يُعتبر أفلاطون الأب المؤسّس للفلسفة، فهو من قعّد بشكل منهجي مفاهيم العدل والحقّ والخير، والسؤال الجوهري عن معنى وجود الإنسان على هذه الأرض؛ لكن في الوقت نفسه أسّس لمفاهيم الرقابة على الفنّ والآداب، والتي عوّقت إلى حدّ ما من قدرات الإنسان على اكْتناه معناه الوجودي عبر التاريخ.
إنّ البحث عن جذور الرقابة سنجدها في محاورات أفلاطون وتحديدًا في كتابيه: "السياسة" و"الجمهورية"، اللذين يعدّان الحاضنة الفلسفية لنشأة الرقابة بأشكالها كافة، على الرغم من أنّ ربط الرقابة بالفلسفة غير منطقيٍّ، فالفلسفة التي تعني حبّ المعرفة والحريّة، لا يمكن أن تتقبّل حتى قيودها الذاتية، لكن بويضة الرقابة في الفلسفة كانت قد أُخصبت من العلاقة الترابطية السلطوية بين أفراد المجتمع البشري، وكيفية إدارة تلك العلاقة بينهم. وإنْ كان لنا، أن نقول الأمر بدقّة إمبريقية، فالرقابة تتأتّى من حتمية أن يخضع الكائن البشري لنظام ما، حتّى ولو كان فردًا مفردًا على جزيرة، كما في رواية "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو الذي أعاد إنتاج تقاليد العيش الإنكليزية ورقابتها، على الرغم من أّنّه كان الكائن البشري الوحيد على الجزيرة، لأنّ الرقابة قبل أن تكون معنى أخلاقيًّا ووجوديًا، فهي مسنّنٌ مهمٌ في مكنة بقاء الكائن البشري على قيد الحياة.
نتجت الرقابة من الضرورة الفلسفية والحتمية المجتمعية، لذلك علينا أن نبحث عن الأصول النفسية للرقابة لدى أفلاطون، بما أنّه كائن بشري يعيش في مجتمع ويتفاعل مع أزماته. لقد سُئل سقراط معلّم أفلاطون عن طبيعة عمله الفلسفي، حين حاكمته أثينا، لأنّه أفسد عقول الشباب بآرائه، فأجاب بأنّه كالقابلة، فتلك تساعد في إنجاب الأطفال، لكنّها غير مسؤولة عن تنشئتهم وهو كذلك، حيث يساعد الشباب على توليد الأفكار، ولكنه ليس مسؤولًا عن تنشئتهم أو تبنّيهم لهذه الأفكار! فما الذي حدث مع أفلاطون صاحب النوايا الجيدة في محاولة إعادة بناء أثينا كمدينة قوية بعد أن هُزمت من قبل إسبرطة حتى تتحوّل فلسفته إلى أرض خصبة لكلّ أشكال القمع للفنون والآداب عبر التاريخ، وكأنّ الطريق إلى جهنم معبّدٌ بالنوايا الحسنة! لقد خالف أفلاطون سقراط، فأصبح القابلة التي لا تكتفي بتوليد الأفكار، بل تقوم بفرضها على الآخرين.
لقد دفعت أحداثٌ حدّية، سياسية ومجتمعية وفردية، أفلاطون في شبابه إلى تحوّلات قسرية، وخُتمت تلك الأحداث بإعدام معلّمه سقراط، فهجر الشعر والألعاب الأولمبية، ومدينته أثينا التي أوصلها الصراع مع إسبرطة وغيرها من المدن اليونانية إلى الحضيض، بحثًا عن أجوبة تنظّم فوضى الوجود، وتقف كطوف نجاة في بحر الحياة المؤقّتة والزائلة والفاسدة، فأبدع محاوراته الثمانية والعشرين، كي يحسم فيما إذا كانت الحياة المنظّمة العادلة تجعل الإنسان سعيدًا أو تعيسًا!
عالم المُثل
ظهرت إرهاصات عالم المُثل لدى أفلاطون من رفضه لمفهوم نهر هيراقليتس، واحتجاجه على المبدأ السفسطائي، بأنّ الإنسان هو مقياس الوجود، فكان لا بدّ له من إبداع عالم أعلى ودائم ومطلق ومفارق لهذا العالم الأرضي المؤقّت والفاسد والنسبي الذي يقع تحت مقعّر القمر. بدأ مستصغر الشّرر الرقابي من مبحث، ما هو العدل؟ فهل يكون تحقّق العدالة عبر تسديد الديون فقط؟ هذا المنطق كان قد فنّده أفلاطون، بأنّه ليس من المعقول إعادة السلاح الحربي إلى صاحبه بعد أن جنّ وفقد صوابه! وهنا انبرى له السفسطائي (بوليمارخوس) بأنّ العدل هو فائدة الأقوى! استطاع أفلاطون أن يبطل رأي السفسطائي، بأن أثبت أنّ العدل هو الخير تجاه الجميع، أصدقاء وأعداء، لكنّه لم يستطع أن يحسم إن كان العادلُ سعيدًا أم تعيسًا!
لقد كان سقراط سعيدًا، في انتظار موته، حتى أنّه مازح أصدقاءه، فهل كان إصرار أفلاطون على وضع جلّ محاوراته على لسان معلّمه سقراط، ليثبت سعادة الإنسان العادل والعارف كسقراط، حتى في مواجهة الموت؟ ليس الجواب من السهولة بمكان! كان أفلاطون يزدري النظام الديمقراطي، الذي وصفه بأنّه الطريق الأقصر إلى الفوضى المجتمعية، ولا يعود ذلك فقط، إلى أنّ معلّمه سقراط قد أُعدم بسبب هذا النظام، حيث رجحت كفّة المدّعين على سقراط، بأنّه قد أفسد شبيبة اليونان، وذلك بفارق خمسين صوتًا فقط عن الرافضين لإعدامه، إذ إنّ الأمر أبعد غورًا، فأفلاطون ذو منبت أرستقراطي، إذ يرجع نسبه من ناحية أمّه إلى المشرِّع العظيم صولون، ومن ناحية أبيه إلى إله البحر بوسايدون، وكلّ هذا جعله رافضًا لاجتياح الدهماء والغوغاء والعامة لمدينته، الأمر الذي كان يراه إخلالًا بميزان الكون وتراتبيته، والذي نتج عن الديمقراطية، التي أنتجت الفوضى في المجلس، حيث أدّى السماح لطبقة العوام من ولوجه بالتسبّب بإعدام سقراط الذهبي الخيّر، ولكي لا تتكرّر تلك الكارثة، كان لا بدّ من بناء المدينة الفاضلة بقوانينها الصارمة التربوية والرقابية المجحفة بحقّ الفنون والآداب.
أثافي الرقابة
لقد كان أول قرار اتّخذه أفلاطون هو طرد الشعراء من جمهوريته، وذلك لأنّ الشعراء محاكون للحقيقة (عالم المُثل) من الدرجة الثالثة، يتقدّم عليهم الصنّاع قربًا من الحقيقة. وهذا القرار يعدّ أشهر بنود المانيفستو الرقابي الأفلاطوني والأعجب من ذلك، إصراره على أن يكون دفاع الشعراء عن أنفسهم بشكل نثري لا شعري، لأنّ النظم يثير العواطف ويضعِف العقل. والأغرب من ذلك كلّه، أنّ أفلاطون كان شاعرًا في مجتمعه قبل أن يصبح تلميذًا لسقراط وتشهد له محاوراته بخبرته الكبيرة بفنّ الكلمة، فما الذي حدث؟ إنّ الإحالة إلى عالم المُثل، لا يكشف روح المنع الأفلاطوني تمامًا، فقبل أن نضع نظرية المُثل موضع الاتهام، لا بدّ أن نكتشف الضرورة القاهرة التي ألزمته ما لا يلزم.
يحدس أفلاطون بأنّ أيّة دولة تحتاج إلى قادة ذهبيين وحماة فضيّين، ولكي يكون هناك جنودٌ لا يهابون الصّعاب ولا الموت، وقادة همّهم الوحيد خدمة دولتهم والنأي عن منافعهم الخاصة، ستضطر هذه الدولة إلى اشتراع قوانين استثنائية. ومن هنا كان الشاعرهوميروس بإلياذته وأوديسته أول من وقع عليه مقصّ الرقيب الأفلاطوني. يعدّ هوميروس مؤسّس وجدان الشعب الإغريقي، وما قاله من عبر وأفكار وحكم، تُؤخذ كأنّها إلهام من آلهة جبل الأوليمب. لقد عرض هوميروس الكثير من الاستعارات الأدبية للشجاعة والجبن والإقدام والتخاذل في أشعاره، وصوّر الجنود والقادة بحالاتهم الإنسانية كافة بقوتهم وضعفهم، وهذا الأمر لم يكن يخدم رؤية أفلاطون بتنشئة جيل مقدام من القادة والجنود لا يهاب الموت، لذلك شطب أسماء الحياة الآخرة المخيفة والمرعبة من مثل: "الأشباح تحت الأرض - الظلال الواهنة" التي توهِن نفسية الجنود، كذلك حاول محو بعض الأجزاء من قصائد هوميروس التي تصف أفعال القادة المشينة وأقوالهم، كحال البطل (أخيل) عندما أهان الإله (أبولو)، عندما غزا اليونانيون طروادة. وقد طبّق مقصّ الرقابة على الأوصاف التي تناولت أخيل بعد موته، حتى يبقى مثالًا لا يناله النقص: "وسنستعطف هوميروس وبقية الشعراء، أن لا يصوّروا أخيل الذي هو ابن الآلهة، مبحرًا في سُعرٍ على طول الشاطئ المجدب، آخذًا بكلتا يديه الرماد السخامي وذاريه فوق رأسه باكيًا ومنتحبًا".
أراد أفلاطون أن يخفّف من وطأة الموت على الجنود والقادة في الحرب، لذلك تخيّل حياة آخرة ينعم فيها الأبرار بالعيشة الطيّبة، فها هو يقول بغضب: "لنطمس المقاطع الذميمة مبتدئين بالآتية: أفضّل أن أكون عبدًا على أرضٍ لفقير ورجلًا لا ملكية له على أن أحكم كل الموتى الذين ذهبوا للعدم"؛ لقد كان هذا القول لسان حال أخيل بعد موته! قد يعترضنا رأي أفلاطون المحابي للشعر في محاورة (فيدروس) حيث مدحه ولم يذمّه، ولكن هذا المديح كان للشعر الملهم من قبل الآلهة، حيث لا دور للشاعر فيه وهو أقرب للصيغ الدينية. إنّ الرقابة الأفلاطونية على الشعر جاءت من أنّه يقوّض مفهوم عالم المُثل، ولا يعترف بأنّ الوجود الأرضي للبشر ما هو إلّا محاكاة سيئة لعالم المُثل. بالإضافة إلى أنّ الشاعر لا يحترم الطبقات، فكثيرًا ما مدح الشعراء الحكّام المستبدّين أو ذهبوا إلى تدبيج القصائد سعيًا وراء مصالحهم الخاصة. إنّ حتمية تنظيم المجتمع لدى أفلاطون دفعته إلى ضرورة الرقابة الفنّية على الشعر، لأنّه أكثر تأثيرًا على العواطف التي تناهض العقل.
لم تقتصر رقابة أفلاطون على الشعر والخطابة، بل امتدت إلى الرياضة والموسيقى حيث وضع أسلوبًا رياضيًّا وآخر موسيقيًّا لكي يحافظ على اعتدال جسد وروح الجندي. فلقد رفض موسيقى الغرائز والحرية وموسيقى الإثارة والعواطف، حتّى أنّه كان يرفض أي تطوير يطاول الآلات الموسيقية، ومؤكّدًا على منع أية إبداعات حديثة للموسيقى. فالمولع بالموسيقى سيتخنّث، والمولع بالرياضة سيتحوّل إلى كتلة من العضلات لا عقل لها. لكنّه بالمقابل قبِل فقط بالموسيقى التي تخدم تطلّعاته لبناء مدينته الفاضلة، وهي أقرب للمارشالات العسكرية. وسّع أفلاطون من المدى الرقابي لمشروعه، ليشمل تنظيم النسل وتحديد العمر المناسب للإنجاب، وشرّع مشاعية جنسية يعيشها القادة، لينزع من نفوسهم جوهر الملكية الخاصة، حتّى أنّه نظّم زواجهم وإنجابهم خارج إرادتهم، واعتبر أنّ الأطفال الذين ينجبهم القادة في زمن واحد أخوة، والقادة آباء لهم. ولم يكتف بذلك، بل اعتبر أنّ تعداد المدينة الفاضلة لا بدّ أن يكون 5000 شخص وذلك بعد حساب الموت في الحروب والأوبئة وما شابه ذلك كإبعاد أهل الزمانة. هكذا نرى من مجمل الأمثلة السابقة التي عرضنا فيها بنود المانيفستو الرقابي لأفلاطون، بأنّه قد لزم ما لا يلزم، ولكي نتبيّن ذلك علينا التوقّف عند بعض فرضياته.
الكذب لأجل الصالح العام
نتبيّن من أقصوصة أفلاطون عن خلق البشر والتي فحواها أنّ الإله قد خلق بشرًا ذهبيين، وبشرًا فضيين، وبشرًا نحاسيين، ثم بثّهم في الدنيا، وعليه يجب أن يكون تنظيم المدينة الفاضلة مراعيًا للمقصد الإلهي في إعادة ترتيب الطبقات الاجتماعية. أعدّ أفلاطون هذه القصة لتكون كذبة من أجل الصالح العام، أمّا النتائج المرجوّة منها، فهي إقناع سكان مدينته الفاضلة بالتراتب الطبقي. تكمن فكرة أفلاطون بأنّ لكلّ فرد في مدينته مقدرات يجب أن يتم التعامل معه على أساسها، لذلك كانت عنايته بالتربية منذ الطفولة هاجسه الكبير، لكي يتم تدارك الأخطاء التي أودت بمدينته إلى الحضيض. من هذه القصّة يتوضّح لنا دور النوازع النفسية العميقة التي أثّرت في أفلاطون جرّاء ما حدث معه في شبابه، وهو من منبت أرستقراطي، حتى أنّه اختار الكذب كوسيلة تبرّرها غايته في إنشاء مجتمع منظّم يخدم أرومته، قبل ميكافيلّي بزمن طويل. وعلى نفس المنوال يجب أن نفهم التصوّرات التالية: لقد ألغى أفلاطون جوهر الأمومة والأبوة في طبقة القادة! فالآباء والأمهات لا يعرفون أبناءهم، فهذه الطبقة لا يسمح لها إلّا بالانشغال في الصالح العام للمدينة الفاضلة، وبالتالي لن يقوم أحد القادة بتوريث ابنه ما دام لا يعرف من هو، وسيختار بدلًا من ذلك الفيلسوف القائد أي أفلاطون وأشباهه من الفلاسفة! ومن ذات المنحى، رفع أفلاطون الأنثى من قاع المجتمع الإغريقي، بأن سمح لها بأن تكون ندًّا للرجل، لكنه حرمها من ممارسة أمومتها، ما دام هدف الزواج إنجاب الذرية القوية، وقد استقدم هذا المنطق من إسبرطة، فعملية تحسين النسل الإسبرطية كانت تمنح الرجال الأقوياء الحق بالاضطجاع مع أية امرأة قوية حتى لو كانت متزوجة، من أجل خلق ذرية قوية، كما ذهب المؤرخ اليوناني بلوتارخ. ولذلك شرعن أفلاطون إخفاء الأطفال المشوّهين في مكان بعيد لا يصله أحدٌ، فأعضاء المدينة الفاضلة أصحّاء الجسد مثل أرواحهم وعقولهم.
لا ريب في أنّ ما ذهب إليه أفلاطون في تصوّره لمدينته الفاضلة، كان تعبيرًا عن خيبته من المجتمع الأثيني، وما آلت إليه الأوضاع السياسية والثقافية بعد احتلال أثينا من قبل إسبرطة، لكنّه أعاد خلق إسبرطة جديدة أفلاطونية على الرغم من كلّ ما قيل عن همجية إسبرطة المنظمة.
لم تتمايز فلسفة أفلاطون كثيرًا، بعد تقدّمه في العمر، عمّا قاله في شبابه، لكن عند النظر إلى كتاب "القوانين"، وهو كتاب من نتاجات أفلاطون المتأخّرة، نجد تفصيلات مذهلة عن كيفية الانتخاب واختيار المرشحين، وفيه تخلّى أفلاطون عن مبدأ إعداد القادة الذي أقرّه في مدينته الفاضلة، وقد يكون ذلك نتيجة ما حدث له مع حاكم سرقوسطة الذي وجد فيه أفلاطون إمكانية لتحقيق حلم مدينته الفاضلة، إلّا أنّ الديكتاتور الشاب خيّب أمل أفلاطون وسجنه جرّاء أفكاره وكاد أن يقتله، لو لم يقم أصدقاؤه بتأمين هروبه من السجن، على العكس من معلّمه سقراط الذي رفض فكرة الهروب وشرب الشوكران، فداءً لأفكاره!
لا نستطيع القول، بأنّ أفلاطون قد غيّر بشكلٍ جذري من بنود المانيفستو الرقابي الذي كان شرحه في كتبه بعد أن وضع كتابه "القوانين"، فالعوامل النفسية التي لعبت دورًا كبيرًا فيما ذهب إليه أفلاطون من تصوّرات لبناء مدينته الفاضلة، لم تتبدّل بالمعنى الذي يدفعه للخروج عمّا قاله سابقًا. لكن يجب أن ننظر إلى محاورات أفلاطون وقوانينه التي صبغت العالم الفلسفي بألوانها، بأنّها كانت مغامرة رائعة وخطيرة من أجل حياة عادلة وسعيدة، ويجب التعامل مع المانيفستو الرقابي الأفلاطوني وفق مفهوم الفارماكوس الإغريقي، فهو سمٌّ إن أسيء استعماله، وترياق إن أحسن العمل به.