}

كيف تشاهد موتك مرتين؟

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 16 يناير 2024
استعادات كيف تشاهد موتك مرتين؟
يقول قاتلنا إنه بريء، ويجرّمنا بتهمة أننا "الضحايا"(الصورة: غيتي)

 

تقول السيدة نجاح من خلف آلاف الكيلومترات ومن منفاها: هذا بيتنا، تختنق بصرخاتها، تقترب من شاشة التلفزيون، تشير إلى الركام وتتوسل أن يبحثوا تحته عن ابنها، وتصف للحاضرين ملابسه، تنعدم عندها المسافات، وتختلط عليها مشاهد الدمار، تبكي بحرقة الأم الثكلى، ونبكي معها، أقول لها: هذه مشاهد من غزة! وتصر أنها من سورية، تحرك يدها على الشاشة، تصف لنا طرقات تمر من أمام المبنى وخلفه، هنا كانت صيدلية، وهناك مشفى، على يمين الشارع مسجد صغير هلاله مقصوف بالبراميل، على الجانب الآخر، هناك زقاق صغير مرصوف بالحجارة وصولا إلى كنيسة أثرية، تلك صلبانها المكسورة، ثم تتلمس أكياس الضحايا، وتسألني: هل رأيت ابني كيف كان يبتسم للحرية؟      

يستعيد السوريون في حرب غزة يومياتهم التي عايشوها على مدار أكثر من عقد، يتابعونها كأنها دراما تجسّد ذكرياتهم، "تغريبة جديدة" يتوقعون أحداثها، يعايشون لحظات الخوف، يتملكهم الرعب وهم يميزون أصوات الصواريخ والقنابل وقذائف الدبابات وأنواع الأسلحة، ثمة أسلحة لم يجربوها، لغلائها وحداثتها وجهة الصنع، لكنهم يستطيعون توقع مساحة خرابها وحجم دمارها، هي الفوضى التي تعقب مجزرة هنا، وجريمة حرب هناك، جثث متناثرة وأجساد ممزقة، وأطراف تطفو فوق رماد الحريق، وأخرى تغرق بين الركام، وصرخات الباحثين عن بقايا حياة تضيع بين جموع الموتى، إنها الحرب التي تطلق العنان لجنون الحمقى أن يستبيحوا حياة الآمنين، وأن يحولوا الأوطان إلى مقابر، والحاضر إلى ماض لمستقبل قد لا يكون.

تلك "طيارة" ليست كتلك التي تعلمنا أن ننشد عنها، (طيارة طارت بالجو فيها عسكر فيها ضو، فيها إبراهيم هنانو راكب على ظهر حصانه)، هذه طائرة تقذف حممها فوق رؤوسنا، وذاك صاروخ موجه، هذا بناء يسكنه جيراننا صار أثرا بعد عين، هو قادم نحونا، ويفوز بالشهادة من يخطئ التوقعات، ويتسمر في المكان، هكذا كانت الرهانات على مدار 12 عامًا من قتال لم تهدأ مفاعيله، حتى عادت حلقاته تتجدد في مكان آخر إلى القرب من قلوب السوريين في أعمق نقطة من قلوبهم، في فلسطين، وغزة في غرتها، تحولت المدن إلى بقايا خارج الخدمة، لم تستطع المساجد والكنائس أن تقاوم رغبتها في الاستشهاد، وصارت المشافي نقاط استهداف، مات الأطباء قبل الجرحى، قتلوا الرجال والنساء والأطفال، قتلوا الشباب والمسنين، صادرت "النعوات" جدران المدن، وصارت المدن مقابر للقاتل والقتيل.

لم يبق مكان للسكن، هدمت إسرائيل الوحدات السكنية، لم تبق على مكان آمن في غزة، ولم يبق في درعا وحمص وريف دمشق ودير الزور وكل مدن سوريا أي أمان، فإذا لم يصادفك موت بالرصاص، قد تستجر إلى موت تحت التعذيب في المعتقلات، أو في حفرة النار في مخيم اليرموك، أو إلى جوار مخيم فلسطين، عند مدخل دمشق الجنوبي. أيضًا، هجّرت إسرائيل أهل غزة، صار عدد المهجّرين مليونين، وصار نصف سكان سورية مهاجرين أو لاجئين، في خيام من ورق، لا تستر عري ما يسمى المجتمع الدولي، ويحلم ساكنوها بمساعدات قد لا تنجو من سرقة، أو قصف، أو ابتزاز، في حين تتبادل الدول الأدوار، إحداها تمد القاتل بالسلاح، والأخرى تمدنا بالأكفان، نحن الشعوب التي إذا قررت أن تعيش تقابلها أنظمة القرار بالموت والدمار.

نتابع مسلسل موتنا ببث معاد، نعرف سياق أحداثه، لكننا نتسمّر خلف الشاشات لنشاهد موتنا المتجدّد، يقول قاتلنا إنه بريء، ويجرّمنا بتهمة أننا "الضحايا"، نتحمّل مسؤولية جريمته، ويطلب من محكمة العدل الدولية أن تنصفه، يواجه العدو الإسرائيلي الغاصب تهم الإبادة والتهجير والفصل العنصري، في ذات المحكمة التي وجدت لإنصاف ضحايا يهود من ذات نوع الجرائم التي ارتكبتها أوروبا بحقهم، يقف في قفص الاتهام مرتديًا كامل أدلة الجريمة، وكأنه يستعيد التاريخ، نحن اليوم بين عامي 1941-1945 بالتوقيت الإسرائيلي بديلًا عن التوقيت "الهتلري" الألماني، حيث يتقمص زعماء إسرائيل روح النازية، ويطلقون سلاحهم لمهمة القتل العشوائي للفلسطينيين، ليصنعوا روايتهم الجديدة لمعنى "الكل محروق" أو "هولوكوست القرن الجديد".

النازية في حينها تذرعت بأنها العرق الأنقى والأرقى بين البشر، وأن على الآخرين الخضوع له، والامتنان له، وإسرائيل اليوم تحاول استلهام التجربة بكاملها، ليس بادّعاء أنها دولة "شعب الله المختار" فقط، وإنما أيضًا باعتبار أنها وحدها تملك حق الدفاع عن النفس، وضمنه القتل المفتوح، ضد ضحاياها الذين وصفهم وزير دفاعها يوآف غالانت بأنهم "حيوانات بشرية" اعتمادا على ذات النظرية العرقية.

في الحروب تستعيد البشرية بدائيتها الوحشية، ينتصر الأكثر قدرة على القتل، وعلى استعادة التاريخ المخجل للشعوب، تتنحى المدنية جانبًا، وينأى أصحاب القوة بأنفسهم عن القيم الإنسانية، التي عمرتها البشرية طوال تاريخها، وتتحول الحداثة إلى مصنع للسلاح، وتتحول قوانين حقوق الإنسان إلى طرفة مضحكة يتندّر فيها زعماء عصابات الحروب وتجارها، حيث لا عدالة في قواميس الأقوياء ولا حقوق لغيرهم، هكذا يستعيد الطغاة رواية الرجل الأبيض والهندي الأحمر، يستعيدون زمن السيد والعبد، ويقفزون فوق قرن من الزمن بكامل تحولاته وثورات من أجل الحرية والتحرر والعدالة والمساواة، تحضر الحروب العالمية من عمق التاريخ إلى أحدثه، وتستعيد الدول اصطفافاتها، دول احتلال ومحتلة، ودول الأسياد والرعية.

تعيد الأخبار القادمة من غزة تفاصيل مأساة كل سوري، كأننا نشاهد موتنا مرتين، ودمار مدننا، وتغريبتنا وضعف حيلتنا، وكأن هذه الأرض لا تتسع لحريتنا وضحكات أولادنا، وكأن مجلس الأمن لا يقوى على وقف مقتلتنا مرتين، بل مرارًا وتكرارًا، في سورية وفلسطين ولبنان والعراق واليمن وليبيا وتحت هذه الشمس الساطعة.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.