}

من ماتيس إلى تومبلي: المغرب أفقًا للإبداع

فريد الزاهي 25 مارس 2023
استعادات من ماتيس إلى تومبلي: المغرب أفقًا للإبداع
"الريفي واقفًا" (هنري ماتيس/ 1912)
ما زالت المرحلة الكولونيالية، وما قبلها، تدعونا إلى استكشافها، لا فقط لمعرفة النظرة التي كان الآخر يلقيها علينا، أو للاطلاع على الطرائق التي كان يمهد بها المستعمر لاحتلال بلادنا، وإنما أيضًا، وفي جانب مشرق منها، للوقوف على الآثار التي تركتها بلدان المشرق والمغرب في نظرة الآخر، كما في إبداعاته. كان دولاكروا، في زيارته المغرب عام 1932، قد ترك لنا رسومًا ولوحات عن المغرب تشكل ذاكرة بصرية لأحواله ورجاله ونسائه. وهو من ندين له ببورتريه باذخ للسلطان مولاي عبد الرحمن. فقد كانت البعثات السفارية مناسبات يصاحبها الرسامون، ثم المصورون الفوتوغرافيون، ليتركوا لنا إرثُا بصريًا يجاوز بكثير ما تركته تلك السفارات في تاريخ المغرب من آثار. ثم صار المبدعون يرتحلون بشكل شخصي بحثًا عن الإلهام والنور وعوالم مغايرة.

ماتيس في طنجة، وعشق الزخرفي
"زهرة بالأصفر" (هنري ماتيس/ 1912)

حين حلّ هنري ماتيس بطنجة في خريف 1912، كان المغرب حديث العهد بالحماية الفرنسية. جاء هذا الفنان الذي تربى في أحضان الانطباعية، وأصبح ينتمي إلى تيار الوحشية، المغرم بالنور والألوان، بحثًا عن أنوار طنجة وطبيعتها التي وصفها له صديقه الفنان ألبير ماركي، الذي كان مغرمًا بالرحلات، وارتاد المغرب حتى بلغ مدينة فاس. لكن حظ ماتيس كان عاثرًا، فقد صادف حلوله في طنجة أسبوعين متواصلين من الأمطار الغزيرة التي كدرت عليه رغبته في العمل بالخارج. فاكتفى طيلة ذلك الوقت برسم الطبيعة الجامدة في محل إقامته. كانت مخيلة الرسام الفرنسي مليئة بالصور والأوصاف التي قرأها لدى رحالة مغرم بالمغرب هو بيير لوتي، خاصة في دفاتره عن المغرب، وفي رحلته الشهيرة بعنوان: "في المغرب". ومن كثرة تمثله لما قرأ لديه، عد ماتيس أن بيير لوتي كان يرسم المغرب باللغة.




بعد احتلال فرنسا للجزائر عام 1930، حل عدد من الكتاب والفنانين الفرنسيين في الجزائر، ثم في المغرب، وفي تونس، وعدد منهم استقروا في الجزائر. أضحى المغرب والمشرق مزارًا لكتاب وفنانين غربيين كبار من قبيل غوستاف فلوبير، وأندري شوفريون، وأوجين دولاكروا، وإتيين ديني، وغيرهم، بحثًا عن الغرابية، وعن أنوار يفتقدونها في بلدانهم في الشمال. كان الشرق في القرن الثامن عشر، وبدايات القرن التاسع عشر، يرسم بشكل استيهامي في المراسم الغربية، كما هو الحال لدى إينغر، وغيره، انطلاقًا مما تركته ترجمة غالاند لـ"ألف ليلة وليلة"، وما يحكيه الرحالة من عجائب وغرائب، وتبيعه البازارات من أدوات وإكسسوارات مستقاة من تلك البلدان. بيد أن هذا الشرق (الذي كان يعني المغرب الكبير أيضًا)، سوف يغدو سحره أقرب، لأنه لن يفتن الفنانين الرحالة بشخصياته ونسائه الخاملات المتدثرات بالقفاطين، وإنما بأنواره وطبيعته وألوانه بالأساس.
حين انقشع الجو والتحقت بماتيس زوجته وبعض أصدقائه، بدأ الفنان في إنجاز بعض اللوحات الشهيرة، من بينها بورتريه "زهرة"، و"الأمة الخادمة"، و"الرجل الريفي". وبعض المناظر من مدينة طنجة، كمنظر الميناء والمدينة من الشباك... لقد أدرك الفنان أن منزعه الزخرفي الذي كان يتميز به عن باقي الفنانين الوحشيين يجد مرتعه في الزرابي المغربية، كما في الثياب. كان هذا المنزع الزخرفي الآتي من المشرق يدفع به إلى مواجهته مباشرة مع واقعه المشرقي. لنلاحظ كيف سيسعد بالنور المغربي بعد الأمطار المتواصلة التي كدرت صفوه، كما أفصح عن ذلك في إحدى رسائله: "أنا في طنجة منذ شهر. وبعد أن رأيت السماء تمطر خمسة عشر نهارًا، وخمس عشرة ليلة، كما لم أشهد سماء تمطر مثل هذه قط، ها هو الصحو يحلّ، فاتِنًا، وعذب البهاء. وما رأيته في المغرب جعلني أفكر بمنطقة نورمانديا، بتوهج نباتاتها، لكنها هنا نباتات كم أجدها أكثر تنوعًا وزخرفية". ويقول في أخرى: "أخيرًا، مال الجو إلى الصحو، لكنه صحو متنوع. ثمة كثير من البخار، وغالبًا غيوم تضفي على المناظر الطبيعية ظلالًا عجيبة. إنه منظر رائع، غير أنه غير ملائم كثيرًا للاشتغال على الطبيعة...".

ساي تومبلي (1953)

في العام الموالي، سيعود ماتيس إلى طنجة في الصيف، وسوف يجد أنوار المغرب في انتظاره. وسيكمل ما بدأه، معتمدًا نظام اللوحات الثلاثية. لكن إلى أي حدّ شكلت أعمال "الرحلة المغربية" تحولًا في مسيره الفني؟ الحقيقة أن ماتيس وجد في عوالم الطبيعة والأشياء في المغرب ما أكد له أمرين: الطابع الزخرفي الموجود في الزرابي والألبسة، والذي يمكن اعتباره مدخلًا نحو تجريدية وتوريقية ورمزيات تشكل أسس الحضارة بهذا البلد؛ والانزياح شبه التجريدي عن الرسم الواقعي الذي يجعل من بورتريهاته المغربية أشبه بمنمنمات حية وحيوية. لقد منحت الرحلة المغربية هذه للفنان نفَسًا جديدًا لم يزعزع مسيره بقدر ما أغناه وأخصبه وأكده في توجهاته العامة. ولو نحن تصورنا أنه توغل في المغرب حتى الصحراء، كنا سنتوقع تحولات أكبر قد تخلخل منظوره للتصوير وللنور أيضًا.

مدن ولوحات وانزياحات
ساي تومبلي (1953)

لم يكن الأوروبيون الوحيدين الذين استهواهم المغرب. فقد كانت طنجة، بطابعها الدولي وموقعها الاستراتيجي في مدخل البحر الأبيض المتوسط، مزارًا آمنًا و"إكزوتيكيًا" لعدد من الكتاب والفنانين الإنكليز والأميركيين، الذين وجدوا فيها، منذ مطالع القرن، مرفأ للإطلالة على أفريقيا. كانت طنجة مدينة ساحرة بكل المعاني، تختلط فيها الأجناس والعابرون والرحالة والمغامرون والكتاب والفنانون، ويجدون فيها بوابة للشمس والترحال والصحراء غير البعيدة.
في شتاء 1952، تقدم الفنان الأميركي الشاب ساي تومبلي لمتحف فرجينيا للفنون الجميلة بطلب منحة للإقامة الفنية في إيطاليا. وكان صديقه الفنان روبرت روشنبرغ يمارس الفوتوغرافيا، هو من تكلف بتصوير أعماله ليضمّنها ذلك الملف. وكان من ضمن الأهداف التي سطّرها تومبلي لهذه الإقامة الفنية التعرف على الحضارات القديمة. بعد الحصول على المنحة، رحل ساي تومبلي إلى روما، والتحق به صديقه روشنبرغ. لكن المنحة التي اقتسمها الشابان سوف تبذَّر في الترحال، واقتناء أشياء كان يجمعها تومبلي. هكذا اضطر روبرت روشنبرغ إلى السفر في خريف العام الموالي إلى الدار البيضاء، بعد أن حصل على شغل هناك يمكّنه من جمع بعض المال. ولم يلبث تومبلي المفلس أن التحق به ليزورا معًا مراكش وجنوب المغرب. هناك استكشف الشابان تخوم الصحراء والمواقع الأثرية بالجنوب المغربي. ثم زارا طنجة والتقيا هناك بالكاتب والمؤلف الموسيقي الأميركي الشهير، بول بولز، الذي كان يقيم هناك صحبة شلة من الفنانين والأدباء، ومنهم: بريان جايزن، ووليام بورّوو، وغيرهما. وقد رافقهما بولز إلى مدينة تطوان القريبة، وجال بهما لفترة في المناطق المجاورة التي يعرفها جيدًا، والتي كان يجمع موسيقاها وحكاياتها ويسجلها.




لم يكن تومبلي مسلحًا في هذه الرحلة إلا بأقلام الرصاص، وأقلام الباستيل، وأوراق كتابة الرسائل البريدية، وبعض الكراسات. كان في رحلته تلك يزور المتاحف الموجودة، ويرسم ما تقع عليه عيناه من رسوم تجريدية محلية. هذا الافتتان بالثقافات المحلية سوف يغدو من العمق بحيث إن الشاب وجد في خزان الرموز المغربية التي لاحظها في الوشوم والزرابي، كما في الكتابات على شواهد القبور، عناصر بصرية تختلف كثيرًا عن مخزونه البصري المليء بالتصاوير التشخيصية. وهكذا سيصرح في الرسالة الوحيدة التي تشهد على مقامه المغربي قائلًا: "عدت منذ قليل من رحلة تنقيب في حمام روماني رفقة مدير المتحف المحلي هنا. إن أرض شمال أفريقيا تعجُّ بالمدن الرومانية الرائعة، وأعمال التنقيب الأركيولوجي في هذه المنطقة بدأت منذ سنة واحدة فقط (...) وأنا لا تسعفني الكلمات لأصف بها مقدار الأثر الذي أحدثته أفريقيا في عملي (وهو أثر أرجو أن يكون محمودًا)".
كانت رحلة تومبلي وروشنبرغ، على عكس رحلة ماتيس، رحلة متقشفة. فما جاء بهما للمغرب هو فقرهما، لأنهما عاشا في إيطاليا معًا بمنحة واحدة تقاسماها. لم ينجز تومبلي في مقامه المغربي لوحات. وإنما عاش تجربة فريدة قربته مما كان يتصور في ذهنه عن العوالم الأولية للثقافات الأخرى. لذلك، كان يحبل بالمشاريع، فأكْثَر منْ رسمِ ما يراه من علامات ورموز تزخر بها الثقافة الشعبية المغربية، يلتقطها حيثما استهوت عينيه. كما أنه صور بآلة روشنبرغ كل ما جذب انتباهه. ومن هذه الرسوم التمهيدية التجريدية والرمزية، التي راكمها في كراساته، حين عاد إلى مرسمه، أنجز ثلاث لوحات تعتبر خلاصة "مرحلته المغربية"، وأطلق عليها اسم ثلاث مدن مغربية: وليلي، وتزنيت، ووَرْزَزات.
تقول آن دوبيشي، المتخصصة في التجربة الفنية لتومبلي: "ومع أن أعمال تومبلي عُدَّت بمثابة حنين للعالم القديم، فإن اللوحات المغربية تكشف عن توجه مختلف. فهذه اللوحات ينبغي أن يُنظر إليها بوصفها متعددة في الزمان وفي المكان معًا. إنها أقل ثباتًا من الطرْس، وتحمل إيحاءات متحركة متعددة، وتتطلب قراءة متأنية تعمل، من ناحية، على الحفر عميقًا في قلب الشيء المصوَّر تشكيليًا، وفي لحظة إبداعه، وتعود، من ناحية أخرى، لولبيًا في انفتاحٍ واضح على الخارج". وهو ما يعني أن تومبلي وجد في المغرب رواسب عن عوالم قديمة يعشقها، ويرى أنها يمكن أن تكون مصدرًا أساسًا للمعاصرة، وللتجريب الفني المعاصر. كما أن عمل التنقيب الذي قام به سوف يدفعه إلى بناء لوحاته بالشكل الذي تنبني به فرشات الأرضات عند النبش فيها.
من ماتيس، إلى تومبلي، يمكننا القول بأن رحلة هذا الأخير في مقاصدها وآثارها أقرب إلى رحلة بول كلي إلى تونس. فالانصياع لمؤثرات البلد، وتراثه البصري، وخصوصيته الطبيعية، والانغماس في الرموز والآثار والعلامات والأنوار، لا يمكن إلا أن يخرج الفنان من مرجعياته ليزج به في عوالم جديدة تثير الدهشة، وتستثير الانزياحات الممكنة كافة. إنها عوالم وعلائم تنطبع في الذاكرة كما في اللوحة، لتمنح للفنان حياة إبداعية جديدة يكون الآخر باختلافه الجذري مصدرًا أكيدًا لها. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.