}

يفغيني يفتوشينكو: الحرب علمته معنى السلم ومعنى الوطن

إذا كان إقبال الشعراء العرب على كتابة سيرهم الذاتية نثرًا ما زال محتشمًا، فإن مجموعة من الشعراء في العالم قد تخطوا هذا الحاجز النفسي والإبداعي، متجاوزين بذلك هذا التباطؤ، غير المبرر أحيانًا، لكي يكتبوا سيرًا ذاتية شعرية ونثرية لافتة ومضيئة ومؤثرة، وبشكل مدهش لدى بعضهم، كما هي الحال، على سبيل المثال، لدى شاعر روسيا الكبير يفغيني- "يوجين"- يفتوشينكو، في سيرته الذاتية "العمق الرمادي... سيرة ذاتية مبكرة".
يعد هذا الكتاب الثالث من نوعه ضمن سلسلة "كتاب السيرة" التي تصدرها دار أزمنة في الأردن، بعد كتابين سابقين يندرجان في دورهما في إطار المحكي الذاتي، مترجمين إلى العربية، وهما: "اليوميات- مختارات" لأنا يبيس نن، ترجمة الكاتبة العراقية لطفية الدليمي، و"طفل من حقول الكاكاو... سيرة ذاتية للطفولة" لجورج أمادو، ترجمة الكاتب المغربي محمد صوف. وبذلك، تكون سيرة يفتوشينكو الذاتية ثالث نص تصدره هذه السلسلة حول المراحل الذاتية والبيوغرافية لأصحابها، باعتبارها نصوصًا تتبأر محكياتها حول مراحل الطفولة واليفاعة والشباب.
لقد دخل يفتوشينكو إلى اللغة العربية قبل هذه الترجمة لسيرته الذاتية من قبل إدريس الملياني، عبر ترجمات قليلة جدًا من شعره، وعبر مقتطفات خاصة من سيرته الذاتية، في حين نجد أن علاقته بالقارئ العربي كانت عمومًا متفاوتة من بلد لآخر، من قبيل زيارتيه الناجحتين لكل من بيروت والقاهرة، في حين كانت زيارته للرباط في المغرب زيارة غير ناجحة، بحيث لم يكن خلالها الشاعر يفتوشينكو مرتاحًا؛ إذ كان يلقي قصائده وهو يداعب سيجارة غير مشتعلة، وكأنه يلتهمها. وأتذكر أن الظروف قد أسعفتني لحضور تلك الأمسية الشعرية في مدرج الشريف الإدريسي بكلية آداب الرباط، بحكم أنني كنت طالبًا وقتئذ في الكلية نفسها، فكنت شاهدًا على مدى فشل تلك الأمسية التي لم تعرف ما كان ينتظره منها الشاعر يفتوشينكو من إقبال جماهيري، هو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، بمثل ما كان يملأ جمهوره الذي فاق في أحد لقاءاته الشعرية عام 1991 مئتي ألف متفرج في ملعب كرة القدم، هو الذي كان يلقي قصائده في المسيرات العامة، وفي المكتبات والجامعات، وهو ما أدى إلى منعه من إلقاء قصائده في أوكرانيا حتى أواخر عام 1980. وقد تعرض يفتوشينكو في سيرته هاته إلى موضوع جمهور الشعر في أكثر من مناسبة، من بينها قوله: "كانت تلك التصفيقات، التي وجهها إلي لأول مرة ألف وخمسمئة من الشباب، أكثر من استفتاء عام. كانت دليلًا على أنني أسير في الاتجاه الصحيح، وتشجيعًا على الاستمرار. لن أنسى أبدًا تلك الوجوه الشابة على سلم الجامعة" (ص 113). ويذكرني فشل أمسية يفتوشينكو بالرباط بما كتبته في مقالتي السابقة عن فشل أمسية الروائي السوري حنا مينة في الكلية نفسها، من غير أن أجد لذلك تفسيرًا منطقيًا.
وإذا كان الشاعر يفتوشينكو يرى أن "سيرة الشاعر الذاتية هي قصائده، أما ما عدا ذلك فليس سوى تعليق" (ص71)، فإن هذه السيرة الذاتية المبكرة (العمق الرمادي) لا يمكن اعتبارها مجرد تعليق على هامش تجربة شعرية كبيرة؛ بقدر ما هي شهادة حية عن الذات، وعن الواقع الثقافي العام الذي كان يختنق بهواء الواقع السياسي الرمادي.
وتختلف سيرة يفتوشينكو الذاتية، في بعض جوانبها، عما ألفناه في سير ذاتية أخرى، سواء على مستوى طريقة الكتابة، أو طبيعة المحكيات الذاتية، أو الموضوعية المركزة، كتلك التي يقدمها الشاعر عن نفسه، وعن الآخرين من حوله، وإن كانت تلتقي مع سير ذاتية أخرى عديدة، في تخصيصها، في بداياتاها، لمفتتح خاص، يتم فيه التعرض لبعض القضايا التي تطرحها كتابة السيرة الذاتية عمومًا، وما يرتبط بها من مكونات وأسئلة، بمثل ما فعله يفتوشينكو نفسه، في حديثه عن وجوب كشف الشاعر عن حقيقته، دونما رحمة أو شفقة (ص71)، أو في حديثه عن الفرق بين الإنسان الحقيقي والإنسان الكاتب في السيرة الذاتية، وطرحه لمسألة "الصدق والكذب"، وقضية السكوت والقفز على بعض الأحداث والوقائع في السير الذاتية (ص19)، فحديثه، أيضًا، عن دوافع كتابة السيرة الذاتية، وارتكان بعضهم إلى السكوت عن حقائق وتعاسات وآلام الآخرين، في افتقارهم إلى الأصالة، كما قال يفتوشينكو.
ورغم ذلك، فقد راهن يفتوشينكو على دخول هذه المغامرة، فكتب هذه السيرة الذاتية، لأنه، على حد قوله، "القصائد تترجم بشكل رديء، ولأنه، في الغرب، بدلًا من معرفة إنتاجي، تعرف بعض المقالات التي تعطي عني صورة مخالفة كثيرًا للواقع. يريدون أن يجعلوا مني شخصية مستقلة، منفصلة في ما يبدو كبقعة مضيئة عن العمق الرمادي للمجتمع السوفياتي، لكنني لست بهذا الوجه" (ص19 ـ 20).
وتتشابه سيرة يفتوشينكو الذاتية مع معظم السير الذاتية العالمية، في بدئها الحكي عن الأحداث والوقائع المرتبطة بمرحلة طفولة الكاتب خصوصًا، مع ما يستوجبه ذلك من استحضار وحكي عن تاريخ الميلاد ومكانه أولًا، حيث تم ذلك بالنسبة ليفتوشينكو في 18 يوليو/ تموز 1933 في محطة سيبيرية صغيرة ونائية تدعى "زيما"، قرب بحيرة بايكال، فالحكي عن الوسط العائلي، وخصوصًا عن الجد والأب والأم، ثم الحكي عن تأثير كل واحد من هؤلاء على الكاتب، بمثل حديثه، أيضًا، عما آلت إليه مصائر هؤلاء جميعًا: "إذا كنت مدينًا لأبي بتعليمي، منذ طفولتي المبكرة، حب الكتب، فإنني مدين لأمي كذلك بتربيتي على حب الأرض والعمل، ولذلك أعتقد أنني نصف مثقف ونصف فلاح، وسأظل كذلك" (ص25 ـ 26).




وبفضل الأب، أيضًا، سيتعلم يفتوشينكو القراءة والكتابة في سن السادسة، فكان يلتهم كتب خزانة والده، وما كان يولده له ذلك من خليط متناقض من الأسماء في رأسه. فالأب كان قارئًا كبيرًا، ومتبحرًا في التاريخ، فبقي السارد مدينًا له بالجميل، لكونه قرأ عليه، منذ طفولته المبكرة، حكايات تيل أولينشبيغل، يطل يفتوشينكو المفضل (ص26 ـ 27).
هكذا، يشغل "الأب" و"الأم" حيزًا خاصًا في ذاكرة السارد ووجدانه، الأمر الذي يبرر استحضاره لهما، منذ بداية وعيه بطبيعة علاقته بهما، مرورًا بما تخلل حياة الوالدين من أحداث ومتغيرات، تعكس جميعها جوانب من تحولات المجتمع الروسي، وإن انتهت بهما إلى الطلاق؛ لكن، يوضح السارد، ليس لأسباب سياسية، كما أشارت بمكر مجلة "التايم" النيويوركية (ص24 ـ 25).
فكثيرًا ما كان السارد، في هذه السيرة الذاتية، منشغلًا بالرد على بعض الاتهامات والأفكار والمزاعم الغربية، الإعلامية وغيرها، سواء تلك التي تهم حياته وشعره هو شخصيًا، أو تلك التي تخص ماضي السوفيات ومستقبلهم، في محاولة منه لدحض بعض المزاعم والأفكار والانتقادات الخاطئة والرد على أصحابها، وعلى أولئك الدوغمائيين السوفيات العاجزين عن عرقلة إشاعة الديموقراطية في البلد، وهو ما يكشف لنا عن جوانب من التوجه الأيديولوجي والفكري والأدبي للكاتب في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ المجتمع السوفياتي، حيث إن الـ"كثير من الشعراء السوفيات ظلوا لمدة طويلة يرفضون الكشف عن أفكارهم الخاصة، عن تناقضاتهم وتعقيدات مشاكلهم الشخصية، فانتهوا، بطبيعة الحال، إلى السكوت عمن كانوا يحيطون بهم" (ص18). عدا ما كانت تولده للسارد استماتته من اعتزاز بالنفس، واعتراف، في الآن ذاته، بالأخطاء التي ارتكبها السوفيات، بموازاة مع حكيه عن رياح التغيير التي هبت على المجتمع السوفياتي، وهو "يعيش ثورة روحية حقيقية معقدة"، ويناضل من أجل التقدم وصناعة مستقبله لوحده.
وتلتقي سيرة يفتوشينكو مع عدد آخر من السير الذاتية، في حكيها جميعها عن جوانب من سيرة الكاتب الأوتوغرافية، وعن سيرة الكتابة والقراءة في حياة يفتوشينكو، عن بداياته مع كتابة النثر وكتابة الشعر في مرحلة لاحقة، فمحاولته أيضًا كتابة الرواية في مرحلة سابقة. كما تذكرنا هذه السيرة الذاتية بسيرة خورخي لويس بورخيس الذاتية، الصادرة بالعربية بعنوان "سيرة ذاتية"، سواء على مستوى التكثيف والاقتصاد في سرد الوقائع والأحداث والرحلات والأسفار، المرتبطة بمرحلة الطفولة وما بعدها، وحكايات الدراسة والأهل، أو على مستوى تركيز الحديث على سيرة الكتابة والتأليف والقراءة، في حياة لويس بورخيس.
وامتلاء سيرة يفتوشينكو الذاتية بالأبعاد الإنسانية جعلها، كذلك، تتشابه مع سير ذاتية عديدة، كما هي الحال، في المغرب، بالنسبة لسيرة الكاتب المغربي محمد شكري "الخبز الحافي"، وسيرة الشاعر المغربي عبد الكريم الطبال "فراشات هاربة"، في حكي هذه السير الذاتية جميعها عن اللحظات التعيسة والشقية في حياة كتابها أيام الطفولة، وخصوصًا فيما عاشه ذلك الطفل الذي كانه يفتوشينكو في البداية ـ وشكري والطبال أيضًا، من تشرد وصعلكة، وفيما عاناه من شظف العيش وأجواء الحروب ومشاهد أسر الجنود الألمان وأخبار قتل الروس لجنود آخرين، بشكل جعله يبدو، منذ البداية، طفلًا كبيرًا يتعلم كثيرًا من الأشياء، ويُطرد من المدرسة أكثر من مرة، يتخاصم مع أمه، ويفر من البيت ليستقل بنفسه، ويعمل وهو في سن الخامسة عشرة من عمره.
ويسترسل الشاعر يفتوشينكو في الحكي عن تطور حياته الطفولية بشكل يتوازى فيه الحديث عن الطفولة والصراع من أجل البقاء مع الحديث عن الإبداع والكتابة، وبداية ظهور ذلك الشاعر المتخفي داخله، من خلال إقباله على النشر، وحصوله على أول مكافأة في حياته، فبدأ مجال قراءاته وتكوينه الثقافي والشعري يتوسع مع تزايد اكتشافاته، وتشعب قراءاته لكبار الكتاب، وإعجابه بشخصية ستالين إلى حد التقديس، بحيث غدا يفتوشينكو، في ما بعد، الشاعر الرسمي المعتمد لدى الصحف الموسكوفية وأعدادها الخاصة بمناسبة الأعياد (ص80)، ثم مقارنته بين ستالين ولينين، وإبرازه لخوفه على مستقبل روسيا بعد موت ستالين: "لم أستطع أن أتصوره ميتًا، كان جزءًا مني ولم أفهم كيف يمكن أن نفترق يومًا..." (ص99).



وقد شكل حدث موت ستالين منعطفًا جديدًا في حياة السارد/ الكاتب، وفي حياة الشعب الروسي ككل: "كان اليوم الذي دفن فيه ستالين منعطفًا في حياتنا. منذ ذلك اليوم أدركنا أن أحدًا لم يعد يفكر من أجلنا. بل بدأت أشعر أن أحدًا لم يفكر من أجلنا أبدًا..." (ص105). وشكل هذا الحدث تحولًا لافتًا في المسار الدلالي العام لهذه السيرة الذاتية. فقد كان لرحيل ستالين أثره في اختيار الشاعر الخروج من دائرة الشعر الغنائي، الذي سجنه إلى غاية موت ستالين، ليواجه أسئلة جديدة، ويبحث عن طريق آخر من أجل النضال وبناء المستقبل، "مؤملًا التخلص من التمزقات الداخلية والعثور على الهدوء الضروري للتفكير" (ص108). وبذلك تبدأ مرحلة أخرى من الحكي عن سيرة الشعر والشعراء الشباب خصوصًا، هؤلاء الذين ينتمون إلى ما بعد العهد الستاليني، بعد اكتشاف الجرائم التي ارتكبها ستالين، ومواجهة الشباب لاتهامات الدوغمائيين لهم بالزندقة والكلبية وعيوب أخرى.
ويختم الشاعر يفتوشينكو سيرته الذاتية، بعد أن دخل مرحلة الشباب، بالحكي عن سيرة كتابته لأشعاره وقراءته لها، في بعض المناسبات الرسمية وغيرها، وشكلِ تلقيها من قبل الصحافة والقراء، بمثل حكيه عما أثارته بعض مغامراته الشعرية من ردود فعل معاكسة، بعد أن اتهم بمعاداة الاتحاد السوفياتي، مع أنه لم يكن يتهرب من الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها السوفيات، لكن ذلك لم يكن ليولد للشاعر يفتوشينكو أية حالة من الندم، ما دام أنه فخور بالمساهمة في نضال شعبه البطولي من أجل المستقبل، كما قال في آخر هذه السيرة الذاتية.
إن أهمية سيرة يفتوشينكو الذاتية لا تكمن، فقط، في طبيعة الحكايات والأحداث والأجواء والتفاصيل النادرة والاستثنائية التي تستعيدها، إبان فترات حاسمة من تاريخ روسيا، بل أيضًا في طبيعة الأفكار والمشاعر الجياشة والأحاسيس الكبيرة التي تختزنها، بشاعرية مرهفة، عبر استرجاع السارد لبعض المشاهد التي عايشها عن كثب، كتلك المتصلة بــ"الحرب" إبان الهجوم الألماني على بلاده روسيا، حيث يصوغ السارد للحرب دلالات أخرى، غير تلك المرتبطة بـــ"الهزيمة" و"الانتصار"، وقد بدت له ("أي الحرب) "زاهية الألوان (....) لم تكن توحي لي بالرعب بل بالمتعة والإعجاب. وكنت أحب حتى عويل صفارات الإنذار عندما تدوي محذرة من الغارات الجوية...." (ص29).




وبذلك، فإن السارد يدين للحرب بكونها هي التي علمته معنى "السلم" ومعنى "الوطن": "إذا كنت مدينا للحرب بشيء، فلأنها بالضبط علمتني ما معنى كلمة "السلم". وهنالك أمر آخر: لأنها جعلتني أدرك ما معنى الوطن. إذ تعلمت، خلال الحرب، أن الوطن ليس مجرد اصطلاح جغرافي، أو أدبي، بل هو صورة الناس الأحياء"(ص 31)، وغيرها من المفاهيم والأحداث والحكايات المتخللة في هذه السيرة الذاتية، كتلك التي يجعلنا السارد نتعاطف فيها معه، من خلال قراءتنا لها، فنتأثر لتأثره، ونفرح لفرحه، وأيضا نحزن لحزنه، نتيجة لما تتميز به هذه السيرة الذاتية من جرأة في البوح، ولما تطفح به، كذلك، من مشاعر وأبعاد إنسانية صادقة، كما هو الشأن بالنسبة لكثير من الحالات والمواقف التي يحكي فيها السارد عن جوانب من حياة الشقاء التي مر بها، من قبيل تلك اللحظة التي يكتشف فيها ذلك الفتى الذي كانه السارد أن ثيابه ممتلئة بالقمل، مع ما ولده له ذلك من حالات بكاء واكتشاف لمعنى "الحنان" وقيمته، كأغلى رأسمال في الكون، بعد كل ما غمرته به تلك الفتاة القروية من حنان، وقد وجدته عاريًا، ينظف ثيابه من الطفيليات التي علقت بها، وغيرها من المواقف وحالات الشقاء والفرح التي لعبت دورًا كبيرًا في توجيه حياة السارد المعيشية والأدبية والنضالية.

يفغيني يفتوشينكو مع السيناتور الأميركي روبرت ف. كينيدي (Getty)

كما تكمن أهمية هذه السيرة الذاتية في تشعبها وكثافتها، وفي تجاورها لذلك المعطى البيوغرافي، المرتبط فقط بشخصية يفتوشينكو وحياته، لتنفتح على عوالم أخرى، تاريخية واجتماعية، وعلى سير ثقافية وأدبية، كما كانت تتبلور جميعها داخل المجتمع السوفياتي، بعد وفاة ستالين، باعتبارها سيرًا فكرية وشعرية لمجموعة من المفكرين والشعراء الكبار داخل روسيا وخارجها، بحيث يصبح من الصعوبة حصر عدد أسماء هؤلاء الكتاب والشعراء الذين يستحضرهم السارد في هذه السيرة الذاتية، عبر سياقات عديدة ومختلفة، بالنظر إلى كونها تشكل، في العمق، سير أفكار وقصائد ومواقف، تلك التي كان لها الأثر البالغ، ليس فقط على التكوين الثقافي والشعري ليفتوشينكو، بل أيضًا على مستقبل المجتمع الروسي برمته.
وعليه، يمكن اعتبار "العمق الرمادي" سيرة للذات وأيضًا سيرة شعرية لكاتبها بدرجة أولى: "إن سيرة الشاعر الذاتية هي قصائده، أما ما عدا ذلك، فليس سوى تعليق" (ص 17)، في تحولها وانفتاحها على الماضي والراهن والمستقبل، كما أنها، وهذا هو الأهم في هذا النص، هي سيرة للشعر السوفياتي الحديث ككل، بمحطاته الكبرى وبشعرائه من الشباب والكبار (ألكسندر بلوك، ليرمونتوف، فينوكوروف، زوبولوتسكي، سميلياكوف، كورجافين، بوشكين، ماياكوفسكي، بيلا أخمادولينا، مارتينوف، أنا أخماتوفا، مارينا تسفيتايفا، بوريس سلوتسكي، بوريس باسترناك، وغيرهم ممن أتى يفتوشينكو على ذكرهم في سيرته)، وذلك في وقت كانت فيه كلمة "شاعر" في اللغة الروسية تكاد ترادف كلمة "مناضل"، كما جاء في هذه السيرة الذاتية الممتعة (ص 106 ـ 107)، وهو ما قد يبرر على الأقل تحاشي الشاعر يفتوشينكو الحديث بتفصيل، في سيرته، عن بعض تجاربه الحياتية والمهنية والإبداعية الأخرى المضنية، سواء ما يتعلق منها بمجال التدريس، أو كتابة السرد، من قصة ورواية، أو الحكي عن بعض لقاءاته مع شخصيات بارزة، كالسيناتور روبرت كينيدي، وغيره، في وقت توقفت فيه سيرته كثيرًا عند شخصية ستالين في صورها ومحطاتها المختلفة، في تفاوتها بين الشخصية المقدسة والشخصية المجرمة، كما حاولت هذه السيرة الذاتية لملمة جوانب من تفاصيلها الكبرى...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.