}

سيد درويش و"إنزال الموسيقى والغناء إلى الشارع"

خطيب بدلة خطيب بدلة 17 سبتمبر 2022
استعادات سيد درويش و"إنزال الموسيقى والغناء إلى الشارع"
سيد درويش (1892 ـ 1923)

عاش الشيخ سيد، ابن درويش البحر (1892 ـ 10 سبتمبر/ أيلول 1923)، إحدى وثلاثين سنة، فقط. هذا العمر، على قصره، كان كافيًا لأن يتبوأ ذلك الفتى الإسكندراني الفقيرُ منزلةً عالية ومتميزة بين موسيقيي العالم كله.
ثمة حكاية تعبر عن هذه المنزلة. قبل بضع سنوات؛ كانت إحدى الفرق الموسيقية اللبنانية تُجري بروفات لبرنامجها الموسيقي الذي ستشارك به في مهرجان يقام في مدينة برلين، وراحت تعزف مقطوعة "زوروني كل سنة مرة". سمعها موسيقار ألماني كان موجودًا بالمصادفة في المكان، فجاء يسأل عن مؤلفها، معتقدًا أنه موجود مع الفرقة، وحينما أخبروه أنه متوفى في سنة 1923، دهش، وقال: هذا رجل عبقري بالفعل.
ولعل أبرز مؤشر على قوة تجربة الشيخ سيد درويش، وعظمتها، وخلودها، أن بعض أغانيه وأدواره ما زالت تُغنى اليوم، بعد 99 سنة من رحيله، ضمن الوصلات الغنائية التي يقدمها كبارُ المطربين، ومنها: يا شادي الألحان، أنا هويت، زوروني كل سنة مرة، الحلوة دي، في شرع مين، يا بهجة الروح، ضيعت مستقبل حياتي، يا غصين البان، أهو ده اللي صار، بالإضافة إلى امتلاكه مزايا فنية نادرة يعرفها المتخصصون في الموسيقى، ويروونها عنه في مقالاتهم وأحاديثهم المتلفزة.


كل شيء عند سيد درويش مبكر
ولد "سيد" في وقت مبكر من انطلاق عصر النهضة الموسيقية العربية (الإسكندرية 1892). وكان ذلك أمرًا حسنًا بالنسبة لعصر النهضة نفسه، لأن هذا الرجل المقدام، المغامر، لم يبالِ بتبعات الخروج على النمط الغنائي السائد، وراح يلحن، ويغني، وينتج الأوبريتات الغنائية الكبيرة، منطلقًا من حياة الناس (الشعب)، ويتوجه بها كلها إلى الناس أنفسهم. ولعل من حسن الحظ أن أحد مجايليه، أعني المجدد الكبير محمد القصبجي، عاش حتى تجاوز السبعين، وقدم كثيرًا من الألحان الجديدة الخالدة، وأما بليغ حمدي الذي جاء إلى الوسط الفني في الخمسينيات، أي بعد ثلاثة عقود، فقد أوصل موسيقى الشعب التي أسس لها الشيخ سيد درويش إلى ذُرى عالية.




توفي العامل الصنايعي درويش البحر، والدُ الشيخ سيد، على نحو مبكر، وهذا أمر مؤسف بالطبع، ولكن وفاته خلصت "سيد" من سلطة الأب من جهة، ومتعته بحرية جعلت شخصيته أقرب إلى شخصية زوربا اليوناني، والأصح أن زوربا هو الذي يشبهه، وهذا اضطره لأن يحمل مسؤوليات كبيرة، وزاد في الطين بلة أنه تزوج في عمر مبكر (16 سنة)، وصار يخلف أولادًا، بينما أخذته الحياة في اتجاه المسارح، وزوايا الإنشاد، والسفر إلى دمشق وحلب، مع الاحتفاظ بحلم أن يسافر إلى إيطاليا ليدرس الموسيقى الغربية.
اضطر للعمل في البناء. وأثناء هذا، أحب العالمة جليلة، ووضع لأجلها أجمل الألحان. تعرف على الأخوين عطا الله اللذين أوجدا لها عملًا بدخل جيد، والمهم، والمؤسف في المحصلة، أنه مات على نحو مبكر.


الشيخ سيد والاستقطاب الكبير
أميل إلى الاعتقاد بأن ظروف الفقر والتشرد (والمرمطة) التي عاشها الشيخ سيد كانت أحد أسباب النجاحات الكبيرة التي حققها، وتجلّت في إنزال الموسيقى والغناء اللذين كانا سائدين في أيامه إلى الشارع، وجعلهما ملكًا لعامة الشعب، وأن وجود فنان شعبي كبير مثل نجيب الريحاني بجواره، بالإضافة إلى الشاعر بديع خيري، ثم بيرم التونسي، زاد من ثراء موهبته، واندماجه مع روح الشعب.
يتحدث الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب (1898 ـ 1991) عن تزمت الوسط الفني في تلك الأيام، ومقاومته كلَّ جديد، قائلًا إنه وغيره من الموسيقيين كانوا إذا أرادوا الاستماع إلى سيد درويش يغلقون على أنفسهم الأبواب، لئلا يضبطهم أحدٌ بالجرم المشهود، فيضعهم على كل لسان.
ويحكي الموسيقار عبد العظيم عبد الحق (1905 ـ 1933) أنه كان صغيرًا حينما التقى بسيد درويش، وقال له: أنا أحفظ أغانيك كلها. فدهش سيد وقال له: سمعني. فأسمعه إياها كلها خلال ثلاثة أيام. ويقول إن أسطوانات سيد درويش كانت توزع في كل أنحاء مصر، بسرعة، وبكميات كبيرة.


يحيى حقي والشيخ سيد
أطلق الأديب يحيى حقي على الأغاني التي كان سيد درويش يؤديها في مسرح نجيب الريحاني "أغاني الطوائف". إنها أغاني الشقيانين، والسقايين، وإحنا يا فندم تجار العجم، وإحنا الأفوكاتية.. بعض الناس عابوا على الشيخ سيد هذه الأغاني، ولكن يحيى حقي ينصفها، فيقول: أنا حضرتها في صالة كباريه كانت ترقص فيه واحدة اسمها ديناليسك، وكشكش بيه (نجيب الريحاني) واقف في المسرح، ويدخلوا عليه وفود. يسأل:
ـ إنتوا مين؟
فيقولوا له، مثلًا: إحنا الشيالين..
أو: إحنا الأفوكاتوية..
كان ذلك جَوَّ مَرَح، وانبساط، وتقريق، لا يوجد خطب، ولا وطنية، ولا مواعظ، كل ما في الأمر أن سيد درويش أراد أن يداعب هذه الطوائف بشكل جميل، ولم تكن مداعباته جارحة قط.


لقاء سيد درويش ونجيب الريحاني
يحكي نجيب الريحاني، في مذكراته الصادرة عن دار هنداوي سنة 2012، عن أول عمل فني جمعه بسيد درويش، فيقول:
ـ أعددنا رواية (يقصد مسرحية) أطلقنا عليها اسم "ولو". وضع بديع خيري أول زجل منها، وهو عبارة عن شكوى تتقدم بها جماعة من السقايين، يشرحون للجمهور آلامهم في الحياة، مطلعه:
يعوض الله، يهون الله.. ع السقايين، دول غلبانين، متبهدلين م الكبّانية، خواجاتها جونا، دول بيرازونا، في صنعة أبونا، ما تعبَّرونا يا خلايق. (بيرازونا يعني: يبارزوننا ليشاركونا مواردَ صنعة والدنا).
يتابع الريحاني: وسلمنا الزجل للشيخ سيد درويش، وقد كانت ميزته أن يضع لكل لحن ما يوافقه من موسيقى، أقصد بهذا (التوافق التعبيري الصادق للمعنى العام)، بل ولكل لفظ من ألفاظ الكلام، حتى كان المرء يدرك من أول وهلة ما يرمي إليه هذا الكلام عند سماع الأنغام.




تسلم الشيخ سيد لحن السقايين، ولكنه لم يعد إلينا في الموعد المضروب، بل ولا في اليوم التالي. حتى إذا كان اليوم الثالث، أرسلنا إليه أحد أصدقائنا، فسهر معه الليل بطوله. وكانت شكواه أن قريحته اليوم متحجرة، وأنه قضى الأيام الثلاثة الماضية يقدح زناد الفكر عساه يصل إلى النغم الموافق، ولكن من دون جدوى.. وفيما هما يتحدثان، وقد كانت أضواء النهار في تلك اللحظة تطارد جيوش الظلام، صادفهما أحدُ "السقايين"، وكان يحمل قربة الماء على ظهره ويجوب الحواري، وينادي بأعلى صوته وبنغمته التقليدية الخاصة قائلًا: "يعوض الله".. فتنبه الشيخ سيد، وأمسك بذراع صديقه وقال: خلاص خلاص، لقيت اللحن اللي أنا عاوزه.
وفي المساء حضر، وأسمعني اللحن، فكدت أطير به فرحًا، وفي الوقت نفسه حضر الأستاذ بديع خيري وأسمعني زجلًا رائعًا مطلعه:
نبين زين، ونخط الودع
وندق لكم ونطاهر
ونحبّل اللي ما تحبلش
ونفك كمان اللي تشاهر.
وفي اليوم التالي، كان الشيخ سيد قد وضع له اللحن المناسب، ثم لحن عقب ذلك زجل استقبال كشكش:
ألفين حمد الله على سلامتك
يا أبو كشكش فرفش أدي وقتك.
فكان اللحن كذلك بدعة أيضًا.. وهكذا ظل بديع خيري يتحفني بأزجال من النوع الممتاز، فيلحنها سيد تلحينًا شائقًا، حتى ظهرت رواية "ولو" للجمهور في ثوب قشيب من بديع البيان، وصفاء الألحان، وقد أحسست أن المتفرج كان يسبح في أثناء التمثيل في عالم علوي تهزه نشوة السرور والإعجاب، فيقابل كل كلمة أو نغمة بالتصفيق والترحيب.


سعد الله آغا عن التجريب الدرويشي
كان الناقد الموسيقي الدكتور سعد الله آغا يتحدث عن التجريب عند سيد درويش، فتطرق إلى ما يسمى "الغناء البوليفوني"، أي "الغناء متعدد الألحان والمتزامن في لحظة واحدة"، كان ذلك في مسرحية "شهرزاد" التي كتب كلماتها بيرم التونسي، ولحنها سيد درويش، وقدمت يوم 30 يونيو/ حزيران 1921.
ضَمَّنَ بيرم التونسي المسرحيةَ نشيدًا مدته 40 ثانية فقط، عنوانه "دقت طبول الحرب"، هذا النشيد أدخله التاريخ.. يقوم على ثلاثة أصوات: الملك زعبولا يبشر بالنصر، جنوده يؤيدونه، ومعارضوه يبشرون بالهزيمة، ويصفون موقف زعبولا بأنه كلام في كلام.
حكاية هذه التجربة الفريدة (والرائدة) في عالم المسرح الغنائي أن بيرم التونسي الذي كان منفيًا من قِبَل السلطات الإنكليزية في مصر، إلى بلده الأصلي تونس، كتب مقالًا نشر يوم 2 مايو/ أيار 1933، تحدث فيه أنه كان، قبل أن يُنْفَى، يكتب، في القاهرة، مقالات يهاجم بها مسرح نجيب الريحاني الذي كان سيد درويش يلحن أغانيه، ويشير إلى سطحية المواضيع، ويؤكد أن سيد درويش يستند فيها إلى ألحان شائعة في الإسكندرية. وفيما بعد اجتمع بيرم مع سيد في مناسبة اجتماعية، وخشي بيرم أن يستهدفه سيد بسبب مقالاته، ولكنه وجده بشوشًا، وودودًا. رحب به، وشرح له أن مسرحيات الريحاني لم تكن تحرك عنده موهبة التلحين الجديد، وأنه يريد أن يؤسس مسرحًا خاصًا به، وطلب منه أن يكتب له مسرحية، فقال بيرم لنفسه (هذه فرصة لأكتشف إنْ كانت لديه موهبة التلحين للمسرح الغنائي بالفعل، أم أن ما يقوله غير صحيح).. وقرر أن يضمّن نص المسرحية كلَّ عقد النصوص، والأوزان الغريبة، المتناقضة، بالإضافة إلى الحوارات المتعارضة المتزامنة..
إذًا، هذا النشيد كان تحديًا من بيرم التونسي لموهبة سيد درويش، الذي أدرك ذلك، ووضع كل إمكانياته في تلحين النشيد.
(وهنا يشرح الدكتور سعد الله العوامل الفنية التي أدت إلى النجاح الرائع لتلك التجربة).
رحم الله الشيخ سيد درويش. إنه منارة، وعلامة فارقة في تاريخ الغناء العربي المعاصر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.