}

"نجران تحت الصفر": حضور قوي لتجربة روائية أولى

راسم المدهون 22 ديسمبر 2023
كان لافتًا أن تكون أولى روايات يحيى يخلف "نجران تحت الصفر" الصادرة في بيروت عام 1977 بسردية أحداث وقعت في جنوب الجزيرة العربية، وأنها أتت بعد مجموعات قصصية أصدرها الكاتب، وحققت نجاحات لافتة، سواء حين قرأناها في مجلة "الآداب" اللبنانية الشهيرة، أو حين جمعها بعد ذلك في مجموعات قصصية.
هي تجربة أولى تجاوزت عثرات التجارب الأولى وتلكئها عند مستوى البدايات، وحملت روح المغامرة من خلال معالجة قضية بالغة القسوة واقعيًا، نجحت في نسج نسق روائي يطمح إلى بلوغ غايته في كتابة جديدة تقيم علاقة مع قارئها في صورة حقيقية وحيوية.
"نجران تحت الصفر" تقول "حدثها"، أو بالأدق حكايتها كلها، بتكثيف بالغ في فصلها الأول، وكأنها تقدمه مانشيتًا يتبعه بعد ذلك تفصيله في تركيبية فنية تعتمد سردية الجملة القصيرة التي تقول وتتابع القول على نحو فيه كثير من حدّة العبارة وتعبيريتها، وربما أكثر من ذلك. وأتذكر أن يخلف كتب تلك الرواية الآسرة كقصة قصيرة، أو أنه على الأقل نشر الفصل الأول منها باعتباره قصة مكتملة بذاتها. هو فصل جارح تقف فيه السطور والكلمات على رؤوس أصابعها، فلا نلبث مع القراءة أن نقلدها ونلهث معها في ملاحقة الحدث السردي ومتابعة تفاصيله الكاملة.
كثر من النقاد رأوا "نجران تحت الصفر" واحدة من أهم مئة رواية عربية صدرت في القرن العشرين، وهي بقيمتها الفنية، وسرديتها الحدثية، لا تزال تتمتع بمكانتها المميزة في مسيرة صاحبها الروائية، والتي أنتجت حتى اليوم عددًا وافرًا من الروايات، وحققت نجاحًا وانتشارًا، بل ودخلت المناهج الدراسية الرسمية لإحدى الدول العربية زمنًا طويلًا، وأعيدت طباعتها مرات متكررة.
الحدث المركزي في "نجران تحت الصفر" هو إعدام "اليامي"، وهو لا يلبث أن يبوح لنا بكل ما يتصل به ويجعله ممكن الحدوث: اللافت هنا هو "المشهد"، وقد قدمه الكاتب بسطوعه الكامل في صورة صادمة بالتأكيد، بل لا نبالغ حين نقول إنها تستفيد من فن القصة القصيرة، وتقاربها إلى حد التماثل، لكنها تبدأ بعد ذلك في "تشريح" ذلك الحدث الصاعق والمشحون بدرامية قاسية، وسنرى لوحة إعدام "اليامي" تفرض ذاتها كحالة على كل ما بعدها، من خلال اللغة المتوترة، والجمل القصيرة التي يتبادلها بشكل خاطف أشخاص الرواية الأساسيون والثانويون، والتي  تعكس القلق والتوتر والخوف، وتضمر في الوقت نفسه الوجع الاجتماعي.




ومع أن موضوع الرواية ينبني على حدث سياسي مباشر وواضح يأتي النسق الفني عاليًا، وفيه كثير من أواصر العلاقة الحيوية بين المضمون وشكله، فنرى الوقائع السياسية والاجتماعية المباشرة تكتسي صيغًا شكلية فيها كثير من مفردات التشويق، وتختار لغة لها دلالات مفرداتها مثلما لها علاقتها الفنية بها، فالجملة السردية في الرواية تأتي ـ غالبًا ـ مشحونة وذات إيحاء غني بالمعنى وظلاله المتعددة ما أكسب الرواية رونقًا وألقًا، وجعلها تواكب مضمون السرد ومحتواه وتنجح في إيصاله للقارئ بسلاسة.
هي رواية الحيز الاجتماعي الضيق بما هو تقاليد قاسية وواقع ينضح بالظلم والفقر في فترة تلامس الحرب اليمنية الأولى بين الجمهورية اليمنية الجديدة، وبين من ظلوا مع الإمام، الحرب التي كانت لها نتائجها الفادحة على ضفتي الصراع، وهي كرواية أولى قدمت أسلوب يحيى يخلف في الكتابة الروائية: الجمل القصيرة المتتابعة وبالغة التكثيف والتعبيرية سنراها بعد ذلك، وفي صورة جميلة في روايته "نشيد الحياة"، التي عالجت حرب عام 1982، واجتياح لبنان، وصولًا إلى بيروت، وهي لغة تنامت وأصبحت أكثر ارتباطًا بسياقاتها، وبالمناخ العام للرواية، ذلك التنامي الذي سيخرج من حالاته الأولى، ويتوغل عميقًا في روايات يخلف اللاحقة، والتي شكلت جميعًا على مدار العقود الأربعة الفائتة قوام تجربته الأدبية والتي ظلت طيلة تلك العقود في الصفوف الأولى لكتاب الرواية الفلسطينية وفرسانها.
لافت أيضًا أن "نجران تحت الصفر" تقارب "الرواية القصيرة"، أو كما يحلو للبعض "القصة الطويلة"، وهو نموذج رأيناه عند يحيى يخلف بعد ذلك في "تفاح المجانين"، وكذلك في "تلك المرأة الوردة"، وهي روايات تأخذ انتسابها لجنس الرواية من خلال اعتمادها شروط البنائية الروائية أكثر من مساحتها، وهي تفترض بالضرورة أن تقوم في صورة كاملة على لغة الجمل القصيرة والمكثفة، والتي تحتوي بالضرورة صورًا ورسمًا يحيلها إلى مشاهد درامية متوترة وذات إيقاع مفاجىء يشد القارىء. هي أيضًا بنائية روائية سيتابعها يخلف خصوصًا في "بحيرة وراء الريح" التي تنتمي إلى أدب استرجاع المكان الأول، وتحاور الذاكرة مثلما تحاور التاريخ والراهن، وتقع زمنيًا في مرحلة متوسطة من تجربة الكاتب الروائية التي سرعان ما "اندمجت" بكليتها في الرواية، وتوقفت عن القصة القصيرة نهائيًا، رغم البدايات الأولى ليخلف معها منذ نشر قصصه الأولى في "الأفق الجديد" المقدسية قبل عام 1967، والتي شهدت أيضًا ولادة أدب محمود شقير، وماجد أبو شرار، والشاعر محمد القيسي، وأمين شنار، وغيرهم، والتي شكلت البدايات الأولى لهم، وأصبحوا بعدها أدباء معروفين.
"نجران تحت الصفر" رواية الحرب والحب، القسوة والظلم وأحزان الفقراء وأحلامهم في حلهم وترحالهم، وهي أيضًا رواية بطولة البسطاء والمهمشين المنسيين، حيث الحياة مأزق كبير، وحيث الرواية فن الغوص عميقًا في شعاب الحياة الاجتماعية من أجل تقديمها على نحو إنساني عميق وجميل، وكان صدورها في زمانها ووقتها تعبيرًا عن حيوية واكبت الحراك الشعبي العربي في أكثر من منطقة عربية عاشت البحث عن التغيير، وتاق أبناؤها إلى بناء مجتمعات جديدة تواكب العصر، وتستجيب لأحلام الناس وآمالهم الكبرى والمشروعة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.