}

الكل باطل: كوهيلت والفلسفة اليونانية

أحمد الجندي أحمد الجندي 10 سبتمبر 2023
استعادات الكل باطل: كوهيلت والفلسفة اليونانية
قراءة سفر الجامعة تشعل فينا إحساسًا بالحيرة (Getty)
"باطل الأباطيل الكل باطل"، هكذا يستهل الحديث، وهكذا يختتم في سفر الجامعة، أو كوهيلت باسمه العبري، وكأننا بين دفتي كتاب تدلان على روح تشاؤمية مهيمنة على كاتبه. يشتق الاسم كوهيلت من الفعل العبري كهال، بمعنى جمع، وفي الترجمة السبعينية يعني "صاحب الجماعة، أو من يخطب في الجماعة"، وقيل هو من تتلى كلماته في الجمع من الناس، ولذلك فالأرجح أن كوهيلت ليس اسم علم، وإنما وصف يعبر عن مهمة الناطق بتلك الكلمات.
كان مارتن لوثر (القرن 16) أول من استبعد رواية التقليد اليهودي القائلة إن سليمان بن داود هو مؤلف السفر. ولهذا تعددت الآراء حول زمن تأليفه، فنسبه بعضهم إلى فترة ما بين منتصف القرن الخامس حتى منتصف القرن الرابع ق. م.، ونسبه آخرون إلى نهاية القرن الأول ق. م.، غير أن لغة الجامعة وأفكاره التي تعكس تأثرًا بالفلسفة اليونانية ترجح كتابته بين القرنين الثالث والثاني ق. م. حيث كان اليونان يسيطرون على المشرق، وكانت فلسفتهم ذات تأثير مهيمن ظهر في كثير من نصوص الأدب العبري في هذه الفترة؛ سواء في الأسفار المعتمدة (الجامعة)، أو الأبوكريفا (بن سيراخ، ويهوديث).
حينما نقرأ سفر الجامعة ينتابنا إحساس أننا أمام نص مثير للحيرة، حتى قيل إنه "أغرب أسفار العهد القديم"، وإنه "الضيف المخيف في النص المعتمد". ويدعم ذلك الإحساس تلك الرؤية المتشائمة التي عبر عنها الجامعة[1]، والتي نلمحها في أكثر من موضع، وفي عبارتيه الأشهر "الكل باطل"، و"قبض الريح"، وهما عبارتان غير مسبوقتين في التراث العبري القديم.
ينتمي الجامعة إلى ما يعرف بأدب الحكمة التعليمية؛ وهو أدب شاع استخدامه في أنحاء الشرق الأدنى القديم مثل حكمة بتاح حوتب، ووصية مريكارع، وحكمة أمن اموبي في مصر، وقصة أحيقار في سورية، وسفري الأمثال وحكمة بن سيراخ في التراث الإسرائيلي القديم. وإلى جانب طابعها التعليمي الذي عادة ما يظهر في إطار بلاغي، وعبارات قصيرة، وتوجيه المعلم لتلميذه النصائح مستخدمًا صيغة المخاطب، واستخدام معتاد للفظة "يا بني"، فإن للحكمة التعليمية ثلاث سمات أساسية؛ فهي لا تستخدم الحوار مطلقًا إلا إذا كان في إطار قصصي، ولا توظف أي حديث يكون موجهًا بلسان المخاطب للإله، ولا يتكلم الإله أبدًا مع الإنسان. هذه السمات الثلاث تميز الحكمة التعليمية عن الحكمة النظرية التي تتسم باستخدام الحوار، ومخاطبة الإنسان للإله، وتحدث الإله مع الإنسان، وعادة يناقش النوع الأخير قضايا نظرية؛ كالعدالة، والمصير، وقيمة الحياة مثلما في قصة أيوب العبرية، و"لأمجدن رب الحكمة" في بلاد النهرين[2].
حين نعود إلى نص الجامعة كثيرًا ما نجد أنفسنا أمام معان ونقيضها بشكل يدعو إلى التأمل، ويبدو الأمر وكأننا نستمع إلى صوتين؛ أحدهما لحكيم تقليدي محافظ يعبر عن آراء إيجابية كتلك في سفر الأمثال، وفي كتب الحكمة في مصر القديمة، وفي بلاد النهرين، والصوت الآخر لمفكر متشكك متشائم يدحض آراء الحكماء الشائعة، ويتجاوز إطار الاعتقادات التقليدية، فنقرأ مثلًا "إلا أني أعلم أنه يكون خير للمتقين الله الذين يخافون قدامه، ولا يكون خير للشرير، وكالظل لا يطيل أيامه لأنه لا يخشى قدام الله" (8: 12 - 13)، وهذا كلام يتفق تمامًا مع التقاليد القديمة، لكننا وبعدها مباشرة نجد نقيضها "يوجد باطل يجري على الأرض، أن يوجد صديقون يصيبهم مثل عمل الأشرار، ويوجد أشرار يصيبهم مثل عمل الصديقين، فقلت إن هذا أيضًا باطل" (8: 14)، ونعرف أن مكانة الحكيم عنده أعلى من الجاهل، لكنه في الوقت نفسه لا يرى لذلك قيمة، لأن "حادثة واحدة تحدث لكليهما" (2: 14).
هذه الثنائيات المتناقضة فسرت تفسيرات عديدة؛ فقيل هي تعبير عن الشك والتخبط في نفس الكاتب (جونكل، وجالينج)، وقيل بل نحن أمام حوار بين معلم وتلميذه، أو بين مؤمن ومتشكك.. أما أكثر المحدثين فقالوا إن السفر يتكون من طبقة تعبر عن كلام الجامعة تضم كل ما يعبر عن التشاؤم والشك، وطبقات أضيفت لاحقًا تعكس الآراء التقليدية المحافظة لتخفيف النبرة المتشككة السلبية[3].




هذا التشكك كان سببًا في اختلاف علماء اليهود قديمًا حول اعتماد سفر الجامعة ضمن العهد القديم أو رفضه، كما أنها أدت، في العصر الحديث، إلى البحث عن خلفيته الثقافية والفلسفية. ومنذ بدايات القرن التاسع عشر تحدث باحثون كثيرون عن تأثر كاتبه بالفلسفة اليونانية عامة، وخصوصًا الرواقية، في أكثر من سياق.
ومن المهم، قبل الحديث عن هذه السياقات، أن نبين أن زمن كتابة النص العبري يدفعنا إلى مقارنة أفكاره مع رواد المدرسة الرواقية في القرن الثالث ق. م، وخصوصًا كليانثس (261 ـ 232) ق. م، وكريسيبوس (232 ـ 208) ق. م.
أما عن السياقات، فيمكن القول إن تأثير الرواقيين في الجامعة ظهر في ثلاث نقاط؛ الجبرية، واستخدام المتضادات، ودورة الزمان المتكررة.
يقال إن فكرة الجبرية عند الرواقيين كانت متأثرة بعمق بأعمال هيراقليطيس (500 ق. م. تقريبًا)، ومن بين ما نقل عنه أن هناك مبدأ كونيًا يتحكم في ما يحدث في الكون. لكن المشكلة أن قلة ما بقي من كتابات هيراقليطيس لا تسمح أن نقطع إن كان فيلسوفًا جبريًا أم لا، لكن ما يهمنا أن الرواقيين قاموا بتطوير هذا المفهوم في ما بعد.
يمكن القول إن الرواقيين أول من طرحوا شكلًا مفصلًا عن فكرة الجبرية، وتنسب هذه الفكرة بشكل أكبر إلى كريسبوس القائد الثالث للرواقيين، والذي يرى أن كل ما يحدث على الأرض يخضع للقدر؛ ويشمل كل أفعال الإنسان، بل وتفكيره أيضًا، وأن الإنسان لا حول له في مواجهة القدر.
ويبدو أن الفكرة تحولت عند الرواقيين إلى صورة معتدلة نتيجة نقاشات مبكرة؛ فتبني الإيمان بالجبرية، خاصة حينما تصور القوة الحتمية تلك على أنها إله خيّر، يؤدي إلى مشكلة أخلاقية؛ فكيف يمكن تفسير مظالم الحياة ووجود الشر البشري؟ وهل وجود الظلم والشر في الحياة يعني أن الرب هو صانع كل شيء؟ وعلى من تقع مسؤولية هذه الأعمال؛ هل تقع على الإنسان الذي يفعلها، أم الإله الذي يفترض أنه يتحكم في كل أفعاله؟ وماذا نفعل للمجرم الذي يقول إنه مجبور ليتجنب العقاب؟ هذه النقاشات طرحها معاصرون لكليانثس وكريسبوس، ووجدنا صداها لاحقًا عند الفيلسوف اليوناني بلوتارخ (عاش بين القرنين الأول والثاني م.)، والمؤرخ الروماني جليوس (القرن الثاني م.).

 فكرة الجبرية عند الرواقيين كانت متأثرة بعمق بأعمال هيراقليطيس (Getty)

ومن هنا أخذت فكرة الجبرية عند كليانثس، وكريسبوس، صورة معتدلة؛ يعتقد فيها أن الأفعال الإنسانية تنتج عن مزيج من القدر والاختيار الحر، وهي بخلاف الجبرية المتطرفة التي ترى أن كل أفعال الإنسان مقدرة، وأن الإرادة الحرة وهم[4]. ويؤكد جليوس أن كريسبوس كان يرفض أن يتذرع المجرمون بأنهم مجبرون على فعل جرائمهم، وبالتالي يجب معاقبتهم. فالإنسان، عند كريسبوس، إن لم يكن مسؤولًا عما يعرض على عقله من أفكار، فإن لديه القوة أن يختار الفعل، أو الترك، ومن ثم يجب أن يتحمل مسؤولية أفعاله. ويقول كليانثس "ما من عمل يتم على الأرض، يا الله، بدون إرادتك، ولا في السماء، ولا في البحر، باستثناء ما يفعله الأشرار في حماقتهم"، ما يعني أنه كان يحاول التوفيق بين العناية الإلهية المتحكمة في الكون وتبرير سبب وجود الشر، الذي يفعله الأشرار اختيارًا. وهكذا ينتهي كليانثس وكريسبوس للتأكيد على الحتمية التامة، والإرادة الأخلاقية الحرة جنبًا إلى جنب.
حين نعود للنصوص العبرية القديمة سنجد أن العناية الإلهية هي التي تسيطر على حركة التاريخ، لكننا نفهم ضمنًا أن الإنسان حر في اختياراته ويحاسب عليها، بدليل لوم أغلب الأنبياء لبني إسرائيل على معصية الرب، واستحقاقهم ما يلاقونه من عقاب. وهنا نشعر بأن النصوص العبرية القديمة قدمت في مجملها رؤية تتشابه مع الرؤية المعتدلة التي قدمها الرواقيون عن مسألة الجبر لاحقًا، غير أن طريقة معالجة الجامعة للموضوع، وألفاظه، وتقاطع نقاط تشابه أخرى مع الرواقيين، إضافة إلى عصر كتابته، تجعله أقرب لهم وتشير إلى تأثره بفلسفتهم.
وقد حاول كريسبوس كذلك أن يشرح سبب وجود الشر في العالم الذي تحكمه الحتمية الإلهية؛ فذهب إلى أن الأشياء التي تتصف بالخير، كالعدالة والحقيقة والجمال، تقتبس حضورها وأهميتها من وجود نقائضها؛ فالشر قد يكون نتيجة ضرورية للخير، والشدائد قد تكون وسيلة لتعلم الصبر، وقد يأتي الخير من وقوع الشر.
عند قراءة الجامعة، ستقابلنا عبارات كثيرة تفهم في سياق الجبرية؛ فالأعوج لا يمكن أن يقوّم، والنقص لا يمكن أن يجبر (1: 15)، والناس جميعًا، الصالح والطالح، يقابلهم مصير واحد، والإنسان لا يعرف وقته، كالأسماك التي تؤخذ بشبكة مهلكة، والعصافير التي تؤخذ بالشرك (9: 11 ـ 12). وإذا كان لكل شيء وقت مقدر لا سلطان للإنسان عليه؛ كالولادة والموت، والغرس والقلع، والقتل والشفاء، والهدم والبناء... فأي منفعة للتعب الذي يتعبه الإنسان طالما كل شيء على هذا النحو (3: 1 ـ 9). وتحاكي تلك المعاني المتقابلة (الولادة/ الموت، الغرس/ القلع، القتل/ الشفاء، الهدم/ البناء...) التقسيم الرواقي للكون إلى متضادات متوازنة؛ حيث اعتقد الفلاسفة الرواقيون أن هذا التضاد يؤدي إلى التوازن، والاستقرار لكل شيء[5]. حتى أن باحثين رأوا في الموضع السابق قصيدة رواقية الأصل استخدمها الجامعة في صورة مختصرة ليعبر عن أفكاره[6].

مارتن لوثر أول من استبعد رواية التقليد اليهودي القائلة إن سليمان بن داود هو مؤلف السفر (Getty)

وعبَّر الجامعة عن الحتمية بأن ساوى "عمل الرب" بـ"كل ما عمل تحت الشمس"، وهو يشبه كريسبوس الذي رأى أن القدر في نهاية الأمر هو نفسه إرادة الله. وإذا كان الجامعة قد أكد بشكل مستمر على مسألة الحتمية التي تشمل عمل الإنسان وأفكاره وأن كليهما ـ أي العمل والأفكار ـ هما من قبل الرب، بدلًا من القول بأن هذه الأعمال تجري بعلم مسبق منه، فإن هذا جعله أقرب إلى فلسفة الرواقيين من قربه للفكر اليهودي.




ظاهريًا، هنالك نقاط تشابه بين أفكار سفر الجامعة، وما جاء عند كريسبوس في مقاربتهم لمسألة القدر، فكلاهما يركز على الحتمية في نظرته للوجود، وعلى الله باعتباره القوة الحتمية وراء الأحداث، وكلاهما يدرك المشكلة اللاهوتية التي تطرحها هذه الفلسفة عند النظر إلى ظلم الإنسان وشره، لكن بينما حاول كريسبوس شرح مسألة الشر البشري، فإن الجامعة لم يقم بذلك.
وإذا كان الرواقيون يرون أن الإنسان يمكنه أن يدرك في الحاضر علامات تنذره بما يمكن أن يحدث في المستقبل، على أساس أن الأشياء قد اتصلت كلها في الكون اتصالًا وثيقًا، وأن الزمان لا يأتي بجديد، ولا شيء يحدث إلا وكان متضمنًا من قبل في أصل الأشياء[7]. فقد وجدنا انعكاس هذه الفلسفة مرارًا لدى الجامعة؛ فالحياة عنده ما هي إلا دائرة معادة من الأحداث المتكررة؛ فما كان هو ما سيكون، وما صنع هو ما سيصنع، ولا جديد تحت الشمس (1: 9)، وهذا المعنى غير مسبوق في النصوص التوراتية الأقدم، ويعد انعكاسًا للرؤية الرواقية حول تكرار دورة الأحداث في تاريخ الأرض[8].
لقد كان الجامعة مطلعًا على الفلسفة اليونانية، فلم يقتصر تشابه ما كتب مع الرواقيين وحدهم؛ فثمة مواضع نلمح فيها تكرارًا لعبارات لدى الفلاسفة اليونانيين. تقول إحدى المرثيات اليونانية (تعود لمنتصف القرن الثالث ق. م. "حقًا، إن الآلهة لا تكترث للبشر، فنحن مثل الحيوانات، يتم سحبنا هنا أو هناك عن طريق الصدفة"، وهو معنى يتكرر نفسه تقريبًا لدى الجامعة؛ فمصير الإنسان كمصير الحيوان الذي يُصطاد بالشباك (9: 12)[9].
ويصور الفيلسوف اليوناني مونيموس الكلبي (القرن 4 ق. م) العالم بأنه ضباب أو دخان، وإذا عدنا للجامعة سنجد أن فلسفته المتشائمة قد عكست، لفظًا، ما قاله مونيموس[10]؛ وأنه قد وصل لذروة هذا التشاؤم باستخدام تلك العبارة المتكررة "الكل باطل، وقبض الريح".

هوامش:

[1]  - M. R. Sneed: The politics of pessimism in Ecclesiastes. Atlanta: SBL 2012. p. 1.
[2] - ש. מ. פאול: קוהלת. אנציקלופדיה מקראית, כרך ז', ירושלים, הוצאת מוסד ביאליק 1976. עמ' 76 – 77.
[3] - السابق 74 – 75.
[4] - Dominic Rudman: Determinism in the Book of Ecclesiastes. JSOT sub. 316, Sheffield, Sheffield academic press 2001. p. 34.
[5] - J. L. Crenshaw: Qoheleth, The Ironic wink. Columbia: University of South Carolina press 2013.  p. 54. 
[6] - Joseph Blenkinsopp: Ecclesiastes 3: 1 – 15 another Interpretation, JSOT 66, 1995. P. 55 - 64. 
[7] - عثمان أمين: الفلسفة الرواقية. القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1945. ص. 133
[8] - פאול: עמ' 77.
[9] - D. Winston: Hellenistic Jewish philosophy, in History of Jewish Philosophy, ed. D. H. Frank & O. Leaman. New York: Routledge 2005. p. 31.
[10] - Crenshaw:  p. 54. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.