}

الزلازل تلقي بظلالها على الرواية في العالم

عبد الرحيم العلام 20 سبتمبر 2023
استعادات الزلازل تلقي بظلالها على الرواية في العالم
الزلازل بريشة التشكيلي اللبناني علي شمس الدين

وضعنا الزلزال المدمر الذي ضرب المغرب في الآونة الأخيرة، في صلب سؤال علاقة الإبداع الأدبي بالكوارث الطبيعية والأوبئة، حيث ما فتئت الآداب الحديثة في العالم، تواصل استلهامها لبعض الكوارث الطبيعية، من زلازل وحروب وفيضانات وأعاصير وأوبئة، وغيرها. وتأتي الرواية في مقدمة الأجناس الأدبية، على مستوى تفاعلها اللافت مع الحروب والأوبئة والزلازل خصوصًا، مستلهمة لها في نصوصها، في تلويناتها المختلفة، وفي أبعادها الإنسانية والمأساوية والاجتماعية، وفي ارتداداتها المعنوية والنفسية العنيفة، وصورها المثقلة بالموت والرعب والدمار...

وفي هذا السياق، نستحضر، على سبيل المثال، بعض نصوص الرواية في العالم، في تفاعلها التخييلي والسردي والدلالي مع بعض الزلازل التي ضربت هذا البلد أو ذاك، أو هذه المدينة أو تلك، من بينها رواية الكاتبة التركية أليف شفق، بعنوان "صيف في المدينة"، وفيها تستعيد تفاصيل ليلة كارثية حلت بإسطنبول عام 1999، كذلك رواية "الحطام" 2021، للكاتب التركي فرقان قارادري، وفيها يحكي قصة أناس عايشوا الزلزال الذي ضرب مدينة إلازيغ في تركيا عام 2020.

وتحكي الكاتبة الإيرانية مهسا محب علي، في روايتها بعنوان "في حالة الطوارئ"، عن تداعيات زلزال ضرب طهران، فيما نقرأ في رواية "رومبو" للكاتبة الألمانية إستر كينسكي، توثيقًا لصدمة جماعية خلّفها الزلزال، في مزيج حكائي بين الحقيقة والخيال. أما الرواية اليابانية، وبحكم ضربات الزلازل المتكررة في اليابان، فقد واكبت بدورها هذه الظاهرة، نذكر من بين نصوصها رواية "رعب الزلزال"، للروائي الياباني بغ كهرت، في استنادها إلى أحداث زلزال حقيقي ضرب منطقة توهوكو في اليابان.

وراكم الأدب الروائي الأميركي العديد من روايات الزلزال، وخصوصًا ما كتب من نصوص عن "زلزال سان فرانسيسكو" الشهير، فضلًا عما أنجز حوله من أفلام سينمائية...

ومما لا شك فيه أن الزلزال العنيف الذي ضرب المغرب مؤخرًا، قد يحفز المبدعين المغاربة، وغيرهم، على استيحاء آثاره وتعقب حكاياته وتداعياته في أعمالهم الروائية القادمة، وإن كانت تجربة هؤلاء مع هذا النوع من الكوارث (الزلازل) لا يزال محتشمًا، رغم ما تعاقب على البلد من كوارث وزلازل مدمرة، منذ عام 1079، مرورًا بسلسلة طويلة من ضربات الزلزال في عديد من مدن المغرب، في العقود الأخيرة، من بينها، "زلزال أكادير" عام 1960، ويعد الأعنف في تاريخ البلاد وأحد أعنف 100 زلزال في تاريخ البشرية، و"زلزال الحسيمة" عام 2004، و"زلزال الحوز" الأخير 2023.

فهذا الروائي والشاعر المغربي الراحل محمد خير الدين، وهو من بين أوائل الروائيين المغاربة، إن لم يكن الوحيد، كتب روايته الأولى عن الزلزال الذي ضرب مدينة أكادير في المغرب، كتبها بالفرنسية، بعنوان "Agadir" (أكادير) عام 1967، وأعادت منشورات "سوي" الفرنسية الشهيرة نشرها عام 1997، بعد ثلاثين سنة من صدور طبعتها الأولى، كما أنها الرواية التي جعلت من محمد خير الدين كاتبا كبيرا، باعتراف كبار المفكرين والأدباء الفرنسيين كجان بول سارتر وأندريه مالرو وبروتون وغيرهم...

لقد جعل محمد خير الدين من زلزال أكادير الذي دمر المدينة عام 1960 الإطار الرئيس لروايته، التي تحكي عن سارد موظف، وليس سوى الكاتب نفسه، كلفته إدارته التي يشتغل بها بالتحري لدى ساكنة مدينة أكادير التي دمرها الزلزال، لوصف حالة الأمكنة، واستجماع طلبات السكان، ورصد معاناتهم وفزعهم وتمردهم...

وفي سنة 2017، أصدرت المترجمة والصحافية الفرنسية نتالي روبان روايتها الأولى عن الزلزال نفسه الذي ضرب مدينة أكادير، بعنوان "زلزال أكادير"، وفيها تعيد الحياة إلى حدث مأساوي في تاريخ المغرب المعاصر، كان ذلك في أوج شهر رمضان، حيث حرارة الجو لا تحتمل من قبل ساكنة المدينة، وحيث بدا أن الأولوية وقتها تكمن في إنقاذ الأرواح ما أمكن قبل أن يتجدّد اهتزاز المدينة، حسب الرواية...

وفي اعتقادي، أنه ما عدا رواية "أكادير" لمحمد خير الدين، فإننا لا نكاد نعثر على روايات مغربية أخرى، استوحت أحد الزلازل الكثيرة التي عرفها المغرب منذ زمن بعيد، ولربما ترجع أسباب ذلك لصعوبة الكتابة عن تداعيات الزلازل عن بعد مسافة "جغرافية" و"نفسية" منها. غير أنه مع فورة التكنولوجيا الحديثة في عالم اليوم، بما توفره من سيولة في المعلومات وتوثيق للحكايات وعرض للشرائط المصورة وللتغطيات الإعلامية المرتبطة بمخلفات الزلازل، فمن شأن ذلك أن يشحذ مخيلة الروائيين ويحفزهم على استلهام "زلزال الحوز" الدرامي الأخير، ومحاكاة ارتدادات الكارثة، وتمثل مخاوف أجيال عايشت الحدث، ومن ثم تحويل الفاجعة إلى سرد روائي، باعتباره إحدى وسائل التعافي منها ومن آثارها، ولو على مدى بعيد.

استثمار القعيد لقصة الزلزال في هذه الرواية، بذكاء إبداعي وتخييلي لافت، إنما لكي يعرّي أمامنا، مجتمعًا منخورًا من الداخل، وزيفًا في العلاقات الاجتماعية وزيفًا في القيم


وموازاة مع المشهد الروائي في المغرب، نجد أن مثيله في مصر، على سبيل المثال، هذا البلد الذي عَرف، هو أيضًا، موجات زلازل ضربت بعض مدنه وأريافه، كان آخرها، ونرجو صادقين أن يكون الأخير، "زلزال القاهرة" عام 1992، عُرف هذا المشهد، كذلك، باهتمامه باستلهام الزلازل في رواياته، من بينها رواية "أربع وعشرون ساعة فقط" للروائي المصري يوسف القعيد، الصادرة عن سلسلة روايات الهلال عام 1999.         

وإذا كان حادث الزلزال، في هذه الرواية، يشكل خلفية دلالية ورمزية للتأشير على ما أصاب مصر عموما من اهتزازات في البنى التحتية، كما في القيم المجتمعية، فإن هذه الرواية تكشف عن العديد من المحكيات المتشابكة والمتضافرة فيما بينها، والمرتبطة برحلة الشتات التي طاولت عائلة "نجيب نجم الدين النجومي" قبل وفاته وبعدها، حيث تغرب أبناؤه السبعة وعزلوا: خمسة منهم يقيمون في مصر، وهم: نجيبة العانس التي تنتظر العريس الذي لم يأت. تقيم في بيت العائلة القديم بالقاهرة – نادر سمكري السيارات. غادر قرية الروضة بعد أن رفض إخوته مساعدته ماديا، مقابل حرمانه من التعليم، فتزوج من راقصة - نادرة التي تركت عملها كمفتشة آثار، فتواطأت مع زوجها تهامي الأسود لتأجير غرفة نومها بالساعة - ناجح رجل الأعمال الفاشل، انتابه الخوف من عصابة الرجل الكبير، فأغلق على نفسه باب شقته - نادي الذي ظهر فجأة أمام العيان معلقا في شرفة بيته وقد شقه الزلزال إلى نصفين، رفقة بنت خطفها من النادي. في حين هاجر نجيب الابن القاضي إلى الخليج، وترك زوجته بالقاهرة، تنتظر مولودها الأول، وهي التي سرعان ما اكتشفت خيانة زوجها لها من خلال ارتباطه بامرأة أخرى تقيم في القاهرة، اسمها الحقيقي صولجان، لكن خطيبها نجيب يناديها بـ "ندا"، وذلك تيمنا بحرف "النون" الذي يميز جميع أسماء هؤلاء الأبناء. أما الابنة السابعة نادية، فهاجرت، بدورها، إلى الخليج، حيث تزوجت من خليجي، وأنجبت منه ولدًا وبنتًا، ولها شقة في القاهرة، تعرضت للنهب في خضم حادث الزلزال. في حين بقيت أم محروسة عبد الحي الحلواني لوحدها في القرية، تعاني الوحدانية وتنتابها الهواجس والخوف من الموت، وليس لها من أنيس سوى التلفزيون وانتظار رنة من هاتف قد لا تأتي، وحين أتت، فقد حملت معها خبر الزلزال من غريبة عنها، أي من خطيبة ابنها نجيب وليس من أحد أبنائها، وهو اختيار تبقى له دلالته الرمزية المتحكمة فيه.

نحس، في هذه الرواية، وكأن يوسف القعيد يتوخى تجاوز رواياته السابقة على مستوى التنويع في تشغيل البنية الزمنية فيها، ليس فقط باختياره، في هذه الرواية، لمرحلة التسعينيات من القرن الماضي، كزمن واقعي مؤطر للحكاية الإطار الجامعة بين فضاءي الريف والمدينة، خلافًا لبعض روايات القعيد السابقة، في اقتصارها على رصد فترة السبعينيات، سواء من خلال استيحاء فضاء "الريف" أو تمثل فضاء "المدينة"، ويتضح ذلك أكثر من خلال تكثيفه واختصاره للزمن الفعلي للحكاية في أربع وعشرين ساعة فقط. وإضافة كلمة "فقط" إلى بقية مكونات العنوان، لا تخلو من دلالة رمزية مشحونة بالكثافة الزمنية، وطافحة بالأحاسيس، ومليئة بالأحداث. وكأن الكاتب، هنا، يريد تنبيهنا إلى مدى ما يمكن أن يحدث، هنا والآن، من تحولات وانكسارات رهيبة، في مدة زمنية قياسية، قد لا تتجاوز اليوم الواحد. في مسايرتها لأشكال هذا الإيقاع الزمني السريع الذي يواكب سلسلة التحولات، السريعة أيضًا، في المجتمع المصري الراهن، بما فيها التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، من غير أن ننسى، هنا، تلك التحولات المرتبطة بالجغرافيا والأمكنة.

وإذا كانت رواية القعيد قد استغرقت في زمنها الخارجي يومًا واحدًا فقط، فإن زمنها الداخلي يتوغل في العديد من الأزمنة الماضوية، وذلك عبر عمليتي التذكر والاستبطان الداخلي، وهو ما يعمق الإحساس فيها بأشكال المسافات القائمة بين الماضي المستعاد (الزمن الجميل، كما جاء في الرواية) والحاضر الملوث، كما تراه الأم، وكما ترويه لنا، انطلاقًا من مجموع حركاتها الخارجية والاستبطانية، بحيث تجعلنا نعيش معها أحداث هذه الرواية في الوقت نفسه الذي تحدث فيه، بموازاة مع ما تقدمه لنا من مفاجآت ومصادفات ووقائع، وانطلاقًا أيضًا من انعكاس ذلك كله في كيانها هي، كذات كلية.

ينفتح الواقع المروي في هذه الرواية على تسعينيات القرن الماضي، معمقًا لدينا الإحساس، ليس فقط بالتناقض والرعب، بل أيضًا بالتفكك والابتذال والغربة والعزلة واهتزاز القيم، وكلها إفرازات لمراحل سابقة تاريخية تميزت بغياب "الأب الرمزي". وهو ما يجعل الكتابة الروائية عند القعيد تأتي دائمًا كرد فعل ضد خلل ما يستشعره الكاتب في المجتمع: الخلل السياسي والاقتصادي في مراحل ماضوية وفي روايات سابقة.

محمد خير الدين، من بين أوائل الروائيين المغاربة، إن لم يكن الوحيد، كتب روايته الأولى عن الزلزال الذي ضرب مدينة أكادير في المغرب، كتبها بالفرنسية، بعنوان "Agadir" (أكادير) عام 1967


هكذا، نحس في هذه الرواية، وكأن حدث الزلزال الذي أصاب "أم الدنيا" يعتصر جماع تلك الأصناف من الخلل الذي أصاب المجتمع، لكي تتجمع كلها في أخطر خلل يطاوله اليوم، وهو الخلل الاجتماعي تحديدًا، وما يستتبعه من حكي لجوانب من سيرة تدهور مدينة/ أمة، نتيجة لاختلال التخطيطات الهندسية، وأيضا لتواري القيم الأصيلة وموت الضمائر والمشاعر لدى الأفراد. ومدينة القاهرة بذلك، إنما تعري عن وجهها الحقيقي، وعن هشاشتها وزيف رجالها الضائعين والمنافقين والخائنين واللاهثين وراء السراب والمتعة والكسب غير المشروع والاغتناء السريع. كما تعري زيف نسائها الضائعات كذلك بين ليال مكرورة. فالأم في تنقلاتها، في أحياء هذه المدينة الضائعة تحت ركامها وانسحاقها، لم تعد ترى وتصادف أمامها سوى شخوص مهزومة، شخوص سلبها اللهاث وحب الذات وحب التملك والكراهية ضميرها وشرفها ودورها في المجتمع، فحوّل ذلك كله مجرى حياتها نحو السكونية والعدمية، فغاب الصراع الجماعي المباشر من الرواية، وفسح المجال لديدان الفردية والأحلام والأوهام داخل واقعية تائهة. وكأن هذه الرواية، هنا، إنما تنبهنا إلى أن أفراد هذا الجيل، الذي تروي بعض إحباطاته، ليسوا سوى "ضحايا حقيقيين لأزمة حقيقية"، على حد تعبير غالي شكري، بما هي أزمة متعددة الأوجه والامتدادات أيضًا، إلا أنها في العمق تبقى أزمة اجتماعية، كانوا هم ضحاياها.

داخل هذه الأجواء، إذًا، من التباعد وانعدام التواصل العام، تتداخل المحكيات الصغرى فيما بينها في هذه الرواية، لتحكي عن مصائر شخوص تظهر وقد ابتلعتها الوحدانية وكماشة ضغوطات اليومي وصعوبة الحياة وقساوة المعيش وانهيار القيم وتسلط التيه والغربة، بما فيها غربة الأم عن ذاتها، في مواجهتها للخذلان من لدن أبنائها، كنتيجة طبيعية لتفكك الروابط الدموية وانتفاء الواشج الاجتماعي لدى الأفراد. وهو إحساس يكاد يكون عاما في نماذج من الرواية العربية الجديدة، وخصوصا تلك التي استوحت البنية العائلية من منظورات جديدة ومغايرة.

فضلًا عن ذلك، فهي رواية لتجسيد غياب الروابط الشعورية واللاشعورية بين الجيل القديم (وتمثله الأم والأب المتوفى) والجيل الجديد (ويمثله الأبناء) والجيل القادم (ويمثله الولدان نجم الدين الصغير ومحروسة الصغيرة، والمولود المرتقب). فجميع الشخوص التي تنتمي إلى الجيل الثاني يتفجر لديها الإحساس بالقلق الوجودي، على اعتبار أن هذا النمط من الوحدانية ينتمي إلى واحد من الأنماط الثلاثة، كما حددها موريس بلانشور، إنها "الوحدانية داخل العالم" (La solitude dans le monde)، أو "الوحدانية في مستوى العالم" (au niveau du monde)، هناك، حيث الأنا تتخاطر دائمًا في سبيل أن تكتشف العدم الذي يذوبها. وكأن الأم، هنا، لا تلعب سوى دور الشاهدة على حقيقة وعنف ما يحدث أمامها، وقد فشلت في إعادة ترتيب الأمور وردها إلى حقيقتها وبهائها، وإلى جوهرها السابق، أي إلى "تلك العائلة التي كانت"، تقول الرواية (ص 13)، وإلى زمنها الجميل الذي مضى ولن يعود (ص 69). فحتى الابن نادي، تركته الأم معلقًا في الهواء يواجه الانتحار، دون أن تنتظر لمعرفة المصير الذي آل إليه، رفقة تلك البنت التي كان يمارس معها الجنس، بعد فشل محاولات إنقاذه.

هكذا "يصير الاغتراب وسيلة استطيقية للرواية. ذلك أنه كلما صار الناس، فرادى وجماعات، أكثر اغترابًا عن بعضهم البعض، كلما صاروا أكثر إلغازًا واستغلاقًا على فهم بعضهم البعض، وأصبح البحث عن فك لعز الحياة الخارجية، الذي هو المحرك الأصلي للرواية، بمثابة سعي نحو الجوهر الذي يتبدى، في ظل الغربة المألوفة بفعل الأعراف والتقاليد، مفزعًا وغريبًا بصورة مزدوجة"، على حد تعبير فتحي أبو العينين.

انطلاقًا من ذلك كله، تختصر رواية "أربع وعشرون ساعة فقط" رحلة عمر بكامله ومرحلة بكاملها وأيضًا جيلًا بكامله، وهو يعيش حاضرًا يعتريه التمزق والجراح وانتفاء الإحساس بالألفة داخله، وحالات من تلاشي العلائق والأواصر بين أفراد الأسرة الواحدة، من خلال الحضور المهيمن للأم في الرواية، كشاهد رمزي على هذا المشهد التحولي العام، في مقابل تغييبها للأب وإدخاله في دائرة الفقدان، وإن كان يجسد من حين لآخر حضورًا رمزيًا داخل النص من خلال صوت الأم، وبذلك تتعمق المسافة فيما بين الأبناء، كنتيجة حتمية لتضافر مجموعة من الإرغامات المعاكسة لمفهومي "الأسرة" و"الجماعة". وأهمها، في الرواية، الانشغال بتبدل مفهوم الزمن وقد زلزلت الأرض زلزالها.

واستثمار القعيد لقصة الزلزال في هذه الرواية، بذكاء إبداعي وتخييلي لافت، إنما لكي يعرّي أمامنا، مجتمعًا منخورًا من الداخل، وزيفًا في العلاقات الاجتماعية وزيفًا في القيم. فما تعرض له البيت القديم، الذي كان يأوي الأسرة في القاهرة قبل رحيلها إلى القرية، جراء الزلزال، لا يجسد سوى خلفية لتحريك الإحساس بانفلات الروابط، حيث تتنكر نجية لأمها أمام الملأ، وحيث تجهض نادرة - أمام أمها وأبنائها- أحلام الحب والعمل وتقتل المشاعر العاطفية فيها، وقد انعدم لديها الشعور بالشرف، فحولت بيتها إلى وكر للدعارة ولبيع الجسد، وحيث يعري الزلزال تفشي الممارسات اللاأخلاقية للابن نادي الذي ظهر أمام أمه مصابًا بحالة من الرعب، غير قادر على التستر مع خليلته التي أدهشتها الفضيحة، وحيث يخدع الابن نجيب زوجته، فتكتشف – ومعها الأم- ارتباطه السري بامرأة أخرى، في الوقت الذي تترقب فيه الزوجة، مولودها الأول. وحيث يتاجر ناجح في الأغذية الفاسدة، فلم يتردد في الهجوم على أمه، لحظة زيارتها له، ليحصل على ما بحوزتها من فلوس.

لربما تعمد يوسف القعيد عدم إبراز الجانب السياسي والأيديولوجي في روايته، الذي ظل محدودًا ومتواريًا، ليعوضه بالتأريخ لمرحلة جديدة من التحولات، بحادث الزلزال، كبعد طبيعي واجتماعي ومادي ورمزي، أكثر منه بعدًا تاريخيًا أو أيديولوجيًا أو سياسيًا. وبالرغم من ذلك، فإن بعض الملامح العامة المحددة للبعد السياسي والأيديولوجي، تتسلل، بين الفينة والأخرى، لتطفو على سطح الرواية، ليس كخاصية مقحمة، بل باعتبارها بعدًا دلاليًا ورمزيًا مجسدًا لنوع من المسافة القائمة بين ثلاث مراحل متباينة فيما بينها، لكنها ليست غريبة عن بعضها البعض: المرحلة الناصرية والمرحلة الساداتية والمرحلة الراهنة التي يتفاعل معها هذا النص، باعتبارها مرحلة الزلزال والفقدان والضحايا.

هكذا، يعيد القعيد في هذه الرواية تفكيك البنية العائلية، كما تمثلتها الرواية المصرية في مرحلة تاريخية سابقة، وكما رصدتها، على سبيل المثال، "ثلاثية" نجيب محفوظ، في فترة حساسة من تاريخ مصر، السياسي والاجتماعي، في حين تعيد رواية "أربع وعشرون ساعة فقط" فتح فجوة كبيرة في حركة التاريخ المصري الحديث. وبالتالي، تعيد تفكيك فكر التلاحم على مستوى البنية العائلية، كما على مستوى العالم الخارجي. فلا تلاحم تحققه الشخوص فيما بينها كأسرة، ولا تلاحم يعيشه المجتمع في مواجهة تفسخه وانحلاله.

هي، إذا، رواية لتجسيد صورة "الخراب" ولسرد جوانب من سيرته، كما ولده الزلزال، وكما أفرزه المجتمع، من خلال انهيار القيم فيه وسقوط الإحساس بالوطنية والانتماء. والرواية بذلك، إنما تهدم ملامح مرحلة اجتماعية بكاملها، كما تهدم، في مستوى آخر، نمطًا خاصًا من الرواية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.