}

"الجناكي" بفلسطين قبل النكبة: عن الفن والتحرّر وأشياء أخرى

يوسف الشايب 26 أبريل 2023

لعل  الباحثة يسرى جوهرية عرنيطة كانت من أوائل من تحدث عن "الجناكي" أو "الجنكيات" في فلسطين،‏ اللاتي عرّفتهن بأنهن "مؤهلات للغناء، والرقص، والعزف على إحدى الآلات"، مشيرة إلى أن "جنكيّة" ترجع في أصلها إلى "الجنك" وهو الاسم العربي للآلة المعروفة بـ "الهارب".

عرنيطة في كتابها المرجعي "الفنون الشعبية في فلسطين"، وفق ما جاء في طبعته الرابعة، الصادرة عن دار الشروق في عمّان، وبدعم من وزارة الثقافة الفلسطينية ضمن مشروع "الثقافة والتنمية في الأرض الفلسطينية المحتلة"، تحدثت عن أبرز أسماء "الجناكي" أو "الجنكيّات" في فلسطين ما قبل النكبة، وعلى رأسهن أسمى  القرعة- فياض، و"كانت من الجناكي المحترفات في فلسطين".

واشتهرت غالبيّة "الجناكي"، حسب عرنيطة، في يافا، ومنهنّ: أم فؤاد النشار، وبديعة عبود، وفي وقت سابق "سوليكه"، وهي "من الجناكي المشهورات".

وفي حديثها عن "العادات والتقاليد المتبعة بالأعراس في القدس قبل 100 عام"، أشارت عرنيطة إلى أنه في طقس "الشوفة"، يصطحب "أهل العريس معهم الجناكي، ويبدأ الكيف والغناء والرقص"، والحديث هنا عن مسيحيي القدس، حيث يُذكر "الكهنة" و"الكنيسة" وغيرها، ممّا يشير إلى ذلك.

وفي مناسبة أخرى في الكتاب الذي كانت طبعته الأولى في عام 1968، وتحت عنوان "جلوة العروس"، وهي من طقوس يوم الزفاف، تشير عرنيطة إلى أن "العروس تدخل غرفتها لوحدها ويذهب العريس إلى إيوان الدار، حيث تجتمع جميع النساء في حفل يتخلله الرقص والغناء والزغاريد، وعند دخول العريس تستقبله الجناكي بالأغنية المعروفة (البدر لما زار يا عيني)، فيدفع لهن العريس ما تجود به نفسه من نقود".

وكان ثمة ذكر عابر لـ"الجناكي" في مذكرات والد يسرى جوهرية عرنيطة، الموسيقار والكاتب واصف جوهرية، وصدرت بجزأيها عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في حين ذكر د‏. حسيب شحادة، الأستاذ في جامعة هلسنكي، في مقال نشره في تموز/ يوليو 2011 بموقع "دنيا الوطن" الإخباري، أن "المعلومات النادرة في كتابها استقتها من والدها، الذي كان قد نسخ ما دوّنه معتوق زخريا في مذكراته عن العرس الذي حضره في القدس عام 1855".

وأفردت الباحثة منار حسن في كتابها الحديث "المُغيّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بضع صفحات للحديث عن "الجناكي" في فلسطين، مشيرة إلى أن "النساء اللاتي عملن في الغناء والرقص والعزف" سُميّن بـ"الجَناكي"، ومفردها "جَنكيّة"، وهي كلمة مشتقة من آلة عزف وترية قديمة هي "الجنك" التي يعود مصدرها، "على ما يبدو"، إلى الثقافتين الأشورية والفرعونية.

وكانت هذه الظاهرة "الحضرية"، بحسب منار حسن، معروفة في عدّة مدن فلسطينية كيافا، والقدس، ونابلس، وحيفا، في حين تعود بداية نشأتها إلى نهاية القرن التاسع عشر، وفق ما تشير سجلات المحاكم الشرعية، و"من الجائز أن هذه الظاهرة قد عُرفت قبل ذلك، وقد شكّل الاشتغال بهذه المهن لدى النساء من الطبقتين الرفيعة الإقطاعية والبرجوازية حريّة وانعتاقًا، بينما شكّلت في نظر المتشددين والمتشدّدات للمنظومة البطريركية رمزًا للتهتك، والتسيّب، وفقدان السيطرة الجندرية"، مشيرة إلى أن الشاعرة الفلسطينية المعروفة فدوى طوقان، المولودة في نابلس، ذكرت في سيرتها "رحلة جبلية رحلة صعبة"، ما يلي: كنتُ كلّما خلوتُ بنفسي أرفع صوتي: "كم بعثنا مع النسيم سلامًا للحبيب الجميل"، وتدخل الشيخة كالزوبعة: اخرسي، أغلقي فمكِ، لم يبقَ إلا أن تصبحي "جنكيّة" في تخت "هند" و"سارينا"، فيسكت صوتي فجأة، وتتعلق الأغنية في الهواء مبتورة ناقصة.

وهنا يتضح أنه كانت لـ"الجناكي" أو "الجنكيّات" في فلسطين فرق وتخوت، فكما ذكرت طوقان على لسان من وصفتها بـ"الشيخة"، ثمة تخت "هند" وتخت "سارينا" في نابلس، أي فرق تعرف بصاحباتها أو مديراتها، وعلى ما يبدو كانت مرفوضة من عديد الشرائح المجتمعية، رغم الاستعانة بهنّ في الأفراح وغيرها، لكنهن عند البعض الآخر كنّ علامة على التحرّر.

في مذكراتها المشار إليها أعلاه، قالت طوقان دون مواربة: "لو اخترقت الشيخة في تلك الأيام لوقع بصرها على أمنية قابعة هناك تحمل كل تطلعي إلى أن أصبح يومًا جنكيّة أو راقصة، فقد كان اسم جنكيّة وراقصة يرتبط بالنسبة لي بأحب الأشياء إليّ، وهو الحرية (...) فالواحدة من أولئك المحترفات كانت تملك حريّة لا يملكها عالمي الذي أعيش فيه، فليس هناك من يفرض سلطته على المغنيّة أو يقيّد خطواتها، كما كان الغناء والرقص في نظري أجمل ما في الوجود".

ومما خلصت إليه منار حسن في "المُغيّبات" أن "النساء اللاتي اخترن الاشتغال بمهن من هذا النوع، كنّ يتمتعن بحرية واستقلالية كبيرتين، وكان هذا الأمر صحيحًا بالتأكيد بالنسبة إلى العزباوات منهن... وتشير المعلومات التي استقيتها في أغلبيتها من المقابلات الشخصية، إلى أن هؤلاء النساء استأجرن أو اشترين بيوتًا خاصة بهن، وسكنّ فيها كمجموعات، وهذا ما تقوله أم محمد، يافاوية الأصل: الجنكية التي رغبت بتعلم المهنة كانت تترك عائلتها وتنضم إلى المجموعة، وتنتقل للسكن معهن في بيت خاص بهن، وهكذا تتحوّل الجنكيّة إلى سيدة نفسها، دون أن تخضع لسيطرة أحد".



وتشير المقابلات والسجلات، على حد سواء، إلى أن "الجناكي" في يافا، كنّ يسكنّ بأغلبيتهنّ في البلدة القديمة، وبعضهن في حيّ المنشيّة، وبعضهن أتين من الطبقات الفقيرة والمعوزة، وبعضهن كنّ نساء هاجرن وحدهن من مدن أخرى ومن قرى الجوار، سعيًا وراء فرص عمل.

ومن الشهادات التي أوردتها حسن في كتابها ما قالته عايدة جندي، وسكنت مدينة الرملة الفلسطينية: يافا هي موطن "الجناكي"، لأن يافا كانت تقدميّة نسبة إلى سائر المدن المجاورة... كانت هناك جنكية اسمها "أم يُمنى" أذكرها هي وفرقتها، كانت تأتي من يافا إلى غالبية الأعراس في الرملة، وأنا أذكر أنها جاءت مع فرقتها للغناء في عرس عمي وعرس ابن عمي.

وبين "الجناكي" كانت مسلمات ومسيحيّات ويهوديّات، ويشير هذا الكسر للحدود الطائفية الدينية، حسب منار حسن، إلى أن المدينة التي كانت تشكّل حلبة لليقظة القومية، تسمح في الوقت ذاته بقطع الحدود بين الفئات الإثنية والدينية.

وعملت "الجناكي" في فرق للغناء والعزف والرقص، كانت تقودها النساء الأكبر سنًّا في المجموعة، والأكثر خبرة، اللاتي عملن أيضًا وكيلات، ومثلن أعضاء المجموعة نساء ورجالًا أمام الراغبين في خدماتهن.

ودأبت "الجناكي" على تقديم عروضهن ضمن أطر اجتماعية متعددة، مثل مهرجان النبي روبين، ولقاءات "الاستقبالات" التي أجرتها نساء من الطبقتين المتوسطة والرفيعة في بيوتهن، وفي بعض الأحيان رافقن النساء في زياراتهن إلى الحمّام، الذي شكّل ملتقى اجتماعيًا وترفيهيًا للنساء، وقدّمت "الجناكي" عروضهن كذلك في المناسبات والأفراح، مثل الأعراس وطقوس العماد والظهور.

عملت "الجناكي" في فرق للغناء والعزف والرقص، كانت تقودها النساء الأكبر سنًّا في المجموعة، والأكثر خبرة، اللاتي عملن أيضًا وكيلات، ومثلن أعضاء المجموعة نساء ورجالًا أمام الراغبين في خدماتهن

ونقلت منار حسن عن أليس نورس، السيدة الفلسطينية، قولها: قدمت "الجناكي" عروضهن في الأعراس، وقد كنّ يرتدين فساتين الرقصة المزيّنة والمكشوفة، وكنّ يأتين أو يُدعين أحيانًا لطقوس العماد والطُهور، وقد زرن أيضًا العائلات التي كانت تنتظر وتتمنى ولادة الأطفال... بعدها حين كان يولد الابن ويُعمّد أو يُطهّر، كانت "الجناكي" يُدعين إلى الحفلة أيضًا.

وذهب كتاب "المُغيّبات" إلى أن قسمًا من "الجناكي" نشط خارج يافا أيضًا، وقدّم عروضه في مختلف المدن والبلدات في أرجاء فلسطين، وهذا ما يمكن أن نتبيّنه، مثلًا، من الإعلان الذي نشرته رحمة سلامة ومجموعتها في مدينة حيفا بجريدة "الدفاع"، وهي فرقة مكوّنة من "أشهر الراقصات والمطربات والفنانات"، مشيرة إلى أنها "مع جوقتها، مستعدة للقيام بحفلات الطرب في الأفراح والأعراس في المنازل، والحفلات في حيفا، أو أي بلد كان"، مستنتجة صاحبة الكتاب أن "مجرّد نشر الإعلان يشير إلى مدى الحريّة الكبير الذي تمتعت به الجناكي، إلى جانب مدى الأمن الشخصي الذي تمتعت به نساء المجموعة، وتتجلى هذه الحقيقة في نشر العنوان الدقيق لها ورقم هاتفها (محل رحمة في شارع الملوك رقم 9)"، مشيرة أيضًا إلى أن استخدام كلمة "محل" التي تعني "المكان" لا يمكن أن يوضح ما إذا كان القصد مكان السكن أو المصلحة التجارية أو الاثنين معًا.

ومن الجناكي والفرق الموسيقية المعروفة في يافا، حسب كتاب "المُغيّبات"، الفنانة الحاجة حميدة التي كانت تسكن في الحي القديم في المدينة، وفرقة شفوقة حباطة، وفرقة سارينا وفريحة وهما يهوديّتان كانتا ضمن فرقة "شفوقة" ثم انشقتا عنها لتأسيس فرقة فنانات خاصة بهما، و"النشارة"، وفرقة جميلة القباني، وفرقة زهرة الشاعرة، وفرقة نجيّة الخضري، وفرقة ثريا أيدي التي أصدرت عدّة أسطوانات، وفرقة قدورة القدسية، وفرقة أم يُمنى، ومجموعة حسون القدسية، ومجموعة حندوقة، ومجموعة أم فؤاد الشامي وابنتها نجلاء، وابنتا نجلاء: إنصاف وهلا.

واشتهرت في القدس في نهايات الفترة العثمانية (1900- 1914) عدّة جناكي وفرقهن، ومنها كما ذكر في كتاب منار حسن: حيزارون، وأمينة العمورية، وثريا قدورة، وقروسو زهران التي قال الموسيقي واصف جوهرية بأنها قدّمت عروضها في أعراس قرى المنطقة، وأمام جنود الجيش التركي، إلى جانب العزف والغناء في راديو القدس، مشبهة "الجناكي" بـ"العوالم" في مصر، و"الشيخات" في المغرب.

الباحث علي حبيب الله، وفي مقال له عن مدينة اللد في 13 تموز/ يوليو 2021 في موقع "متراس"، لفت إلى أنه بقيت "الجناكي" في أفراح المدينة تُذَكّرها بأحزانها، في تواشيحٍ كانت تشحذ ذاكرة الدمِّ والدمع فيهم، وتُذكّرهم بأمين شحادة حسونة، الذي ودّعته اللدُ وشيّعته بأكبر زفةِ شهيد، بالرصاص والرز والزغاريد، وبعبد الرزاق أبو كويك، أول زارع لغمٍ على خطّ سِكة حديد اللد- يافا، خانه اللغمُ أثناءَ زرعِهِ فَشَظّاه، فصار زرعُ الألغام عُرفًا يؤدَى وفاءً لذكراه وللمنفيين والمطاردين، ولأعواد حبال الشنق والمشنوقين، غنوا وعنّوا، ولحجار البيوت التي قاتلت مع أهلها، قبل نسفها وبعد جرفها، مشيرًا إلى أن أهل المدن في منطقة السهل الساحلي الأوسط يسمّون الفرقة الموسيقية التي تُحيي الأفراح "الجناكي"، ويسمون الراقصة بالـ"جنكية".

وهنا يقدّم حبيب الله تعريفًا بل ودورًا وظيفيًّا مختلفًا لـ"الجناكي"، فهي الفرقة الموسيقية ولسن مغنيّات "الهارب" أو "الراقصات"، وليست مهمتهن فنيّة أو ترفيهية، وإن كانت بقصد الاسترزاق أيضًا.

وحضرت "الجناكي" في غزة أيضًا، حسب ما كتبه الأكاديمي الفلسطيني د. أباهر السقا، في مقال له بموقع "فسحة" الإلكتروني، بتاريخ 11 كانون الثاني/ ديسمبر 2020، مشيرًا إلى أن غزّة كانت "من المدن الساحليّة الّتي كانت فيها حياة لهو وممارسات ثقافيّة كالرقص، ومن هذه الممارسات الحفلات الغنائيّة الّتي يتخلّلها وجود راقصات محترفات في الأعراس أو في الحفلات الخاصّة"، وكان يُطْلَق عليهنّ اسم "جناكي" أو "النوريّات"، كما هي الحال في المدن الكبيرة في المشرق، وبقي هذا النمط حاضرًا حتّى نهايات ثمانينيات القرن الماضي، "مع تصاعد الخطاب الدينيّ في القطاع والمؤسّسات الراعية له".

وأورد خيري أبو الجبين في كتابه "حكايات عن يافا" الصادر عن دار الشروق في عمّان عام 2005، نص أغنيات العرس التي كانت "الجناكي" يغنينها للعروس في يافا والرملة واللد، وكانت العروس في الجلوة تتمايل وهي ترتدي البدلة الخاصة بكل أغنية فيها بالتتابع، بينما كانت "الجناكي" يغنين تلك الأغنيات مع عزف العود أو الكمان أو دق الدف أو الطبل.

وعرّف خيري أبو الجبين "الجناكي" بـ"مغنيّات العرس"، وبأنها جمع "جنكية"، مُوثقًا عددًا من أغنيات "العرس اليافاوي" من حفظ سهاد عياد أبو الجبين وفلك صالحية أبو الجبين، وكانت "الجناكي" والمدعوات يرددنها.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.