}

"مسرح الحريّة" في جنين: تعزيز فكرة النضال الفلسطيني

يوسف الشايب 17 يوليه 2023
استعادات "مسرح الحريّة" في جنين: تعزيز فكرة النضال الفلسطيني
ملصق لجوليانو مير خميس على جدار "مسرح الحرية"

يشكّل "مسرح الحرية" في مخيم جنين حالة ثقافية وفنية منذ عقود، فهو عبارة عن مركز ثقافي بات يشكل حضورًا تجاوز الجغرافيا الفلسطينية ولم يتجاوز قضاياها بل نقلها إلى العالمية، وذلك منذ بدء إرهاصات تأسيسه عبر آرنا مير خميس التي خرجت بمسرح "الحجر"، ومن ثم ابنها جوليانو مير خميس الذي أسس "الحرية"، والأسير زكريا الزبيدي أحد "أولاد أرنا"، وغيرهم، وليس انتهاءً باستشهاد الممثل في برنامج المسرح من أجل الطفل محمود السعدي نهاية العام الماضي، والطفلة الممثلة سديل نغنغية قبل أيام من الاجتياح الأخير.

في الاجتياح الأخير استهدفت قوات الاحتلال مسرح الحرية الذي هو مركز ثقافي إبداعي في المخيم، فحوّلت المنطقة التي يقع فيها مقر المسرح إلى نقطة عسكرية لانطلاق مركباتها وجنودها، بل تم احتلال المبنى بالكامل، واستخدامه للقناصة الذين اعتلوا أسطحته ومارسوا جرائمهم، علاوة على إطلاق قنابل على سطحه، والترويج لاحتوائه على أسلحة وتحصّن مقاومين فيه، لتبرير هجوم الاحتلال الشرس على المسرح ومحيطه.

واستهدف الاحتلال أيضًا بيوت الضيافة المخصصة للفنانين والإعلاميين المتخصصين من كافة أنحاء العالم، حيث تمّ احتجاز صحافي برازيلي قبل تدخّل السفارة البرازيلية لإنقاذ حياته، بل حوّل المسرح إلى مقر لاحتجاز المعتقلين من أبناء المخيم قبل نقلهم إلى جهات مجهولة، ما يشكل استهدافًا للإبداع والكلمة وللمسرح الذي يشكل مركزًا ثقافيًا لا يريدون لمثله أن يكوّن ويكون حالة حضارية في المخيم، خاصة أنه مبنيّ على منهج مناهض للصهيونية منذ تأسيسه إلى اليوم، وعليه فالاحتلال لا يريد أن يصل هذا الصوت الحضاري من داخل مخيم جنين إلى العالم.

ومن مسرح "الحجر" إلى مسرح "الحرية"، تنقّل المخرج الفلسطيني الراحل جوليانو مير خميس الذي اغتيل في الرابع من أبريل/ نيسان 2011 أمام مسرحه في مخيم جنين، وهو المسرح الذي لطالما كان جوليانو يقارع الاحتلال عبره، ويقاومه بطريقته الخاصة، ويسعى زملاؤه بل ومريدوه الذي باتوا يطلقون على أنفسهم، أو يطلق الآخرون عليهم، لقب "أبناء جوليانو"، والآن بات هناك "أحفاد جوليانو"، إلى إكمال هذه المسيرة.

و"جول"، كما كان يحب أن يناديه زملاؤه، جاء بمسرح "الحرية" ليكمل مع بضعة شبان مشوارا بدأته أمه آرنا خميس عبر مسرح "الحجر" من على أسطح أحد منازل مخيم جنين شمال الضفة الغربية أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

واستكمل جوليانو عمله في مسرح الحرية الذي أسسه في عام 2006، وعمل على إيجاد طاقم جديد من الفنانين ليكونوا خلفًا لسابقيهم الذين تدربوا على يد أمه في مسرحها، والذين سقط العديد منهم شهداء، خلال اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلي لمخيم جنين في عام 2002، بما عرف بـ"عملية السور الواقي" أو "الاجتياح الكبير".

أحمد طوباسي، المدير الفني للمسرح، على ركام خلفه القصف الأخير على المسرح


وقبل ذلك، اتخذ المسرح الذي شرعت في تدشينه والدته من غرفة في سطح منزل عائلة المقاوم والأسير الفلسطيني زكريا الزبيدي مقرًا له، وأصبح زكريا نفسه ورفاق له أبطالًا للعمل المسرحي "القنديل الصغير" عن نص غسّان كنفاني، ليتحولوا بعد سنوات قادة للمقاومة في مخيم جنين، لا سيما في معركة المخيم خلال اجتياحه عام 2002، حيث استشهد معظمهم وأسر آخرون.

في أعقاب إقدام السلطات الإسرائيلية إثر اجتياحها للمخيم على هدم وإغلاق "مسرح الحجر" الذي أسسته آرنا خميس، والذي كان جوليانو "يساعدها فيه فنيا"، اتخذ هذا الأخير قراره بتأسيس "مسرح الحرية" في جنين.

وفي حوار نشرتُه في جريدة "الأيام" الفلسطينية في نيسان/ أبريل 2011، بعد أيام على رحيله، استذكر جوليانو: حضرت إلى مخيم جنين لأشارك أهله في نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيلي لنيل الحرية والاستقلال... إن سبب اختياري للمخيم هو وجود مجموعة من أصدقائي هناك، حيث كانوا جزءًا من مشروع الوالدة في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي... الهدف من وجودي في المخيم بناء مركز ثقافي يكون بداية نضال فني وعلمي من أجل تشكيل هوية وطنية فلسطينية يكون أساسها التضامن والوحدة بين أفراد شعبنا وكذلك حرية الفكر والتعبير. قمنا بإنشاء مسرح الحرية في مخيم جنين لأن سكان المخيم يستقبلون الآخرين بحرارة بغض النظر عن الهوية أو الجنسية أو الديانة.

المهم أن هذا الزائر حضر إلى المخيم كصديق للشعب الفلسطيني، لمشاركتهم في النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي... يقول جوليانو، قبل أن يضيف: هدفنا المشترك هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتفكيك كل المستوطنات والتأكيد على حق العودة والاستقلال والحرية. مخيم جنين يقف وحيدًا في الميدان ضد آلة الحرب الإسرائيلية، فهو يمثل كل دروب البطولة والتحدي. أنا شخصيًا أعتقد أن بإمكان مخيم جنين تحريك انتفاضة علمية وثقافية وفنية. إن الشعب الفلسطيني كان رائدًا في مجال الثقافة في العالم العربي، ولهذا يتوجب علينا إعادته من جديد إلى الطليعة.

وأكد، وقتذاك، متحدثًا عن الهدف من مسرح الحرية: أحببت أن أطوّر هذا المشروع الثقافي الذي بدأته والدتي وذلك بالتعاون مع أصدقائي في مخيم جنين، زكريا الزبيدي، وجيني من فنلندا، وجونتان من السويد، وعدنان، ورانيا، ومحمد، ومعاوية، وهناء السويطي، بل ونعمل على توسعته، وان شاء الله سيتم ذلك. يضم هذا المشروع بناتًا وشبابًا كما كان في مسرح "الحجر" الذي بني في عام 1993، كما ظهروا في فيلمي "أولاد أرنا"... أخدني الكثير من الوقت لأقدم على هذه الخطوة، لكي أكون جريئًا. فيما مضى كنت أخاف من ترك المال والنجومية والاهتمام والبيوت والسيارات ووسائل الإعلام، أن أترك كلّ هذا وآتي إلى مخيم جنين. سعيد جدًا، ولست نادمًا، والآن لست وحدي. تشاطرني حياتي زوجتي جيني وهي جزء من هذا المشروع وجزء من حياتي، بالإضافة إلى وجود أصدقائنا في جنين، حيث نبني معًا مسرحًا جديدًا في مخيم جنين يحمل اسم "الحرية" بعد هدم قوات الاحتلال لمسرح "الحجر" الذي أسسته والدتي، ولو بشكل بدائي.

وأتذكر ذلك المشهد في فيلم المخرجة الفلسطينية امتياز ذياب عن جوليانو، حين نقل أحد "أبنائه" عنه، قوله: من الآن فصاعدًا لم نعد ممثلين، بل سنصبح "كتائب مسرح الحرية".

آرنا مير خميس في مخيم جنين، نهاية الثمانينيات


وكان جوليانو أكد في الحوار المذكور أعلاه، أن "مسرح الحرية هو مشروع مشترك بين المقاومة الفلسطينية والتي يمثلها زكريا الزبيدي وفنانين من العالم والضفة الغربية... ارتبط المسرح بالمقاومة، لأنه ليس بديلًا عن المقاومة بل جزء منها، هو مقاومة ثقافية خالية من العنف تحمل مبادئ إنسانية عالمية أممية؛ حرية الفرد ليست قبل حرية الشارع بل وبالعكس".

وكشف جوليانو، في ذات الحواريّة، أن المسرح يواجه المشاكل من المخابرات الإسرائيلية، ومن المجتمع الفلسطيني أيضًا، وهذه المشاكل تواجهنا لأننا نتحدى المشاكل والعادات والتقاليد بما يخص وضع المرأة والطفل، فهو صراع ما بين حرية التعبير ودكتاتورية التقاليد، ومن ناحية المخابرات مفهوم لماذا، فنحن نربي جيلًا "مش مريح للاحتلال"، إنه جيل مفكر وجريء، ونأمل أن لا يقع في الحفر التي يحفرها الاحتلال كتلك التي حفروها، قبل سنوات، في انتفاضة الأقصى.

ولكن بداية جوليانو ومسرحه كانت صعبة، خاصة أن يد الاحتلال كانت قد طاولت الكثير من ممثلي المسرح خلال الاجتياح، كما كان من الصعب إقناع الأهالي بأن المسرح شكل من أشكال النضال الفلسطيني، وحتى تتجسد فكرة المسرح كما أرادها جوليانو، بدأ بعقد دورات لتعليم الحاسوب وأخرى للإنترنت، وعمد القائمون عليه إلى "تجنيد" أكبر عدد من الشبان في دورات لتعليم التصوير السينمائي والفوتوغرافي، ومن ثم تأسيس مدرسة متخصصة للتمثيل.

كما خصص جوليانو غرفًا للقراءة وأخرى للكتابة الإبداعية في المسرح، في محاولة منه لجعل النشاط المسرحي والفن والتمثيل، الذي يشكل هاجسًا لدى مجتمع تقليدي، أقرب إلى الجيل الناشئ، ولتفادي الرفض الاجتماعي المباشر. هذه الزوايا في مسرح الحرية خلقت جيلًا من المبدعين من أبناء المخيم والقرى الفلسطينية المحيطة، كما أن الفتيات وجدن في الكتابات الإبداعية وفي التصوير الفوتوغرافي طريقًا أسهل للدخول إلى عالم التمثيل.

وكان لمدرسة التمثيل هذه دور في ترسيخ المقاومة، وبدا هذا واضحًا في الأعمال التي أنتجوها، التي كان أولها مسرحية "الرحلة" التي أراد بها أطفال المخيم الخروج في رحلة للبحر، فكان الاحتلال لهم بالمرصاد عبر فرضه لحظر التجوال وحصاره للمخيم. ثم تتالت الأعمال من: "مزرعة الحيوانات"، و"القنديل الصغير" و"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني، و"شظايا" و"أليس في بلاد العجائب"، وحملت في معظمها الطابع السياسي ومقاومة المحتل، وهو الأسلوب الذي أدخله جوليانو إلى أعماله "لتعزيز فكرة النضال الفلسطيني".

واستطاع جوليانو عبر "مسرح الحرية" خلق جيل من الفنانين القادرين على التعبير عن أنفسهم على خشبة المسرح، حتى إنه قال للألمان عندما شارك في عرض مسرحية "شظايا" إنه جاء بهؤلاء الفنانين الصغار، لا للقفز فوق المسرح فحسب، بل لإيصال رسالة مفادها أن الفلسطيني ليس بجاهل أو إرهابي.

ومنذ اغتيال جوليانو قبل اثنين وعشرين عامًا، ورغم استهداف المسرح من قبل الاحتلال على أكثر من صعيد، استطاع أبناء وأحفاد جوليانو تحقيق هدفه بإيصال القضية الفلسطينية إلى العالم، وتعزيز حضور المسرح عبر ما يقدمونه من إبداعات متجددة محليًا وإقليميًا. ففي الدورة الأولى لمهرجان فلسطين الوطني للمسرح فاز عرض "مروّح ع جنين" بجائزة أفضل عرض مسرحي متكامل، وهو ما تكرر في الدورة الأخيرة العام الماضي، بالحصول على الجائزة الأكبر في المهرجان عبر عرض "الفيل"، أما عربيًا وعالميًا فأبناء وأحفاد جوليانو حققوا جوائز كثيرة من الصعب ذكرها في هذا المقام، وكانت كفيلة بنقل فلسطين بقضاياها إلى العالم، ونقل العالم إلى فلسطين، في مشاريع مشتركة، وخاصة إلى مخيم جنين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.