}

جماليات الغناء العربي.. العشق والبكاء

خطيب بدلة خطيب بدلة 2 سبتمبر 2022

تعود ظاهرة البكاء، في الثقافة العربية، إلى أقدم العصور. ولأن الشعر ديوان العرب، فقد ظهر البكاء في أشعارهم منذ الحقبة التاريخية التي اصطلح على تسميتها "الجاهلية"، أي قبل أزيد من 1500 سنة، فمعظم قصائدهم كانت تبدأ بالوقوف على أطلال الحبيبة، وإظهار الأسى والحزن وذرف العبرات على فراقها.. وهنا يجدر بنا أن ننوّه إلى أن البكاء لا تختص به النساء - كما يزعم حاملو الثقافة الذكورية - بل هو انفعال إنساني عام.

كان امرؤ القيس رجلًا قويًا، وشجاعًا، ومغامرًا، ومع ذلك رقّ، ذات مرة، فأنشد: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه. ثم نصح صاحبه بالكف عن البكاء: فقلت له لا تبك عينُك.. وتألق عنترة بن شداد في التصوير الفني إلى حد أنه رأى الدمعة (العَبرة) في عين حصانه، أثناء المعركة: وشكا إليّ بعبرةٍ وتَحَمْحُمِ. وأما دريد بن الصمة فقد أوشك في إحدى قصائده، على البكاء، ولكنه تصبَّر:

تقولُ ألا تبكي أخاك؟ وقد أرى

مكانَ البكا، لكنْ بنيتُ على الصبرِ

وهذا ليس ببعيد عن المعنى الذي جاء به أبو فراس الحمداني في عصر لاحق، أراك عصي الدمع شيمتك الصبرُ، وهي القصيدة التي غنتها أم كلثوم من ألحان رياض السنباطي سنة 1965.

للبكاء في الشعر العربي أسباب متنوعة، كأن يكون على أخ توفي، كما عند ابن الصمة والشاعرة الخنساء، أو على مُلْكٍ فُقِدَ، مثلما حصل مع عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس.. ولكن السبب الرئيس لأكثر البكائيات العربية، بزعمي، هو العشق.

العشق في الأحوال الطبيعية أمر مفرح، ويبعث على السعادة، ولكنه، في المجتمعات العربية، مغامرة كبرى، تشبه اللعب بالنار، لأن ثقافة هذه المجتمعات تقوم على الفصل الكتيم بين الجنسين، وعليه لا بد أن يخاف العاشقان من افتضاح أمرهما، أو إعلان حبهما على الملأ، لأن تكاليف هذا الأمر باهظة، قد تصل، في بعض الأحيان، إلى قتل الطرف الأضعف بينهما: المرأة.

لم يكن محمد الماغوط  يسخر من موسيقار الأزمان فريد الأطرش حينما وصفه بأنه ملك النواح والندب في الأغنية العربية، بل كان يداعبه ويتحبب إليه



وما دام لكل قاعدة استثناء، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن عددًا قليلًا من الشعراء، في التاريخ العربي، كانوا يتغزلون بحبيباتهم جهرًا، كزهير بن أبي سلمى الذي تغزل بأم أوفى: أمِنْ أم أوفى دمنةٌ لم تكلمِ.. والوليد بن يزيد الذي كان يتغزل بسليمى، وقيس بن الملوح الذي جُن بليلى، وكثيّر الخزاعي (كثير عزة) الذي طلب من خليليه أن يتوقفا عند ربع عزة ويبكيا:

خليليَّ هذا ربعُ عزة فاعقلا

قَلُوصَيكما، ثم ابكيا حيثُ حَلَّتِ

ثم وصف نفسه بأنه كان قويًا متماسكًا، ولكن العشق أحزنه، فأبكاه:

وما كنتُ أدري، قبلَ عزةَ، ما البُكا

ولا موجعاتُ القلبِ، حتى تَوَلَّتِ

و"كثير عزة" يضع يده، هنا، على السر الأبرز لظاهرة البكاء في الشعر والغناء، ألا وهو الحز الذي ينتج عن الفراق.. وقد عبّر الشاعر أبو نواس عن هذا الألم ببيتين رائعين التقطهما عاصي ومنصور الرحباني، ولحناهما، وغنتهما فيروز:

يا خليليَّ ساعةً لا تريما

وعلى ذي صبابةٍ فأقيما

ما مررنا بدار زينبَ إلا

فضح الدمعُ سرنا المكتوما


 

على ذكر الأخوين الرحباني، نشير إلى أنهما كانا حريصين – دائمًا - على التقاط الصورة الشعرية في الغناء، ومن ذلك أن المخدة التي تنام عليها العاشقة، كانت تصحو لتراها وهي تبكي:

قديش يوما انقالْ وتألفْ حكي

وقديش وعيتْ هالمخدة عالبكي

وفي مكان آخر يقدم الرحبانيان تلوينًا آخر للبكاء، فيزعمان أن نسبته تزداد طردًا مع ازدياد نسبة العشق:

كلّ ما عمْ زيد بحبّك ولوعْ

كلّ ما بتزيد بعيني الدموع

وعند أم كلثوم؛ لا تشارك المخدة في الانتباه إلى البكاء، بل الفراش، وهذا ظهر في قصيدة "قولي لطيفك ينثني" المأخوذة عن الشاعر العباسي الشهير ديك الجن، ألحان زكريا أحمد، وفيها مقطع يصور فراش العاشق وكأنه مصنوع من الدموع:

قولي لطيفِك ينثني عن مضجعي وقت الهجوعْ

كي أستريحَ وتنطفي نار تأجج في الضلوعْ

مضنىً تقلبه الأكُفُّ على (فراشٍ من دموعْ)

أما أنا فكما علِمتِ، فهل لوصلِكِ من رجوعْ؟

لعل أكثر المواقف مدعاة للبكاء، في الأغاني العربية، يصادف مع لحظة الوداع، ولعل ذلك الشاعر الذي أتينا على ذكره في مقالة سابقة منشورة في ضفة ثالثة بعنوان "جماليات الغناء الهودج والوابور" (11 أيار/ مايو 2022)، قد تمكن من رسم صورة شعرية باهرة، إذ قال في البيتين اللذين غناهما صباح فخري:

لما أناخوا قبيلَ الصبح عيسَهُمُ

وحمّلوها وسارت في الدجى الأبلُ

وأرسلتْ من خلال السَجْفِ ناظرَها

ترنو اليّ ودمعُ العين ينهملُ

يمكننا، هنا، أن نتذكر رائعة بيرم التونسي "الأولة في الغرام"، وكيف تطلّب أم كلثوم من عينيها أن تجودا بالدمع عند وداع الحبيب: وأقول يا عين أسعفيني وبالدمع جودي، وفي أغنية شمس الأصيل لا يسمع العاشقان صوت هسيس الماء في السواقي، بل إنه حزن و(نعي) وندب لمن كان حظه قليلًا على سواقي بتنعي ع اللي حظه قليل.. وفي الأغنية التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي ولحنها بليغ حمدي لشادية تتحول دموع العين إلى حالة تعبيرية، فهي تتولى الإجابة في معرض السؤال: جوني، سألوني، جاوبتهم عني دموع عيني..      

بظني أن الأديب السوري الكبير محمد الماغوط (1934- 2006) لم يكن يسخر من موسيقار الأزمان فريد الأطرش حينما وصفه بأنه ملك النواح والندب في الأغنية العربية، بل كان يداعبه ويتحبب إليه، لأنه لم يوجد في تاريخ الأدب العربي الحديث أديبٌ كالماغوط يتحدث عن الخوف، والرعب، والجوع، والسجون، والبكاء والحزن.. إنه، باختصار: ينوح ويندب أكثر من فريد، ولكن بشاعرية عالية. 

يمكننا أن نتذكر رائعة بيرم التونسي "الأولة في الغرام"، وكيف تطلّب أم كلثوم من عينيها أن تجودا بالدمع عند وداع الحبيب 



لو تتبعنا سيرة موسيقار الأزمان فريد الأطرش منذ بداياتها، لوجدناه رجلًا بوهيميًا يحب المرح، والسهر، والصخب، والطعام، والغناء، وكان بيته مفتوحًا للرائح والغادي، مثل مضافات الزعماء في جبل العرب (أهلا سهلا، حي الله النشامى، تفضلوا على المقسوم).. ومما يروى عن محمد عبد الوهاب أنه، في الليلة العصيبة التي قُدمت أولى أغانيه في لقاء السحاب مع أم كلثوم "أنت عمري"، وبعدما اطمأن إلى أن الفرقة الموسيقية عزفت المقدمة العبقرية الـتي ألفها، وبدأت أم كلثوم بالغناء، ذهب إلى منزل صديقه فريد الأطرش، ليكمل السهرة مع ضيوف صديقه فريد، ويتناول معهم طعام السحور، وفي إحدى المقابلات يتحدث المخرج يوسف شاهين عن كرم فريد ونخوته..

ولكن فريد الأطرش، اعترف، في مقابلة تلفزيونية، أن نفسيته تحطمت، وأصبح الحزن شقيق روحه منذ أن توفيت شقيقته أسمهان (صيف 1944)، بالإضافة إلى أنه أصيب بمرض القلب، وما عاد قادرًا على ارتشاف الملذات التي اعتادها، فراح يغني:

مش كفاية روحي قلبي عيني أحلامي الجميلة

سبتهم لك أعمل إيه ما بيدي حيلة

والظنون يا حبيبي بتمر في خيالي

زي دمعة عين في ليلة شوق طويلة

وفي أغنية يا قلبي يا مجروح ترتفع نسبة البكاء عنده، فيقول:

يا قلبي يا مجروح، اصبر على المقسوم

باب السما مفتوح، لدعوة المظلوم

(كلمات مأمون الشناوي، 1954).

ومع ذلك، وفي معرض دفاعه عن نفسه، يقول فريد إنه قدّم أغنيات مرحة كثيرة، مثل "أنا وأنت ولا حد تالتنا"، "جميل جمال"، "الحب لحن جميل"، بالإضافة إلى الاستعراضات الكوميدية كما في أغنيته مع شادية: "يا سلام على حبي وحبك".

عندما يتساءل الدارس عن سبب كثرة المواقف الحزينة الباكية في الأغنية العربية، لا بد أن يفطن إلى أن الشعراء الكبار الذين كانوا يتبارون في تقديم أجمل ما عندهم للمطربين الكبار الموجودين على الساحة، كانوا يعرفون قيمة عنصر الدراما الذي ينبغي أن تُبنى عليه القصيدة، فالشاعر أحمد عبد المجيد، مثلًا، كتب لمحمد عبد الوهاب هذه الرائعة:

بالليل يا روحي، أرتل بالأنين اسمَكْ

وبعين خيالي أصور يا ضنين رسمكْ

وأشوف خيالك من بين دموع العين

وأقول لُه مالك، وفين جمالك فين؟

خفف دموعي يا هاجر، خليني أشاهد خيالك

والدمع قاسي حجب محاسن جمالك

وكتب عبد المنعم السباعي لأم كلثوم:

وأبات أنعي، أنا ودمعي

وأخبي دمع العين، وأداري من اللايمين

لا يلمحوا عينيَّ، ويشمتوا فيَّ

(ألحان رياض السنباطي، 1958).

وأما مرسي جميل عزيز، فكتب لأم كلثوم أنه يخاف من سيرة الحب، ويعرف حكايات، مليانة آهات ودموع وأنين.. (ألحان بليغ حمدي، 1964).

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.