}

الدبكة الفلسطينية: حارسة الذاكرة الشعبية منذ الكنعانيين

أوس يعقوب 14 ديسمبر 2023
استعادات الدبكة الفلسطينية: حارسة الذاكرة الشعبية منذ الكنعانيين
أدرجت اليونيسكو الدبكة الشعبية الفلسطينية على لائحة التراث الثقافي

أدرجت الدبكة الشعبية الفلسطينية، في الخامس من الشهر الجاري، على اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية، خلال الدورة الثامنة عشرة للجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونيسكو". وبهذا يكون لفلسطين الآن ثلاثة عناصر مدرجة على لائحة التراث الثقافي غير المادي، هي الحكاية والتطريز والدبكة، إضافة إلى ستة ملفات مشتركة مع دول عربية، من ضمنها النخلة والخط العربي.

أغاني الدبكة تذكر بخصال الأرض

تعدّ الدبكة الشعبية الفلسطينية موروثًا يلازم الفلسطينيين في أعراسهم وأفراحهم، ويحرصون على توريثه من جيل إلى آخر خوفًا عليه من الضياع وحفاظًا على هويتهم من الاندثار.

والدبكة رقصة فولكلورية شعبية منتشرة في فلسطين والأردن، وسورية ولبنان والعراق، وهناك بعض الفروقات التي تميز هذه الرقصة في كل بلد عن الآخر، وتمنحه صفته الخاصة، وتتكون فرقة الدبكة من مجموعة تزيد عادة على 10 أشخاص يدعون "دبيكة"، وعازف المجوز واليرغول أو الشبابة والطبل والمغنى (القوّيل)، وكلما زاد عدد الراقصين وكثر، زادت البهجة وتضاعفت المتعة الفنية.

وتعتمد رقصات الدبكة على الإيقاع الجماعي، والتزامن الدقيق المنضبط بين خطوات الراقصين، ومن تقاليدها عادة، ارتداء الراقصين لثياب شعبية تختلف باختلاف المنطقة ولكنها جميعًا مستوحاة من ألبسة الريف التقليدي، وأدوات ومعدات تقليدية خاصة، حيث يتميز أداء المشاركين فيها من الرجال والنساء بالتناغم، إذ تتشابك أيدي الراقصين وتهتز أكتافهم، ثم تروح أقدامهم وتجيء يُمنةً ويُسرة تضرب وجه الأرض، ما يشعل حماس الجمهور، وتكرس معاني الشهامة والفروسية والإيثار والتسامح.

أما الأغاني المرافقة للدبكة، فتختلف مواضيعها بين القضايا الوطنية البارزة في التاريخ الفلسطيني والجانب الاجتماعي الذي يتحدث عن المهاجر والفلاح وغزل الحبيب، مثل: "يا بو قذيلة ظفيرة الشعر، منثورة مشيك دلال وغندرة، زينك ما شفته في العرب ولا بسرايا معمرة، محمد يا زين الحارة يا أبو زنود الجبارة، وقفت ع الباب وصارت تومي لي... والهوى يلعب بالجداديلي وأنا بتلفت تشوفلي حيلة... قالت اطمن ما حدا هونا".

وبعد نكبة 1948، أصبحت أغاني الدبكة تمدح تراب الوطن وتذكر بخصال الأرض الفلسطينية، مثل أغنية "يا طير الطاير سلم على البيرة وع القدس الشريف... تراب بلادي سجاد حرير والميا بلسم والبعد جنون"، و"يا أرض بلادي يا بعد روحي عنك ما أتنازل والله وما بروح... ع ترابك باقي وما أرحل من هونا... ولو قطعوني وما داوو جروحي".

وللدبكة قائد هو أقرب ما يكون إلى المايسترو، ويكون في أقصى يسار الصف، الذي يتحرك دائمًا في اتجاه اليسار ويتبع قائده، وأحيانًا ينفصل هذا القائد عن الصف ويتقدمه، ليؤدي بعض الحركات المنفردة، ويؤدي الصف من خلفه الحركات نفسها، وقد تمسك يده اليمنى بعصا أو مسبحة أحيانًا.

وعادة ما تكون الدبكة في الأماكن المفتوحة والساحات العامة، وكذلك في القاعات والصالات المغلقة وعلى خشبات المسارح.

أشهر أنواع الدبكة الفلسطينية وجذورها

يحرص الفلسطينيون على توريث موروثهم وتراثهم وفنونهم الشعبية من جيل إلى آخر؛ خوفًا عليه من الطمس والضياع، وحفاظًا على هويتهم من الاندثار. وما الدبكة الشعبية إلا إحدى أهم صور هذا التراث والفنون، الذي يستند إلى إرث فني وثقافي وحضاري يمتد زمنًا طويلًا عبر التاريخ، تشتبك الأيدي خلال أدائها كدليل على الوحدة والتضامن، وتضرب الأرجل بالأرض بخطوات أخّاذة بالغة الحيوية كدلالة على العنفوان والرجولة، ترافقها أغان تعبر عن عمق الانتماء للأرض الفلسطينية التي يحبها هؤلاء، وفيها الترحيب بالعائد من السفر، وفيها مداعبة الطفل، وذكرى الحبيب، وذكر أوصافه وجماله وخصاله، وفيها الفخر والحماسة.

والدبكة الشعبية الفلسطينية أنواع؛ أشهرها وأولها دبكة الدلعونا: وهي ذات إيقاع متوسط، وأصبحت الدلعونا تغنى بأغانٍ جديدة الكلمات دون تغير في الرتم مع اختلاف في النغمات أحيانًا، كأن نقول مثلًا "على دلعونا" ونضع أي كلمات نريدها حسب المناسبة.

وثانيها دبكة ظريف الطول: ينتشر فيها المديح والبحث عن مناقب البنت الحلوة أو الفتى، أو المناقب الموجودة في البشر، وهي تستخدم عادةً في الغزل خلال الأفراح والمناسبات الأخرى.

وثالثها دبكة الدحِّيّة: ينتشر هذا اللون من الدبكة عند البدو وهي خاصة بهم، وفيها تصفيق بطريقة خاصة تسمى "تسحيجات"، ويردد المشاركون كلماتٍ قد لا يفهمها الآخرون.

ورابعها الكرادية أو الطيارة: تتميز بالإيقاع السريع، فلا بدّ أن يكون من يزاولها يتمتع باللياقة، والحركة السريعة، ويكون لديهم تجانس في الحركة مع أقرانهم.

تتنوع أشكال الدبكة التي يستخدم فيها المجوز واليرغول والشبابة والطبل، إضافة لما ذكر أعلاه، من "الوحدة ونص، والشمالية، والشعراوية، والدرازي، والسبعوية". وهناك أيضًا دبكة "حبل مودّع"، وهي دبكة مختلطة يشترك فيها الرجال والنساء والشبّان والصبيان، وكانت شائعة في قرى الساحل الممتدة بين عكا ورأس الناقورة وقرى شمال فلسطين.

وتختلف هذه الأنواع في حركاتها وإيقاعها، فـ "الوحدة ونص" يقفز فيها الدبيكة قفزة بسيطة بالرجلين ويخبط واحدهم خبطة بسيطة باليمين، ثم بالقدم الشمال، حتى تصبح الأرجل شكل خبطة واحدة. أما "الشمالية"؛ نسبة إلى شمال فلسطين، وخاصة حيفا، فمعروفة بأنها تبدأ وتنتهي بالقدم اليسار، وتدبك على أنغام المجوز واليرغول وتحتاج إلى لياقة بدنية عالية كونها تتميز بحركاتها السريعة، وتدبك مع رفع الأيدي على الأكتاف، وتتفق معها "الشعراوية" بالإيقاع التي تدبك بشبك الأيدي على أنغام اليرغول.

كانت الدبكة قبل النكبة الفلسطينية عام 1948 تأخذ طابع المناسبات، ولكنها أصبحت بعد ذلك العام شكلًا من أشكال النضال الوطني


أما "الدرازي"، فتُدبك على أنغام المجوز بحركات هادئة وبطيئة، وأخيرًا، "السبعوية" التي تُقرع فيها سبع قرعات تنتهي السابعة بالقدم اليمين.

ويرى مختصون أن "أساس الدبكة هي أغنية دلعونا الشهيرة، والتي كانت تتحدث عن أجواء المعونة للعائلات فيما بينها؛ ثم أصبحت الكثير من الأغاني تدخل على إيقاعها مثل ظريف الطول والميجنا وأغاني السحجة والدحِّيّة وغيرها".

وترتبط الدبكة الفلسطينية بأناشيد وأهازيج وطنية تحكي فكرة الحنين لفلسطين وارتباطًا بما حلّ بشعبها من تهجير ونكبة وترحيل قسري، بينما تعود جذورها إلى أصول قديمة تمتد إلى أكثر من ألفي عام.

وبحسب الخبير في التاريخ الفلسطيني، د. ناصر اليافاوي، فإن الدبكة "هي عبارة عن رقصة دينية في الأساس تعود أصولها إلى الكنعانيين الذين كانوا يؤدون الرقص كشكل من أشكال الصلاة والتقرب من الآلهة، ومنها إله القمر الفلسطيني الذي سُميت بعض المُدن باسمه تقديسًا له، وكان الكنعانيون عندما يبزغ القمر يصطفون على شكل هلال ويقومون بصفقات مرتبة وتدريجية، يقدمونها كرسالة إلى إلههم؛ ليرضى عنهم وليكون محصول العام وفيرًا". يضيف د. اليافاوي أنه "من تلك الرقصات أيضًا رقصة كان يؤديها الصيادون الفلسطينيون على شاطئ بحر يافا وغزة الذين عرَفوا أقدم الحضارات في العالم، وسميت أغنيتها بـ "ليه صا" بمعنى إله الصيد، وكانوا يقومون بها باعتبارها نداء لإلههم الذي يأخذ رأس إنسان وشكل سمكة؛ وهي عبادة دورية أسبوعية. بالإضافة إلى رقصة خسوف القمر الذي كانوا يعتبرونه حدثًا مقدسًا، ويعتقدون أن حوتًا في البحر قد ابتلع إلههم "القمر"، فكانوا يغنون له بكلمات تدعو إلى أن يتركه".

كذلك، "هناك صلاة الاستسقاء التي كانت تؤدى عبر رقصة واحدة، لها أبعاد شرقية، وأيضًا رقصة عصير العنب التي كانت تتم في الخليل، المعروفة بعنبها الأسود ذي الحبات الكبيرة. وفي موسم قطاف العنب كانوا يعصرونه نبيذًا يُصدّر إلى كل العالم، وخلال عصره يؤدون رقصة تُعبر عن حضارة فلسطين، وأصالتها التي توجد فيها أقدم حضارات العالم"، وفقًا لما يذكر د. اليافاوي.

يضيف الخبير في التاريخ الفلسطيني أن هذه المواسم والرقصات والعبادات هي التي شكّلت حضارة فلسطين القديمة، ومنها انبثقت الدبكة الفلسطينية التي تستوحي كلمات أغانيها من واقع فلسطيني بحت. ولكلماتها بُعدان اثنان، يوضحهما قائلًا: الأول؛ "جفرا" وهي ترمز إلى الفتاة الجميلة التي ينادي عليها محبوبها بهذا الاسم الذي يُشير إلى معنى العنز البيضاء الجبلي الجميل، أو أنثى الغزال ذات العيون الفاتنة، والثاني؛ "دلعونا" وهو مشتق من اسم "عناة"، وهي ابنة الإله "أيل"، إله الخصب والحب والحرب عند الكنعانيين.

"سطو إسرائيلي" في إيطاليا

كانت الدبكة قبل النكبة الفلسطينية عام 1948 تأخذ طابع المناسبات، ولكنها أصبحت بعد ذلك العام شكلًا من أشكال النضال الوطني، وهو ما جعلها تأخذ شكلًا منظمًا خاصةً منذ بدايات تأسيس فرق الدبكة في فلسطين والشتات أواخر سبعينيات القرن العشرين، وأصبح العمل على هذا النوع من التراث يتم بشكل منسق بهدف نقل حضارة الشعب الفلسطيني وتراثه للمحافل العربية والعالمية.

وباءت كل محاولات الاحتلال الإسرائيلي طمس الهوية الفلسطينية بكل تعبيراتها، ومحاولات السطو على الدبكة الشعبية الفلسطينية ونسبها إلى "إسرائيل" بالفشل، حيث بدأت بقوة محاولات الاحتلال الشرسة في سرقتها كل يوم ونسبتها إليه، من خلال ترجمة أغاني الدبكة إلى العبرية بما فيها رمزيتها وأسماء قراها ومدنها وسرقة ألحانها؛ عبر تشكيل ما سمته فرقة "الفنون الشعبية الإسرائيلية"، والتي قدمت العديد من نماذج الفولكلور الشعبي الفلسطيني الراقص، وخاصة الدبكة، خلال مشاركتها في مهرجان اللوز بمدينة أغرجنتو الإيطالية، في آذار/ مارس 2010. حينها، نسبت "الفرقة الإسرائيلية" الدبكة إلى تاريخها الثقافي والفني، وقدّمتها لجمهور المهرجان باعتبارها من "الفنون الإسرائيلية". بحسب ما ذكرت -آنذاك- صحيفة "الخليج العربي" الإماراتية، في مقالٍ لها بعنوان "سطو إسرائيلي".  

ورغم تلك المحاولة وغيرها من محاولات السطو المتكررة، فقد حافظت الدبكة الفلسطينية على استمراريتها وحضورها في كل المناسبات؛ فيكاد لا يخلو عرس أو احتفال فلسطيني في أي مكان في أنحاء العالم منها، وغالبًا ما يبادر الشبان الذين يجيدون أداءها للمشاركة في هذا النوع من الفن خلال الاحتفالات الخاصة والمناسبات الوطنية والمهرجانات.

"الفنون الشعبية" أقدم فرق الدبكة الفلسطينية

أسست فرقة "الفنون الشعبية الفلسطينية"، التي توجت كرائدة للرقص الشعبي الفلسطيني، كفرقة دبكة وإنتاج موسيقي، عام 1979 في مدينة البيرة، ضمن سياق اجتماعي سياسي رافق مسألة الحفاظ على الهوية الوطنية وأشكال تجلياتها التي كانت جزءًا منها. وهي بذلك تعتبر أقدم فرقة شعبية فلسطينية، تضم أكثر من 200 متطوع و120 راقصًا وأنتجت أكثر من 15 عملًا فنيًا، وهي تقسم إلى ثلاث مراحل عمرية هي "براعم الفنون" و"الفنون" و"عمالقة الفنون".

تقدم فرقة "الفنون الشعبية الفلسطينية" شكلًا جديدًا جوهره التراث، ولكنها تنتجه بشكل مختلف في كل مرة كي تبعث التجديد فيه وتبقيه حيًا بطرق عدة؛ غير أن البعض يرى بأن الحفاظ على التراث بشكله التقليدي هو الطريقة الأمثل لإبقائه حيًا.

وتشارك الفرقة منذ تأسيسها في عروض مختلفة داخل فلسطين المحتلة وخارجها؛ وهي تمثل فلسطين في منصات ومحافل عربية ودولية عدة، وفي رصيدها أكثر من 1000 عرض محلي وعربي ودولي، ولها جمهورها الكبير الذي يجد في عروضها طريقًا لفلسطين المحتلة.

وحصدت الفرقة العديد من الجوائز وشهادات التقدير المميزة، وهي تعمل على تطوير الفنون الأدائية في فلسطين، للمساهمة في الحفاظ على الهوية الثقافية الفلسطينية وتعزيز روح الانتماء والتعبير والإبداع والعمل الجماعي من خلال رؤيتها الخاصة التي تجمع بين الأصالة والحداثة.

ومنذ الثمانينيات بدأت تتشكل فرق دبكة داخل فلسطين المحتلة وفي الشتات وفي المنافي البعيدة، مثل فرقة مرج ابن عامر، وفرقة حنظلة، وفرقة الوحدة للفنون الشعبية، وفرقة الهدف، وفرقة الأصايل، وفرقة العصرية للفلكلور الشعبي، إلى جانب مجموعة من الفرق التي ظهرت في الشتات مثل فرقة العاشقين، وفرقة الأرض في سورية، وفرقة باقون في أوروبا الشرقية، وفرقة سائد في أميركا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.