على نفسه أولًا ثم على الامبراطورية الرومانية، فدفع ثمن هذه الفوضوية غاليًا، إذ كلّفه حياته (راجع الفصل الثالث من الكتاب). كان من الشعراء الفوضويين الذين طبّقوا وعاشوا هذه الفوضى: "الشعر يعيد النظام إلى نصابه، يعيد الحياة إلى الشواش أولًا، الشواش المتأجج، ويعيد العناصر إلى نقطة واحدة: النار والإشارة والدم والصراخ" (ص 82). وهيليوغابال فوضوي بامتياز، كما رأى أرتو. ففي حين يرى المؤرخون في هيليوغابال وحشًا "أرى أن له طبيعة شفافة خارقة يشعر بفوضى الأشياء ويتصدى لها في آن" (ص 82). لقد دخل إلى روما ملتحفًا بالحجر الأسود، بالإحليل المنجِب العملاق، الذي يوحّد بين الآلهة.

في 15 أيار/ مايو 217، مثُل هيليوغابال بأبهة ساحرة أمام الفيلق الروماني المرابط في أنطاكيا. فهتف غانيس أحدُ أتباعه: "هذا هو ابن كراكلا". فأصاب الذهولُ الجنود وصرخت أمه الحاسرة الصدر: "نعم هذا هو ابن كراكلا. هو الإله الذي حبلتُ به بين ذراعيه": إنْ هي إلا مسرحية متقنة الإخراج والتمثيل. وأضاف غانيس: "في أنطاكيا إمبراطور مزيّف لا يمتّ بصلة إلى حبيبكم كراكلّا، وهو ماكرينوس الذي اغتصب عرش روما. ستخوضون حروبًا جديدة بقيادة هيليوغابال المنحدر من كراكلّا". فدوّى التصفيق في أرجاء الفيلق وأشعلت المشاعل ونودي بهيليوغابال إمبراطورًا، وانقضّ الجنود على ماكرينوس وقتلوه، ودثّروا هيليوغابال بالحلّة الرومانية الأرجوانية ونادوا به إمبراطورًا. أجل مسرحية، تليق بمسرحي كبير كأنطونين أرتو الذي رأى في هذا الغلام إنسانًا زرع الفوضى "الخلّاقة" في نفوس الرومان، كما قال.

جوليا سيميا أم هيليوغابال 



بعد حصوله على العرش كان لا بدّ أن يواجه العاصمة روما ويبهرها. فماذا فعل؟ لقد حوّل المدينة إلى خشبة مسرح (ركح). دخلها متدثّرًا بالأرجوان الفينيقي وبزي امرأة متجملة بالحجارة الكريمة واللؤلؤ والطلاسم. دخلها ظنًا منه أنه إله. وصلها بعد رحلة طويلة اجتاز فيها بلاد البلقان؛ وكانت 300 من الثيران تجرّ الحجر الأسود الذي يزن عشرة أطنان. وفي رحلته هذه، كان يكثر من إظهار ثرائه وجوده على الجنود والناس، ويقيم الاحتفالات المسرحية الماجنة التي تتخللها مسيرات الخصيان والراقصات العرايا والألحان الغرائبية. وكان هو ينتقل بينهم عارضًا إحليله المصبوغ بماء الذهب. وصل براياته وحيواناته وريش طيوره، على رأس خمسين ألف جندي، ودخل المدينة في فجر 15 آذار/ مايو 218، في عيد الإله مارس (إله الحرب)، تتبعه الفرق الموسيقية وموكب الجوليات الثلاث: جوليا ميسا وجوليا سيميا وجوليا ماميا. دخل روما فاتحًا "كسرياني"، كما قال أرتو، واستقر في قصر كراكلّا.

وباشر بقطع رؤوس المنافسين الخمسة الذين حاولوا الاستيلاء على العرش، بعد مقتل ماكرينوس. ثم تصرّف كأزعر رقيع ذي سلوك شائن. ففي أول اجتماع له مع كبار المسؤولين والنبلاء وأعضاء مجلس الشيوخ سألهم إن كانوا قد مارسوا اللواط ومص الدماء والنزو على الحيوانات، وعبّر عن ذلك بلغة فجّة ومبتذلة. وراح يتجوّل في روما بصحبة المخنّثين والعاهرات ويطبطب على بطون الشيوخ ويمتهن وقارهم ويأتي بحركات بذيئة تجعلهم يذوبون خجلًا، كأنه أراد بذلك أن يمرّغ أخلاقهم بالطين. ويقول أرتو إنه لا يرى في هيليوغابال إنسانًا مجنونًا بل متمردًا على الأصنامية الرومانية وعلى نظام الحكم السائد (ص 97). وطبّق هذا التمرد على نفسه أولًا، إذ كان يلبس أحيانًا كالعاهرات ويفرط في الزينة مثلهن، كأنه كان يتوخّى في ذلك الحط من قدسية الحكم وممثليه. وعندما عيّن أحد الراقصين قائدًا للحرس الإمبراطوري، كان يروم النيل من سمعة الأباطرة الكبار كتريانوس وهادريانوس وماركوس أوريليوس. وكان حريصًا على كسر النظام السائد والأفكار الامتثالية والأعراف المرعية. أراد أن يزرع الفوضى في هذا النظام الروماني المتغطرس الذي نصبت السلطة نفسها مسؤولة عنه. أراد أن يكون فوضويًا بامتياز، ولو دفع ثمن ذلك غاليًا. أورد المؤرخ الروماني أيليوس لامبريديوس في كتابه Historia augusta (التاريخ المرموق) الذي أرّخ للفترة الممتدة ما بين عامي 117 و285، وركّز على أباطرتها: "لقد عيّن هيليوغابال حوذيه غورديوس قائدًا للحرس الإمبراطوري الليلي، وعيّن الرقيب كلاوديوس مسؤولًا عن التموين، وأعطى المناصب العليا لأصحاب الأعضاء التناسلية الضخمة" (أوردها أرتو ص 98). وفضح هيليوغابال المستور وكشف الستار عن التصرفات التي يحرص الناس على إخفائها. "ففي الولائم، كما قال لامبريديوس، كان يجلس مع الفجّار من الرجال ولا يتورّع عن ملامستهم، ويشرب من الكؤوس التي يشربون منها". وآل على نفسه أن يكلّف الشبان المجان والمتهتكين بالمناصب العالية، كرهًا منه لأعضاء مجلس الشيوخ ولطبقة الفرسان.


عمل فني يصوّر هيليوغابال يرقص أمام إله الشمس للفنان جان باتيست لويس كريفيير (Getty Images)



وفي حفلة زواجه الأول جلس مع مجموعة من الشبان الخلعاء الذين كانوا يدفعونه إلى الافتراع، فامتقع وجه زوجته كورنيليا باولا من هذه اللغة المكشوفة والمبتذلة. وإمعانًا منه في الانتهاك وإثارة الصدمة، انتهك عرض رئيسة كاهنات معبد فيستا اللاتي كنّ يحافظن طوعًا عن بكارتهن، وكان الرومان يجلّونهن كثيرًا.

وانتهك هيليوغابال أيضًا حرمة المقدسات الرومانية، فدمّر معبد جوبيتر بالاتينوس وشيّد مكانه معبدًا شبيهًا بمعبد حمص، ونصب فيه حجره الأسود (الجنسي) الذي يرمز إلى الشمس. وسكّ له ولهيكله عملات عديدة، ودثّره بوشاح دمقسي فاخر. وكان يؤمن فعلًا بأنه الكاهن الأعظم لهذا الحجر الإحليلي الأسود؛ وكان يوقن أن النعم الإلهية تنحدر من هذا الحجر، شأنها في ذلك شأن النعم التي يغدقها زوس على البشر. ولكن حمصنة روما لم ترق للأرستقراطية الرومانية التي استشعرت تغيير هويتها بهوية دخيلة هجينة شائنة. وما لم يستطعه هيليوغابال لجلب روما إلى معبوده - في المحصلة - استطاعه الإمبراطور قسطنطين (280-337) الذي نصّر العالم الروماني.

لقد أولى علم النفس الحديث اهتمامًا خاصًا بهذا الإمبراطور الغلام الذي كان يعشق الهجين الصادم الهوسي الذي شاء أن يجمع بين الذكورة والأنوثة، وبين اللأنيموس animus والأنيما anima بأسلوب مسرحي شعري، كما قال أرتو. يرى بعضهم أنه كان عنينًا أو عاجزًا جنسيًا، وأنه عوّض عن هذا الفقد بالولائم والحفلات والانتهاكات، وأنه لإحباطه هذا كان يشتهي الموت الذي حصل عليه في نهاية المطاف، فخذله أخدانه وذووه، كما خذلته الطبيعة. ولأنه جمع بين النوعين البشريين اللذين كانا يتناهشان في شخصه، سقط لسذاجته ضحية أحابيل خالته جوليا ميميا التي نصّبت ابنها مكانه.

لقد تمكنت هذه المرأة بدهائها أن تفرض عليه ابنها ألكسندروس سيفيروس كوريث للعرش. وعندما شعر هيليوغابال بالخطر الداهم، راح يشك في جميع الناس. وحاول أن يتخلص من ذلك الفتى الذي كان يصغره بثلاث سنوات، إلا أن الأمور انقلبت عليه. حاول دس السم له في طعامه ولم ينجح. ألّب عليه الحوذيين والمتسولين والبهاليل والمتسكعين. وحاولوا الهجوم على جناحه في القصر الإمبراطوري فصدّهم الحرس وانقلبوا على هيليوغابال، فهرب منهم هو وأمه. فزجّ بنفسه في بيوت الخلاء وغاص في الغائط. فقبض عليه الجنود وجروه من شعره وراحوا يقطعونه هو وأمه كي يرموا بأشلائهما في الكهاريز. هكذا انتهت هذه المسرحية، أو بالأحرى هذا الرجل المسرح، وانتصرت الأعراف المتمثلة بمجلس الشيوخ عليه. وعادت الأمور إلى سابق عهدها، فلم يعد الرجال والنساء يستحمون معًا، بل منفصلين. وأعيد الحجر الأسود إلى حمص، واستعادت روما شعائرها السابقة وشطب اسم الكاهن هيليوغابال من كل الاحتفالات الدينية والدنيوية.

ولكن هيليوغابال بقي في المخيال الغربي كممثل للجنوح والتجاوز والانعتاق. وهذه السمات هي التي ركّز عليها السورياليون بخاصة، وهي التي دفعت أنطونين أرتو الى الاعجاب بهذا الإمبراطور الفتى الذي أتت به النساء إلى السلطة وأقصينه عنها.

كثيرة هي الكتب الأوروبية التي تناولت هذه الفترة من التاريخ الروماني، واهتمت بسلالة سبتيموس سيفيروس وبهيليوغابال خاصةً. ولكن المؤرخين العرب لم يبالوا حتى الآن بظاهرة هيليوغابال الحمصي الذي كان متعطشًا إلى الانفعالات العنيفة والاستيهامات والارتحالات إلى فضاءات لا يرتادها إلا الشعراء والفنانون وأصحاب الرؤى. وعلى الرغم من هوس هيليوغابال وتصرفاته الغريبة إلا أنه كان رائيًا على غرار رامبو، كما قال أرتو.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.