"(سيد درويش) شخصية تحرّر الغناء المصري من التعقيدات الصوتية، من كثرة "الدانتيل" و"الزخارف"، وترتكز على أسس عميقة وبسيطة وسليمة.. وقد وُجد بوجوده الملحّن المصري الذي أوجد للشعب وعيًا جديدًا في مفهوم السمع.. قبل سيد درويش لم نكن نسمع عن شيء اسمه ملحّن، إن سيّد خلق للملحّن المصري الشخصية المتكاملة"..
(الموسيقار محمد عبد الوهاب)
لعبت الفنون والآداب في مصر في النصف الأول من القرن العشرين دورًا محوريًا في التعبير عن الواقع والهوية المصرية، وجاءت شكلًا من أشكال المقاومة في وجه الاستعمار ومحاولات طمس الهوية، وأثبتت قدرتها على جذب الجماهير وتوحيد صفوف الشعب بمختلف فئاته. إذ شهدت مصر، في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مرحلة جديدة من مراحل النهضة الثقافية، ضمت أعلامًا في الفكر والسياسة والأدب، من أمثال الشيخ محمد عبده، وأحمد لطفي السيد، وقاسم أمين، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم.
تبع هؤلاء جيل آخر تألقت مواهبه في العقدين الأوليْن من القرن العشرين، لتتزامن انطلاقته الحقيقية مع اندلاع ثورة 1919. وهو الجيل الذي ضمّ أعلامًا منهم: طه حسين، والعقّاد، ومحمد حسين هيكل، وسلامة موسى، وبيرم التونسي، وبديع خيري، ومحمود مختار، وسيد درويش.
شهدت الفنون في مصر خلال تلك الفترة تحولًا جذريًا كان بمثابة ثورة ثقافية تمخّض عنها بلورة حركة فنية جديدة في مختلف المجالات؛ فجاءت الأغنية المصرية في أوائل القرن الماضي، معبّرة عن مصر الاجتماعية والسياسية، بفلاحيها وعمالها ووطنيّيها. وأكثر ما تجلّى هذا الواقع الجديد للإبداع المصري في أغاني سيد درويش، الذي اعتبر مدرسة موسيقية جديدة، بألحانه التي تعبر عن واقع الحياة في مصر وتقترب منه، وتبتعد عن النمط السائد من الموسيقى، فَبِه أصبحت الموسيقى للشعب ومنه، وسُمّي بذلك فنان الشعب.
نشأته.. بين الترتيل والطرب والغناء
ولد سيد درويش (1892 – 1923) في حي "كوم الدكّة" في الإسكندرية، توفي والده عقب ولادته بشهرين، ليتحمل منذ صغره مسؤولية إعالة أسرة كبيرة. تعلم في البداية في "الكتاتيب"، ثم التحق بالمعهد الديني ليبرز في تلاوة القرآن. انقطع عن الدراسة لإعالة أسرته، وكَسْب قوته من قراءة القرآن والسيرة النبوية في المنازل، والغناء في المحال والمقاهي العامة. ثم عمل لاحقًا في البناء إثر أزمة اقتصادية مرت بها مصر.
بدأ سيد درويش يغني في مقاهي الإسكندرية المواويل والأغاني الشعبية، لتجمع تجربته الفنية بذلك بين الترتيل القرآني، وأداء الموشحات، والغناء للمطربين الذين سبقوه، وروح الألحان الشعبية. كما شملت رحلته الموسيقية الأخذ عن الموسيقى التركية، والموسيقى الغربية كذلك، والتي تأثر بها من خلال الجاليات الإيطالية واليونانية المقيمة في مصر آنذاك.
يرى عبد الوهاب أن سيد درويش هو أول من لفت الأنظار إلى مهمة التلحين، فكوّن الشخصية للملحن المصري بحيث يكون مسؤولًا عن مهمته أمام الجماهير |
ولادة الملحّن المصري
ارتبط الاستماع الموسيقي قبل درويش بالطرب الذي بقي حكرًا على الصالونات الرفيعة، وجاء درويش ليخلق إحساس السمع بـ "العقل"، ووعيًا عامًا وذوقًا سمعيًا لدى الجماهير، وهو ذوق من شأنه محاسبة الملحّن على رسائله المتضمَّنة في ألحانه، ومدى استيعابه لمعاني الكلمات التي يلحّنها. كما حرّر درويش الأغنية العربية من الجمود والتقاليد، ليضفي عليها معنًى وإحساسًا جديدًا، عميقًا وبسيطًا في ذات الوقت، يحاكي وجدان الجماهير، عمّالًا وجنودًا ونساءً وفلاحين، وذلك عبر إخضاع الموسيقى للمعنى، وصنع الجمل الموسيقية البسيطة التي يستطيع عامّة الناس حفظها وترديدها.
يرى محمد عبد الوهاب أن النقلة التي حققها سيد درويش للأغنية العربية تتمثل في نقاط عديدة أهمها أنه أول من لفت الأنظار إلى مهمة التلحين، فكوّن الشخصية للملحن المصري بحيث يكون مسؤولًا عن مهمته أمام الجماهير. كما أنه أوجد التعبير للكلمة وأضاف معنًى إلى الأغنية، لتصبح به معبّرة بشكل حقيقي، ويعتبر كذلك أول فنان حقق تفاعلًا مع الجماهير.
إضافة إلى ما سبق، يعتبر درويش رائد المسرح الغنائي في مصر، فقد لحن الكثير من المسرحيات ليثبت بذلك عبقرية موسيقية هائلة، على صعيد النوع والكم، إذ أنه لحّن خلال ست سنوات (1917 – 1923) ما يقارب عشرين مسرحية.
رسائل وطنية
لم تكن الثورة الموسيقية التي أحدثها سيد درويش منفصلة عن الواقع الذي كانت تعيشه مصر آنذاك، وعن توق الشعب المصري إلى ثورة اجتماعية ووطنية تحرره من الاستعمار والاستعباد والفقر والظلم الاجتماعي. كان درويش أيضًا يشارك في التظاهرات، وحدث أن امتطى عربة حنطور مكشوفة ليقود المظاهرات، هاتفًا بشعارات تنادي بالحرية وسقوط الاستعمار، ومرددًا أغاني وطنية.
انطوت الأغاني التي لحّنها الفنان على قيم وطنية عديدة ترسّخت في الوجدان والذاكرة الجمعيين، ومن بينها نشيد "بلادي" الذي يرفع من شأن مصر، التي هي أم البلاد، ذات التاريخ والحضارة، وتعلن الأغنية موقف أبناء مصر المتمثل في صد العدوان وتوقهم إلى الحرية بالوحدة التي تتحقق بها الأهداف الوطنية:
مصر يا أرض النعيم سُدت بالمجد القديم
مقصدي دفع الغريم وعلى الله اعتمادي
يا بلادي عيشي حرة فوق جبين الدهر غرّه
مصر أنت أغلى دره فوق جبين الدهر غرّه
ومن أشهر ما لحّن درويش أغنية "أنا المصري" التي تشيد بالشعب المصري وتتغنّى بحضارته التي تمتاز بعمرانها وعلومها. يتجلّى هذا التأكيد على "المصرية" في أغنية "قوم يا مصري" التي تشيد بمصر وتاريخها وحضارتها ونيلها، وهي من أجمل البلاد بإرثها الغني وطبيعتها. كما تحثّ الأغنية أبناء الشعب على الدفاع عن وطنهم ونصرته.
مقابل الصورة الإيجابية للشعب التي تجلّت في أغانٍ أخرى مثل "بلادي" و"أنا المصري"، يحضر في "قوم يا مصري" حسّ من النقد الساخر الذي يهدف إلى حضّ الشعب على الانتفاض دفاعًا عن وطنه واستعادة عزمه ومجده السابق، وتعقد الأغنية مقارنة بين ماضي مصر وتاريخها العظيم من جهة، وواقعها الحاضر المأساوي من جهة أخرى.
بعد نفي سيد زغلول قائد ثورة 1919، وفرْض الإنكليز على المصريين عدم ذكر اسمه في الشوارع والهتافات، لحّن سيد درويش أغنية "يا بلح زغلول" (كلمات بديع خيري وغناء نعيمة المصرية)، والتي تذكر بالتحايل، اسم قائد الثورة، بالتغنّي بواحد من أفضل أنواع البلح المصري المسمى "زغلول"، ليردد الشعب المصري الأغنية كإعلان ولاء وتأييد لقائدهم المنفي. (يذكر أن الرقابة المصرية منعت قبل عامين عرض الأغنية ضمن المسرحية الغنائية "سيد درويش"، إضافة إلى منع مقاطع من أغنية "أهو ده اللي صار"، لأسباب غير مفهومة).
إن القيم الوطنية التي حملتها الأغاني التي لحّنها سيد درويش جاءت منسجمة مع روح الثورة ونابعة منها، وتتكرر قيم "المصرية" و"حب الوطن" و"الوحدة" و"الكفاح" في تلك الأغاني، بالإضافة إلى تكرار الإشادة بالشعب المصري، ذي التاريخ العريق والمتطلع إلى الحرية.
حرية وعدالة اجتماعية
إلى جانب إحداث ثورة في الأغنية ودورها في تعزيز قيم التحرر الوطني، لحّن درويش أغاني تحرض على التمرد على الظلم الاجتماعي والفساد، وتدعو إلى التحرر الاجتماعي للعامل والفلاح وللمرأة، ليكون سيد درويش، بذلك، حالة فنية وطنية اجتماعية متكاملة، إذ ارتبط الفن لديه بالتحرر السياسي والاجتماعي على حد السواء.
طرق سيد درويش بألحانه قضايا تحرر المرأة التي كانت مطروحة للجدل آنذاك، وفي حين عارض طرف تحررها ونادى طرف آخر بضرورة خروجها إلى العمل وإلى مشاركتها في الحياة السياسة والثقافية، لحّن درويش أغنية تحثّ النساء على النهوض للمطالبة بحقوقهن:
دا وقتك دا يومك
يا بنت اليوم
قومي اصحي من نومك
بزيادك نوم
وطالبي بحقوقك
واخلصي من اللوم..
ذهبت ألحان سيد درويش إلى طبقات الشعب المكافحة، فغنّى للفلاحين والسقّايين والشيّالين والصنايعية وغيرهم. وتعبر أغنية "السقّايين" بكلماتها ولحنها عن كدح السقايين في مهنتهم، واعتزازهم بها، وتؤازرهم في مشقتهم، وتعلي من شأن مهنتهم. أما أغنية "الصنايعية" (الحلوة دي) فتصور حياة الصنّاع في مصر، يخرجون في الصباح الباكر، بتفاؤل وهمة، رغم الفقر الشديد وما يعانوه من ظلم وإجحاف.
عبرت أغاني سيد درويش عن الظلم الاجتماعي بكل أشكاله، كما ساهمت بترسيخ قيمِ المساواة والعدالة الاجتماعية عبر رسائل دعت إلى التسامح والمحبة والتضامن والوحدة؛ كما في أغنية "الممرضين" التي تدعو إلى الإخاء والتضامن والمحبة بين الناس على اختلاف طوائفهم:
ما عندناش ولا معتقدات ولا اعتصاب في الجنسيات
قريب غريب كان ولّا حبيب مسلم وقبطي ما فيش تكليف
إن كان هلال ولا صليب ما دام يكون القصد شريف
ما فيش موانع تمنعنا عن اعتبار الاتنين اخوان
دي الإنسانية تجمعنا مهما تفرقت الأديان
تعلي تلك الأغنية من قيم الإنسانية، وتدعو أطياف الشعب إلى الالتفاف عليها، وأن لا يفرقهم كونهم من أديان مختلفة، لترسم الأغنية بذلك هوية مصرية اجتماعية متماسكة، قوامها قيم الإنسانية والمحبة والتسامح بين طوائف الشعب.
كما دعت أغاني سيد درويش إلى محاربة الفساد الاجتماعي والإقطاعية والطبقية، وإلى وجوب أن تسهم رؤوس الأموال المصرية في الصناعة، وعدم الاعتماد على الزراعة فقط، والتكافل بين الطبقات. وسَخِرت أغاني درويش من "الملكية" والألقاب، كما في لحن "الكتبة العموميين" الذين يصيغون شكاوى الفلاحين، لتأتي عبارات التفخيم التي تُفرض عليهم بموسيقى ساخرة. إضافة إلى السخرية من فساد الحالة الاجتماعية ومن مظاهر بين الرؤساء والمرؤوسين كالرشوة وغيرها، كما يتجلى في رواية "العشرة الطيبة".
انطوت الأغاني التي لحنها سيد درويش على رسائل للتحرر الاجتماعي الذي يصيغ هوية مصرية اجتماعية، تعبر عن التماسك والعدالة والإنتاج والفعالية، ربطًا بالحالة السياسية التي كانت تمر بها مصر آنذاك؛ فبناء هوية وطنية مستقلة لا بد وأن يستند إلى هوية اجتماعية واضحة ومتماسكة. والثورة، أي ثورة، لا بد من أن تكون شاملة، ولا تُعنى بالسياسة دون المجتمع والفن، فانتقدت ألحانه وسخرت من الظلم والفقر تمامًا كما حاربت الاستعمار، ودعت إلى التحرر الاجتماعي والمحبة والتسامح والعمل، إلى جانب دعوتها إلى تحرير البلاد وصدّ العدوان. وهكذا رسمت أغاني سيد درويش هوية مصرية شاملة، تقوّض بالسخرية والنقد كل ما يقوّضها، وتعلي كل القيم التي من شأنها أن تصونها وتحررها.
استطاع سيد درويش أن يترك أثرًا عميقًا في وجدان المصريين، بل ما زالت ألحانه ـ على الرغم من مرور مائة عام عليها- تحاور أبناء الشعوب العربية بعامة، طالما أنها لم تحرز استقلالها السياسي ولم تحقق أهدافها في الحرية والعدالة الاجتماعية. ذلك يفسر استمرارية إعادة إحياء أغاني درويش لغاية اليوم، خاصة على يد الجيل الشاب من الموسيقيين العرب.
سيد درويش فنان انطلق من قلب الشعب، وارتبط بواقع حياته المعقد والمأساوي، وعايش أحداثه، فجاء فنه صورة صادقة لمصر، لتشكل أغانيه وألحانه قاموسًا موسيقيًا شمل صورًا عن تطلعات الشعب الوطنية، وأحلامه في العدالة والمساواة، وواقعه بين شقاء وظلم، إضافة إلى صور عن مجد مصر وتاريخها وحضارتها، وطبيعتها الغنية بريفها ونيلها. لقد مثلت تجربة سيد درويش علامة فارقة فى تاريخ الموسيقى المصرية، تحقّق معها ميلاد اللحن القومي محملًا بنبض الروح المصري بكل ما فيه من سحر وتألّق وشجن.
مراجع مختارة:
فكري بطرس، فنانو الاسكندرية، مصر: الدار القومية للطباعة والنشر، 1964.
حسن درويش، سيد درويش في عيون أصدقائه، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2004.