}

عن الرقابة: تاريخ من القتل وحرق الكتب والمفارقات الساخرة

باسم سليمان 8 أكتوبر 2024
استعادات عن الرقابة: تاريخ من القتل وحرق الكتب والمفارقات الساخرة
القديس دومينيك يحرق الكتب في القرن الخامس عشر (Getty)
خاطب الفيلسوف وعالم الفلك الإيطالي جيوردانو برونو (1548-1600) القُضاة الذين أمروا بحرقه، بناءً على رغبة الكنيسة، بسبب آرائه في الفلك والسياسة والدين: "لعلّ خوفكم من إصدار الحكم عليّ، أعظم من خوفي من سماعه". بهذه الكلمات الرؤيوية اختصر برونو جوهر الرقابة وعلاقتها بحرّية التفكير. إنّ تاريخ الرقابة، هو تاريخ الحرّية، يا للمفارقة! فإذا كانت كلمة يراقب/ Censor مشتقة من اللغة اللاتينية "censeo" والتي تعني يحكم أو يقرّر أو يقيّم، ففعل الحرية ذاته يفيد القدرة على إطلاق الأحكام والتقرير والتقييم.

تتضمّن فكرة الرقابة، بشكل عام، استعمال القوة قسرًا، لمنع حرية التعبير أو حظرها أو معاقبتها؛ وعادة ما تكون بيد السلطة، أكانت دينية أو سياسية أو اقتصادية. في حين تكون حرية التعبير مطلبًا للفئات المحكومة أو المعارضة في مواجهة الفئات الحاكمة. لجأ البشر منذ الخطوات الأولى لحضارتهم إلى آليات الرقابة، فعندما اُتهم الزعيم ماو تسي تونغ في العصر الحديث إبّان الثورة الثقافية في الصين، بأنّه أشبه بالإمبراطور الصيني تشِن شيهوانغ (259-210 ق. م) الذي قمع الحكماء الكونفوشيوسيين والرهبان البوذيين وصولًا إلى قتلهم ومصادرة كتبهم وحرقها، بعد أن انتهى من معارضيه السياسيين والعسكريين؛ عندها أجاب ماو تسي تونغ الذي قاد الثورة الثقافية في الصين على الماضي (1966-1976) ودمّر الأربعة القديمة "الأفكار القديمة، الثقاقة القديمة، العادات القديمة، التقاليد القديمة"؛ بأنّ: " تشِن دفن أربعمائة وستين عالمًا وهم على قيد الحياة، أمّا نحن فقمنا بدفن ستة وأربعين ألف عالم أحياء! أنتم أيّها المفكّرون تبغضوننا لأنّنا تشِن- شيهوانغيون، لكنّكم على خطأ، لقد تفوّقنا على تشِن شيهوانغ بمائة ضعف".
يقول جورج أورويل صاحب رواية "1984" بأنّ السلطات التي تمارس الرقابة تحاول خلق التاريخ لا استقراءه، فهي تمحوه كرقّ لتعيد كتابة التاريخ والحاضر الذي يوافق مشروعها. في الحرب الغواتيمالية (1960-1996) لجأت السلطات لقتل عجائز شعوب المايا وذلك لتقطع علاقة الشباب الثائر بماضيه حيث كان يقال: "أي عجوز يموت، بمثابة مكتبة تحرق". يعتبر الفيسبوك أكبر منصة للتعبير في زمننا الحالي، لكنّه يحذف في اليوم الواحد، أكثر من مليون منشور لا توافق هواه السياسي والتجاري. قال جورج أورويل في مقالة له، بعنوان "منع الأدب" بعد موجات الرقابة العنيفة التي رافقت الحربين العالميتين من قبل السلطات المتحاربة وأيديولوجياتها المختلفة، بأنّ جمهورًا قد نما من جرّاء ذلك، لم يعد يبالي، أسواء قيلت له الحقيقة أم الأكاذيب. جمهور لا تهمّه الحقيقة لا من قريب ولا من بعيد، طالما كان ما يسمعه يتوافق مع ميوله، بدءًا بالسياسية وليس انتهاءً بالعاطفية، وهذا ما نراه على وسائط السوشيال ميديا حاليًا!
لقد تضخّمت آليات الرقابة عبر الزمن، وبالمقابل اكتسبت حرّية التعبير مساحات كبيرة أيضًا، لدرجة أصبحت هي بذاتها تهدّد معنى الحرّية! هذا ما يناقشه الكاتب والمحامي إريك بِركويتز في كتابه "أفكار خطرة، تاريخ موجز للرقابة في الغرب، منذ العصور القديمة إلى فيك نيوز" الصادر من دار المدى، بترجمة د. رشا صادق، عام 2023.

الرقابة في العالم القديم

إنّ أكبر مرآة تعكس الرقابة هي الكلمة والصورة، فقد كانتا مدار تجلياتها بسبب أصولهما السحرية والدينية، ففي الكثير من الأساطير والأديان كان للكلمة قوة خالقة، فهي ليست صوتًا أو خطّ حبرٍ، بل هي مليئة بالقدسية والتابوهات، ففي التوراة خلق الإله الكون بالكلمة، وفي البيرو كانت شعوب أميركا الأصلية تقول، بأنّ الكلمة أعطت الوجود للأب الأول، وكما يقول عالم اللغة إرنست كاسيرر، بأنّ الأساطير مهما كانت قديمة تحظى الكلمة فيها بالمرتبة السامية.

لقد أَجبرت الإلهة إيزيس في الحضارة المصرية الإله "رع" أن يمنحها اسمه السّرّي، وعندما علمت به، أصبح لها سلطة على الآلهة الأخرى. ويرى الأركيولوجي في. غوردون تشايلد بأنّ الصورة المنقوشة على الأحجار الكريمة والحجارة والطين كان لها قوة سحرية. لقد كان للكلمات والصور رهبة وقداسة، فمن يمتلك نطقها وتخصيص معانيها واستخدامها لإصدار الأفعال كان يمتلك السلطة، فأيّ خرقٍ بحقّها كان يستتبع عقوبات شديدة. تنصّ التوراة على أنّ أيّ تجديف بحقّ اسم الرب من أي شخص كان، يجب أن يُقتل، أسواء كان يهوديًا أم غريبًا؛ حيث ذكر سفر اللاويين: "الغريب كالوطني عندما يجدّف على الاسم يقتل". امتلأت التوراة بالمحظورات وخاصة المتعلّقة بتصوير الإله بأيّ شكل كان، ممّا دفع اليهود إلى تحطيم أصنام وصور الشعوب الأخرى. إنّ البصمة التي تركتها التوراة على آليات الرقابة كبيرة جدًا، لكن لن تظهر تأثيراتها بشكل واضح وجلي إلّا مع الديانة المسيحية، التي ستصبغ رقابتها الحضارة الغربية حتى لحظتنا الحالية.

تضخّمت آليات الرقابة عبر الزمن، وبالمقابل اكتسبت حرّية التعبير مساحات كبيرة لدرجة أصبحت هي بذاتها تهدّد معنى الحرّية! هذا ما يناقشه الكاتب إريك بِركويتز في كتابه "أفكار خطرة"


لم تكن التوراة هي المنشأ الوحيد للرقابة ذات الصبغة الدينية في الغرب، فقد كان لليونان حصّتها النظرية والتطبيقية فيها. لقد كانت الرقابة في اليونان تنوس بين حدّي الحرب والسلام، ففي أيام السلام كان من الممكن التسامح مع آراء سقراط والسفسطائي بروتاغوراس صاحب مقولة: "الإنسان هو مقياس الأشياء كلّها" حتى لو جدّفا على الآلهة، لكن ما إن تتبدّل حالة السلام إلى حالة الحرب، حتى تكشّر أثينا عن أنيابها الرقابية. تعدّ محاكمة الفيلسوف الطبيعي أناكساغوراس (430 ق. م) الذي قال بأنّ الشمس حجر مشتعل وليست آلهة من أوائل المحاكمات التي بدأت تجتاح أثينا والعالم اليوناني. لقد كانت أثينا من أكثر المدن حرّية، فللرجال الأحرار الحقّ بقول ما يشاؤون في الاجتماعات العامة، وبالطريقة التي يرونها مناسبة، ولم تكن أثينا تعترض على ذلك، لكنّ القسم الأكبر من الشعب من نساء وعبيد وأطفال كانوا محرومين من حقّهم في الكلام؛ تقول جوكاستا في إحدى مسرحيات يوربيدس: "إنّه قَدَر العبد ألّا يقول ما يفكر به"؟. إنّ قول جوكاستا ينطبق على الأحرار في حالات الحرب والكوارث، ففي الحرب الأثينية الإسبرطية أصبح مجرد التشكيك بآلهة أثينا يقود إلى الإعدام، فأول محرقة للكتب في التاريخ كانت بحقّ الفيلسوف بروتاغوراس. بعد هزيمة أثينا أمام إسبرطة أصبح أيّ رأي مقموع، وهكذا عندما شكّك سقراط بآلهة أثينا أعدم بكأس من الشوكران، وللمفارقة الساخرة سقى أفلاطون العالم الفكري بكأس شوكران فكري من الرقابة على لسان سقراط. لقد كانت آراء أفلاطون الرقابية الرحم الصناعي لكل أنواع الرقابة التي اجتاحت عالمنا فيما بعد. أمّا الطرف الثالث في عالم الرقابة، فكانت روما التي طاولت رقابتها كل شيء، بدءًا من كتب التنجيم التي تتوقّع موت إمبراطور ما، إلى مجرّد تخيّل موته. وقد علّق المؤرخ الروماني تاسيسوس على هذه الرقابة المجنونة بالقول: "لا يتمالك المرء نفسه من الضحك على غباء الرجال الذين يعتقدون بأنّ استبداد الحاضر، قادر فعلًا على محو ذاكرة الجيل القادم".
لقد ذكر إريك بِركويتز الكثير من أساليب القمع والرقابة في روما وسنختار منها ما يسمى "لعن الذكرى" لعبثيتها! لقد كانت كتب المفكرين تحرق ويعدم أصحابها، ومن ثمّ يحرّم ذكرهم، حيث نرى مثلًا لذلك في رواية "فهرنهايت 451" للروائي راي برادلي التي كانت تُحرق فيها الكتب، لكنّ الحكّام الذين مارسوا رقابة "لعن الذكرى" على معارضيهم للمفارقة الساخرة طبقت عليهم. كان الإمبراطور دومسيان من أشدّ الديكتاتوريين الذين طبقوا مفهوم لعن الذكرى، وبعد أن اغتيل بمؤامرة نسجتها زوجته ومعارضوه، شُطب اسمه من السجّلات وحطّمت تماثيله وحوّلت إلى مباول وأدوات للطعام، كما فعل ستالين برفيق النضال ليون تروتسكي عندما محا وجوده من سجلات الحزب وصوره. لكن الغريب في مفهوم لعن الذكرى لا يمكن أن يُتصوّر إلّا بالتذكّر ليحصل النسيان! كثيرًا ما يُذكر المثل بأنّ "للحيطان آذان" تخويفًا من سطوة الرقابة في الأزمنة الديكتاتورية. وهذا المثل وجد له تطبيق حرفي في روما، ففي عهد الإمبراطور تيبريوس كان أحد الفرسان الكبار واسمه "تيتوس سابينوس" على عداء كبير مع الإمبراطور، قد أقام حفلة، وبعد أن لعبت الخمرة برأسه أفشى مكنونات أسراره لأصدقائه، الذين كانوا قد أحضروا معهم شهودًا من مجلس الشيوخ التابع لتيبريوس، الذين استرقوا السمع من خلف ثقوب في الجدران. أعدم سابينوس ورميت جثته في نهر التيبر. لقد تبنت روما المسيحية بعد عداء كبير معها، وقد كانت عقيدة المسيحيين تنصّ على أنّ مملكة الرب قريبة، فعمدوا إلى تدمير كتب الوثنيين، كما فعل الوثنيون بكتب المسيحيين سابقًا. هكذا اجتمعت في روما الرقابة بشكليها الديني والسياسي.


زلزال الطباعة

لقد أدّت الطباعة إلى انفجار هائل في المعرفة، فلقد سمحت حتى للطبقات الفقيرة والمستبعدة من المعرفة أن تعلم وتمتلك الكتب. أمام هذا الواقع علّق البابا ألكساندر السادس (1501) بأنّ الطباعة ستسمح للكتب الخبيثة بالتواجد والظهور علنًا، واستنتج أنّه لا مناص من السيطرة التامة على المطابع حتى يمنع شرّها. يُقال بأنّه لولا المطبعة لم يكن للإصلاح البروتستانتي بقيادة مارتن لوثر أن يحدث بتلك الوتيرة المتسارعة. وضعت الكنيسة قائمة بالكتب الممنوعة بدءًا من الكتب الفلسفية إلى الجنسية عام 1564 وكانت تحدّثها دوريًا، ولم تلغ قائمة الكنيسة للكتب الممنوعة حتى عام 1966! تحايل الكتاب والناشرون والمطبعيون على قوائم الكنيسة والحكّام في ذلك الزمن، ممّا أوجد تجارة سرّية كبيرة للكتب، وأوجد مفهوم الرقابة السابقة على الكتب كما نعرفها الآن. لقد منعت الكنيسة ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات المحلّية الأوروبية وعندما ترجم مارتن لوثر الكتاب المقدس إلى الألمانية لعنته كنسيًا. لم تكن الحركة البروتستانتية هي الأخرى مع حرية التعبير بالمطلق، فقد قامت بتكسير الأيقونات المقدسة وتماثيل مريم العذراء وتبادلت مع كنيسة روما قوائم المنع. ظلّت الرقابة بيد الكنيسة والحكّام التابعين لها في دول أوروبا، لكن بعد الفوضى السياسية في إنكلترا وقطع رأس الملك بسبب الخيانة، بدأت إرهاصات التفكير بالحقّ الطبيعي للإنسان بأن يكون حرّا في تفكيره وآرائه، وأنّ دور الحكومة يتلخّص بحماية هذا الحقّ، لا باختزاله وفق مصالحها.

جادل الشاعر جون ميلتون (1644) حول مبدأ حقّ الطباعة من دون الحاجة إلى تراخيص من الحكومة، مستندًا إلى مقولة مفكّر يوناني قديم يدعى إيسقراط الذي يقول: "ذاك الذي يدمر كتابًا جيدًا، يقتل صورة الرب كما تراه العين"، لكنّ مطالبات ميلتون كانت تخصّ أصحاب المذهب البروتستانتي لا غيره من المذاهب لذلك يقول: "النار والجلّاد هما أفضل الأدوات المتاحة بيد الإنسان للوقاية" وكان يقصد بآراء كتب الآخرين. لا نستطيع أن نعتبر مقولة ميلتون الأخيرة كبوة حصان شاعر، فما قاله يعتبر خطوة كبيرة في سبيل حرّية التعبير آنذاك. أمّا الخطوة المهمّة، فقد جاءت من الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا في كتابه "تراكتوس- رسالة في اللاهوت والسياسة" عام 1670 والذي جادل فيه بشكل مطلق بحقّ الإنسان بالتفكير الحرّ والتعبير عن آرائه، فمن المستحيل أن يخضع عقل لسيطرة عقل آخر. وصفت الكنيسة كتاب سبينوزا بأنّه: "كتاب أُعِدّ في الجحيم على يد يهودي مارق وبمساعدة الشيطان". هذه ليست المرة الأولى التي يلعن فيها سبينوزا فقد طُبقت عليه عقوبة الحرمان الديني من قبل الجالية اليهودية في البرتغال.

وصفت الكنيسة كتاب سبينوزا بأنّه: "كتاب أُعِدّ في الجحيم على يد يهودي مارق وبمساعدة الشيطان"


كان إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا بعد الثورة عام 1789 والدستور الأميركي إبّان إعلان استقلال أميركا عن إنكلترا، خطوة جبارة في طريق تأكيد حرية التعبير مع أنّ مبادئهما لم تطبق إلّا بعد زمن طويل. لقد أحرقت الثورة الفرنسية روائع فنّية تعود إلى زمن الملوك الذين ثارت عليهم، لكنّها لم تتنبه إلّا بعد فترة لما دُمر من روائع، فأنشأ قادة الثورة متحف اللوفر، لكن الكثير من الإبداعات البشرية كانت قد أحرقت من أجل حرية الفكر والتعبير يا للغرابة! كانت أميركا تشبه أوروبا، فلقد حرقت الكتب وسجن وأعدم  المطالبون بحرية الأفكار، لكنّ صدامها مع الإنكليز سرّع عملية قبول حرية التعبير والنصّ عليها في الدستور، والتي دعمتها أحكام المحاكم بصورة مبشّرة إلى حدّ ما. كانت الصحافة هي الحصان الأسود في الحرب ضد الرقابة ولذلك قال نابليون: "أربع صحف معادية، تخيفني أكثر من ألف حربة، وإن سمحت بصحافة حرّة لن أبقى في كرسيّي لثلاثة أشهر أخرى".

امتدّت الرقابة بعد اختراع المطبعة إلى جوهر الصراع بين الطبقات، فالهدف منها قد أصبح منع الطبقات المستغلَّة من إدراك حقوقها، لذلك كانت الرقابة تسمح بإصدار الكتب الخطيرة المتعلّقة بحرية التعبير والتفكير، شرط أن تكون باهظة الثمن، بحيث لا تستطيع أن تقتنيها الطبقات الفقيرة. لم تتوقف الرقابة عند ذلك بل شملت ضرورة الإبقاء على التراتبية بين الذكور والإناث، هكذا نال المنع رواية فلوبير "مدام بوفاري" لأنّها تخاطب شهوات الأنثى بمكان ما، كما فسّرتها الرقابة. وبالمثل طاول المنع "أزهار الشّرّ" لبودلير، فما يجب أن يعرفه الرجل لا يجوز أن تعرفه المرأة. والأغرب من ذلك، كان في الرقابة على الكتب التي تتناول المثلية الجنسية لدى الرجال، فقد منعت حتى لو كانت بحثًا علميًا، لكن عندما سُمح بها في أوائل القرن التاسع عشر في بعض البلدان، انصب المنع فقط على أيّة كتابة تتناول المثلية لدى المرأة! وأمام هذا الواقع الرهيب للرقابة قال الكاتب الروسي بوشكين ممتعضًا: "وحده الشيطان من فكّر بجعلي أولد في روسيا مع عقل وموهبة".

المقص في الرأس

شهد القرن العشرون أعظم حربين عرفتهما البشرية، وبقدر ما دمرا أوروبا والعالم، فقد أعادا بناء حرّية التعبير في مواجهة الرقابة. قال السيناتور الأميركي هيرام جونسون عام 1917: "الضحية الأولى التي تسقط ما أن تندلع الحرب، هي الحقيقة"، فلقد مُنعت الصحافة من نقل ما يحدث على الجبهات، وقد قال تشرتشل عن تغطية الحرب: يجب أن تحدث في الضباب، وأفضل مكان لنقل وقائع الحرب من داخل لندن، وما كان يقصده بأنّ الحرب سرّ عسكري لا شأن للمدنيين فيه، ولا حتى للجنود الذين كانوا يمنحون بطاقات فيها عدّة جمل معينة يشطبون بخطّ تحت ما يريدون منها ويرسلونها إلى أهاليهم، كي لا يسرّبوا أخبار الجبهات. وعندما قصفت الولايات المتحدة الأميركية اليابان بالقنابل الذرية منعت الصحافة والمصورين من نقل ما حدث، وقد علّق الروائي جون شتاينبك (1902-1968) على أسلوب تغطية الحرب الصحافية بأن تكتب مقالات دعائية أو تخرس أو تقاتل؛ هكذا رأى الخيارات المتاحة للفكر الحرّ في زمن الحرب.

بعد الحرب العالميتين شهد الغرب تجاذبًا بين الرقابة والحرية؛ انتهى لصالح حرّية التعبير والتفكير. وينقسم الآن هذا التجاذب إلى خطيّن، فالولايات المتحدة الأميركية تعلي حرّية التعبير والتفكير على الكرامة، فإذا كان الرأي المقال بغيضًا ويسبب امتعاض الآخرين، فلا مانع منه، ما دام لا ينتقل إلى حيّز الفعل وإن أهدر بمكان ما كرامة الآخرين! بينما في أوروبا تُنصب الكرامة الإنسانية سيدة على الحرّية، لكنّ التطبيقات الجهوية لهذين الأسلوبين، على الرغم من نسبويتها، فإنها تصب في النهاية في خانة الرأسمالية والإمبريالية. وقد سأل أحد السيناتورات مؤسّس فيسبوك، كيف جعلته مجانيًا مدى الحياة؟ فأجابه مارك زوكربيرغ، بأنّه يبيع الإعلانات! لم يشرح زوكربيرغ للسيناتور العجوز طبيعة تلك الإعلانات، بأنّها عواطف واهتمامات وآراء وخصوصية متصفحي مستخدمي السوشيال ميديا، التي تباع إلى الشركات التجارية والحكومات لتستكشف توجّه آراء الناخبين.

لقد اُستبشر خيرًا بالإنترنت، وبأنّها ستكون زمنًا جميلًا لتبادل الآراء والحرّيات، حتى أنّ الرئيس أوباما في تعليقه على القمع الصيني لحرّية التعبير، الذي تمارسه على مستخدمي الإنترنت لديها، قال بأنّ ما تفعله أشبه بتثبيت قطعة من حلوى الجيلي على الحائط، وهذا لا يمكن أن يحدث! لكنّ الصين فعلتها بعدما اشترطت على منصات السوشيال ميديا ومحركات البحث مثل (google) وغيره، بأن يلتزموا بأوامرها حتى يدخلوا سوقها التجارية. كان جورج أورويل متفائلًا بأنّ الرقابة لن تطاول الحقائق العلمية، فحتى هتلر لن يستطيع أن ينكر بأن: اثنان + اثنان يساوي أربعة، لكن لو قيض له أن يرى كيف حُذفت من المناهج الأميركية مصطلحات من مثل (الاحتباس الحراري) ونتائجه الخطرة على تغيّر المناخ، الناتج عن انبعاث غازات الكربون من قبل أكبر المصنعين في العالم، لأعاد التفكير بتفاؤله.

الآن، ونحن على أعتاب ألفية ثالثة، لم تعد المشكلة في الرقابة، بل في الحرّية التي أُطلقت على عواهنها في العالم الغربي بما يخصّه بشكل ذاتي، لا بالنسبة لبقية العالم الذي ما زال يتخبط بأحابيل الرقابات القديمة، ويمارس عليه الغرب أساليب الرقابة القديمة في الوقت نفسه.

إنّ الحرية المشتهاة في الغرب انقلبت إلى خطاب عنصري تنمّري تسعى الحكومات الغربية في مواجهته، إلى إمساك العصا من المنتصف، فمن ناحية لا تقبل المخاطرة بقمع حرّية التعبير، ومن ناحية أخرى تبحث عن حرّية مسؤولة، حيث تُصبح مقولة أورويل كسيف ذي حدّين: "إنّ كان للحرية من معنى، فهو الحقّ بإخبار الناس بما لا يودون سماعه"؛ والمثال عن ذلك الرئيس دونالد ترامب الذي استشاط غضبًا عندما وضع موقعا إكس وفيسبوك علامة التأكّد من المعلومات التي ينشرها على حسابه فيهما، وحتى أنّهما ذهبا إلى حذف حسابه مع أنّ ترامب كان يجبر الموظفين لديه في البيت الأبيض على الكتمان، وإلّا غرموا بالأموال، كما فعل بالعمال لديه في شركاته، فالرئيس ترامب مثلٌ عن حرية بلا قيد، لكنّها تصبح رقابة على الغير!  

إنّ ميزة كتاب إريك بركويتز تكمن بأنّه لم يثقل كتابه بالتحليلات النظرية، بل عمد إلى تقديم أمثلة كثيرة ومتنوعة عن الرقابة في التاريخ وخاصة الغربي، بدءًا من تخيّل موت الإمبراطور بالأحلام  في روما، إلى منع الأواني المنزلية المكتوب عليها كلمة حرية في النمسا، وليس أخيرًا منع كتاب "أليس في بلاد العجائب" لأنّ الحيوانات تتكلم فيه! ليترك للقارئ حرّية التحليل واستنباط العبر من تاريخ الرقابة/ الحرّية.

*كاتب من سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.