}

الحوار الثقافي في مرآة التاريخ

فريد الزاهي 25 أبريل 2023
استعادات الحوار الثقافي في مرآة التاريخ
(gettyimages)

 

حين نستحضر بعض لحظات الصراع والحوار والتداول الثقافي في السبعينيات والثمانينيات، نحس ببعض الحسرة مما آلت إليه أوضاع ثقافتنا المحلية والعربية. والحسرة هذه ليست آتية من الرغبة في المقارنة، فلكل فترة محدداتها الواعية واللاواعية وانجرافاتها، ومزالقها، ونقاط قوتها كما مواطن ضعفها. فمن الجانب الكمي، لا مجال للمقارنة بين تلك الأوقات والحال الراهنة. فدور النشر تكاثرت، وعدد الأدباء والكتاب والشعراء والمفكرين صار من الكثرة، بحيث لم تعد للمرء القدرة على متابعة كل ما ينشر، لا في المجالات الأخرى القريبة منه فحسب بل حتى في مجاله "المتخصص" نفسه.

فلقد كان القارئ والمثقف في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قارئًا ومثقفًا موسوعيًا، لا يكتفي بالندرة التي كانت تطبع ثقافته المغربية، بل تراه عارفًا ومتابعًا لكل ما ينشر في العالم العربي من رواية وفكر وفلسفة وسياسة وشعر ونقد. كان نشر رواية أو قصة أو قصيدة في مجلة يعدّ حدثًا ثقافيًا وتُعقد حلقات النقاش حوله في الجامعات والبيوت والمقاهي، وتُتداول النسخة التي وصلت منه بين الشُّلات والمجموعات الثقافية الشابة. ولم يكن ثمة فرق بين الأستاذ الأكاديمي والمثقف العمومي، لأن كليهما يمارسان التدخل في الأحداث ويتفاعلان معها، كل على طريقته وتبعًا لممكناته التواصلية. كان الحوار الثقافي يتم باستمرار والتفاعل النقدي أمرًا لا مندوحة عنه، بين الخطيبي والعروي مثلا بالمغرب، وبين عابد الجابري وحسن حنفي عن التراث... حتى لا نتحدث عن صراعات أخرى وحواريات مغايرة.

الفكر والمنهج رهانًا للتطور

في الوقت الذي كانت تثار فيه النقاشات السياسية عن الثقافة والثقافة الشعبية وعلاقة السياسي بالثقافي بالمغرب في أواخر السبعينيات على صفحات مجلات من قبيل "الجسور" و"المقدمة" و"البديل" و"المشروع" وغيرها، كان الفضاء الأكاديمي (المنفتح انفتاحًا كاملًا على المجال الثقافي)، يطرح من جانبه أسئلة مغايرة، بعلاقة وطيدة مع التحولات الثقافية التي كان يعيشها الفكر المغربي. إنها أسئلة المنهج في التاريخ والأدب والتراث واللغة التي بادرت جمعية من الأكاديميين حينها بطرحها في ندوة جمعت أغلب مفكري وجامعيّي ذلك الوقت (عبد الله العروي وعابد الجابري وعبد الفتاح كليطو والفاسي الفهري) حول قضية المنهج في الأدب والعلوم الإنسانية، وأصدرتها منشورات توبقال في العام نفسه. لقد كانت الندوة هذه مثارًا للنقاش من قِبل من حضروها من فلاسفة وإبستمولوجيين كمحمد عزيز لحبابي وعبد السلام بنعبد العالي وبنسالم حميش وسالم يفوت ومحمد وقيدي، وغيرهم.

لنقلْ بدءًا إن طابع الحوار الثقافي عن المنهج، كان في ذلك الوقت أشبه بالضرورة المعرفية. ونحن نستعيد هذه الندوة ندرك أن طرح هذه القضية كان ضربًا من محاولة التقعيد لحركة فكرية كانت في بداياتها، ولثقافة كانت تسعى إلى التفكير في أساليبها وأدواتها وموضوعاتها ورؤاها النقدية. إنها كانت تطرح مسألة الحصيلة لا بالنظر إلى ما بلغته من مستوى وإنما بالنظر إلى الطرائق والمنظورات التي تستخدمها في تناول موضوعاتها الأدبية والفكرية والتاريخية واللغوية. فالمعروف أن العروي كان مؤسسًا لنظرة تاريخانية للتاريخ وأن كليطو كان يؤسس لنظرة خصوصية للأدب تعتمد القراءة العميقة والتأويل وتوليد المعاني والدلالات، والبحث عن الصامت وغير المفكر فيه، فيما كان الجابري في عز بناء نظريته للعقل العربي في التراث، والفاسي الفهري (ومعه أحمد التوكل) يسيران قُدمًا في بناء لسانيات توليدية ووظيفية بالجامعة المغربية.     

وإذا كان المشاركون، كما المناقشون، يطرحون قضية المنهج في تلك الفترة فلأن الدراسات الأكاديمية في مجالات الفلسفة والعلوم الإنسانية كانت قد بدأت ترسخ جذورها وتحقق تراكمًا هامًا بالجامعة المغربية، باللغتين الفرنسية والعربية، من شخصانية لحبابي إلى تفكيكية الخطيبي، مرورًا بتاريخانية العروي، وانتهاء بالباحثين الجدد الذين تمحورت أبحاثهم حول مجال الإبستمولوجيا كسالم يفوت ومحمد وقيدي، وحول الدراسات الرشدية كجمال الدين العلوي ومحمد ألوزاد. بيد أن قضية المنهج اليوم لم تعد في أوساط الجامعيين والباحثين المغاربة قضية فكرية وأنطولوجية (كما وصفها العروي)، بل قضية برنامجية تنظيمية يتم فيها الخلط بين الطريقة والمنظور الفكري، كما أشار العروي إلى ذلك بوضوح: "أريد في البداية أن أحدد بعض المفاهيم. إنني أميز تمييزًا واضحًا بين: - المنهج، أو كما يقال في بعض بلاد المشرق العربي البرنامج، أي الطريقة التي تُتبع لعرض موضوع من المواضيع – والمنهجية، وهي علم قائم بذاته، يأخذ الطرائق المتبعة في دراسة الآداب والتاريخ والاقتصاد وعلم النفس، إلخ... لينظر في أسسها العامة المنهجية، أي دراسة استقرائية تصنيفية مبنية على المقارنة – والإبستمولوجيا أو النظرية المعرفية التي تحول الفصل في مسألة قيمة المناهج بالنظر إلى هدفها العام، أي تحاول أن تكشف عن الواقع الذي نصل إليه بواسطة كل منهج. أقدم هذا التمييز لأن الاعتراضات التي يوجهها النقاد لا تفرق بين المستويات المذكورة. وما يحصل عادة، هو أن برنامجًا يعطي نتائج مُرضية يروح صاحبه ينظر في أسسه المنطقية، وهكذا يقفز من المستوى الأول إلى الثاني، وعندها يقدم الأساس المنطقي على أنه لبّ الواقع، فيجيب على سؤال إبستمولوجي، فيصبح البرنامج فلسفة أو بكلمة أخرى أنطولوجيا".

معروف أن العروي كان مؤسسًا لنظرة تاريخانية للتاريخ وأن كليطو كان يؤسس لنظرة خصوصية للأدب تعتمد القراءة العميقة والتأويل وتوليد الدلالات


والحقيقة أن هذا الخلط هو الذي لا تزال تتواتره الدراسات الأكاديمية الجامعية لحد اليوم. فالطالب كما الباحث لا زال يميز بين الذاتية والموضوعية في مجال علوم إنسانية واجتماعية لا يمكن الفصل فيها بين الذاتي والموضوعي. وهو، فضلًا عن ذلك، يفصل فصلًا بين الأسئلة المنهجية والنظرية والدراسة التطبيقية، فيعيش سكيزوفرينيا المنهج/الموضوع، بحيث لا يدرك أن أهمية المنهج والمنهجية تأتي من قدرته على إخصاب الموضوع والعكس بالعكس. ففي الحين الذي كان فيه سؤال المنهج (الميتودولوجيا) لدى مفكرينا هؤلاء سؤالًا خصبًا لتأسيس منظورات ناجعة وواعية بذاتها في مجال الدراسة والبحث، غدا لدى طلبة وباحثي اليوم استيهاما ضبابيا يحجب عنهم مواضيع بحوثهم.

لكن أهم ما يقدمه العروي هنا (وهو ما شكل موضوع كتاب صغير وثوري أصدره في أواخر الثمانينيات عن القراءة والتأويل) هو تمييزه بين القراءة والتأويل في تناول الوثائق التاريخية، وهو تمييز سوف يغدو عصب الدراسات في تلك الفترة. وهو، كمؤرخ، وبالرغم من عقلانيته الواضحة يوازن بين المنهج والموضوع، ويخلق بينهما تواشجًا ينبني على الملاءمة.

من المنهج إلى المغامرة التأويلية

في الكتاب نفسه يبدو أن أستاذ الفلسفة ورئيس الجمعية المنظمة، الطاهر واعزيز، حرص في مقدمته على إبراز التعددية المنهجية إذ "لم يعد من الممكن الإيمان بوجود منهاج قائم على مبادئ دائمة يلزم الخضوع لها في ما يتعلق بمسائل العلم (...) المناهج، مهما تكن، يأتي عليها يوم، بعد أن تعطي كل ثمارها، فتفقد خصوبتها وتصبح عاجزة عن أن تفيدنا بشيء أو تعرفنا بجديد. ولذا فإن أنجع ما يكون في حديثنا عن المنهاج، ليس في ضبط قواعده وتحديدها أدق تحديد، ولا أن يقوم وحده - حسب م. سيرّ- كصرح نسقي أو معياري، ولكن عندما يكون خصبًا هنا والآن". وهو قول يلزمنا أن نجعله شعارًا لمراكز دراسات الدكتوراه في جامعاتنا، التي تجعل باحثينا الشباب يتوجسون خوفًا من المنهجية والنظرية ويقضون في تناولها والبحث فيها فيضيعون ثلثي وقتهم، وينسون الموضوع الذي يدرسونه، وكـأن موضوع بحثهم الأساس هو الميتودولوجيا ومعياريتها ونسقيتها!

أهم ما يقدمه العروي هنا هو تمييزه بين القراءة والتأويل في تناول الوثائق التاريخية، وهو تمييز سوف يغدو عصب الدراسات في تلك الفترة

أما محاضرة عبد الفتاح كليطو فأقل ما يقال عنها إنها في ذلك الوقت (أي وقت المنهجيات البنيوية والسيميائية) درس افتتاحي بليغ في ما أسميه الذكاء التحليلي والتأويلي والمعرفي للنصوص. وهو يطرح أسئلة القراءة باعتبارها تكون وجيهة في كل حالاتها لأنها كلها تكون عسفية و"بروكستية"، أي تطوع النص لمقاصد القارئ المحلل المؤول: "نتكلم أحيانًا عن القراءة المُغرضة، أو التأويل المغرض. ونقصد بهذه العبارة القراءة التي تصدر عن سوء نية، عن نية مبيَّتة للإساءة إلى النص المقروء، أو إلى صاحبه. ما هي بالمقابل القراءة غير المغرضة؟ أهي التي تصدر عن حسن نية؟ ولكن ما معنى حُسن النية عندما يتعلق الأمر بالقراءة؟ يكفي أن نضع السؤال ليبرز - في ما أعتقد- مشكل كبير، وهو: كيف ينبغي أن نقرأ؟ ما هي شروط القراءة الجيدة ومقاييسها؟ هذا السؤال بدوره يُبرز مشكلًا من نوع آخر: مَن سيحكم على قراءةٍ ما بأنها جيدة أو رديئة؟ من سيقول القول الفصل؟ (...) القارئ يهدف دائمًا، من خلال قراءته إلى غاية، إلى غرض. سواء كان حَسَن النية أو سيء النية، إنه يسعى إلى إثبات غرض من الأغراض. بهذا المعنى فإن كل قراءة مغرضة". إن كليطو يبدو وكأنه يحيل إلى ما يسميه هايدغر بالأحكام المسبقة باعتبارها متأصلة في كل قراءة، وهو في الآن نفسه، خلافًا للعروي، لا يعتبر أن ثمة مستويات في القراءة، فقراءته، ضمنيًا، فينومينولوجية هيرمينوسية، بالمعنى الذي نادى به غادامير؛ أي أن عملية الفهم والتحليل والتأويل تتم في الآن نفسه وبشكل متلازم أمام النص. والقراءة التي يقدمها لحكاية الصياد والعفريت تقوده، من خلال الغوص في أحشائها كما من خلال الانتباه لظاهرها اللغوي، إلى دلالات ومعانٍ تجعل منه كشافًا لمسارب المعنى الباطنة التي لا يمكن للقارئ العادي أن ينتبه إليها. إنه منهج سوف ينعته أحد مناقشيه بالذاتي. والحال أن كليطو، كما الخطيبي، من أوائل من أدخلوا الذات للقراءة والتحليل والتأويل، وجعلوا من العلاقة باللغة سيرورة تذْويت معرفي وتأويلي في الآن نفسه.

لهذا وإن طرح كليطو مسألة المنهج ضمنًا في محاضرته، سوف يجيب عنها بشكل واضح بالشكل التالي، داعيًا إلى ضرب من التضافر المعرفي الذي يكون في خدمة العلاقة بالنض لا العلاقة بالنظرية: "مسألة المنهجية في ما يخصّ الأدب، ليس لي عنها تصور واضح وثابت. لذا سأقول، كما يقال عند التواضع: إنني أبحث عن نفسي. خذ رواية مثلًا، تجد فيها عناصر تاريخية، وعناصر نفسية وعناصر جغرافية، وعناصر اجتماعية، أحيانًا في الصفحة نفسها. فإذا بك تتحول، وأنت تقرأ تلك الصفحة، إلى مؤرخ وجغرافي ومحلل نفسي أو نفساني وعالم اجتماع... قد يقول البعض: ما يجب أن نهتم به هو ما يسمى بأدبية النص، الصيغة الأدبية للنص، وكفى. لكن ماذا سنفعل بالباقي؟".

يدعو كليطو الباحث إلى أن يغدو، كما يقول بذلك ليفي ستراوس، مُرمِّقا (bricoleur) متعدد الحرف يتعامل مع النص بخلفية متعددة المعارف. وهو بذلك يبدو كأنه يقول لنا: المنهجية يلزم أن تظل ضمنية، مثلها مثل العَروض في الشعر، وعليها أن تتبدى في تناسق القراءة والتحليل وعمقهما وغورهما في أحشاء النص. القراءة لديه إنصات لنبضات النص وتفاعل مع حيويته وتوليد لمعانيه وامتلاك لأفقه الدلالي، ورحلة معه في الزمن، واستحضار لغناه الذي ظل مستغلقا على القراء السابقين، ومن ثم ضخ لمعنى القارئ في معنى النص.

وفي هذا السياق، كم سعدت حين اتصل بي طالب في علم الاجتماع يحضّر بحث ماجستير عن الجسد لدى إحدى الفرق الموسيقية المغربية التقليدية، يطلب محاورتي بشأن بحثه، وأسرّ لي أن أستاذه شجعه على الغوص في الموضوع من دون اهتمام بالمنهجية. أخبرته أن تلك أفضل طريقة لبناء منهجية شخصية تكون نتيجة تفاعل خصب مع الموضوع. فالقراءة، كل قراءة فعلية، هي تجربة وجود وامتحان للذات إزاء الآخر (موضوع القراءة والتحليل)، وهي في كل الأحوال مغامرة خطرة قد نستهين بخصوبتها بمنحنا الأولوية للمنهج على الموضوع!   

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.