إنها ليست مجرد تجسيد للضياع، بل تحمل في ثناياها الأسئلة الأزلية: إلى أين تسير البشرية؟ وماذا يتبقى من الإنسان حين تتهشم الجدران وتُدفن الأحلام؟ تجسّد صورة أوديب هنا صراعًا داخليًا آخر، صراعًا بين الرغبة في الانتقام والسعي إلى السلام، وبين إرادة الحياة والقدر الذي يسحبه نحو العتمة.
في مشهد الحرب، يقف أوديب ممسكًا بخرقة كانت يومًا راية، متسائلًا إن كان هناك طريق آخر غير هذا الألم، إن كانت هناك فرصة لرؤية الشمس من جديد.
"الأعمى الذي لا يريد أن يُبصر"...
على المقلب الآخر، تظهر لنا صورة "أوديب السياسي" سيما أن ما يقف وراء استمرارية استخدام أسطورة أوديب في الأدب السياسي ما يعود مرونتها وإمكانية تطويعها في سياقات مختلفة. فالأسطورة تجسد جوهر الصراع الإنساني بين الإرادة والقدر، وبين الرغبة في السيطرة والحقيقة المُرَّة. يرى الأدباء أن هذا الصراع ينطبق على حال العديد من الأنظمة السياسية، خاصة في العالم العربي، حيث تتكرر ظاهرة الحكام الذين يعيشون في "عمى" يمنعهم من رؤية الحقائق الماثلة أمامهم.
إن أسطورة أوديب تُقدَّم في هذه السياقات كأداة لفهم علاقة الحاكم بالشعب، ومدى تأثير السلطة على الإنسان، حيث تتماهى حياة أوديب، الحاكم الذي حكمه قدره وجعل منه أداة للكارثة، مع مصير الحكام الذين قادهم غرورهم إلى نهايات مأساوية.
"أوديب فلسفيًا"
يرتبط مفهوم "أوديب السياسي"، فلسفيًا بتحليل السلطة والعلاقات الاجتماعية والسياسية، ويدمج بين التحليل النفسي والفلسفة السياسية.
تجسد نظريات "أوديب السياسي" كيف يتحول الصراع النفسي الداخلي إلى صراع مع السلطة الاجتماعية والسياسية. يجسد هذا المفهوم محاولات الأفراد التمرد على نظم القمع أو التعايش معها، مما يعكس التوتر الأبدي بين الفرد والمجتمع.
يظهر ذلك بجلاء من خلال "بحث أوديب" لـ"إزاحة الأب" بالمنطق الفرويدي الذي طوره لاحقًا جاك لاكان بتطويره عبر مفهوم "اسم الأب" الذي يشير إلى القانون أو السلطة التي تنظم رغبات الأفراد وتحدد سلوكهم الاجتماعي. يمكن رؤية ذلك في سياق السلطة السياسية التي تفرض قواعدها، مما يدفع الأفراد إلى المقاومة أو التمرد. فيقول في كتابه "محاضرات التحليل النفسي" أن "اسم الأب هو القوة التي تُشكِّل الهوية الاجتماعية وتضبط الرغبات الفردية".
تتطور هذه النظرة من خلال نقاش الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني سلافوي جيجيك كيف أن "عقدة أوديب" هي صراع ليس فقط مع السلطة الأبوية، بل مع النظام الاجتماعي والسياسي القمعي. ويقول في كتابه "موضوع الأيديولوجيا الرفيع" أن "عقدة أوديب الآن هي عقدة سياسية، فهي تمثل النضال ضد رموز السلطة الحديثة".
يناقش الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك كيف أن "عقدة أوديب" هي صراع ليس فقط مع السلطة الأبوية، بل مع النظام الاجتماعي والسياسي القمعي |
"إغراء أوديب"
في الأدب الغربي، استمر الأدباء في توظيف أسطورة أوديب كرمز للقوة والسلطة، مع التركيز على التحولات النفسية والمعنوية التي تطرأ على الشخصيات الحاكمة. ومن أهم النماذج التي قدمت معالجة لأسطورة أوديب مسرحية سوفوكليس "أوديب في كولونوس" كجزء ثانٍ لمأساة أوديب، حيث يعود الملك أوديب إلى كولونوس بعدما فقد بصره وذاق مرارة النفي. في هذه المسرحية، تم تناول فكرة الخلاص والبحث عن السلام الداخلي بعد أن عاش أوديب كل مآسيه.
تُظهِر المسرحية كيف يمكن للسلطة أن تؤدي إلى الهلاك إذا لم تُدَر بحكمة. رغم أن هذه المسرحية ليست معالجة حديثة بالمعنى الحرفي، إلا أن تأثيرها استمر إلى العصر الحديث، حيث ألهمت العديد من الأدباء.
وكتب الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس روايته الشهيرة "الإغراء الأخير للمسيح" التي استخدم فيها رمزية أوديب ليعبّر عن صراع الذات مع القيود الدينية والاجتماعية، وهو ما يمكن اعتباره معالجة سياسية بحدّ ذاتها.
يظهر صراع داخلي مشابه لصراع أوديب لشخصية يسوع في الرواية، في محاولة الفكاك من قيود القدر الذي يحدده المجتمع والسلطة. يتجلى هذا الصراع، في النهاية، كصراع سياسي يمس مصير المجتمع.
على صعيد الموسيقى، كتب الملحن الروسي إيغور سترافنسكي أوبرا "أوديب ركس"، وهي معالجة موسيقية مأساوية لأسطورة أوديب. في هذا العمل، جرى التركيز على الدوافع النفسية التي قادت أوديب نحو القدر المأساوي، مما يسلط الضوء على فكرة العمى السياسي والروحي الذي يمكن أن يصيب القادة والحكام. استخدم سترافنسكي الموسيقى لتجسيد هذا العمى، مما يعكس الانتقادات السياسية غير المباشرة ضد القوى المتسلطة.
"معالجات عربية لأوديب"
لم تكن المعالجات الأدبية العربية أقل ابتكارًا في تناول أسطورة أوديب وتطويعها في سياقات سياسية، حيث استلهم الكتاب العرب هذه الأسطورة لتقديم رؤى نقدية لأنظمة الحكم والسلطة.
تُعد مسرحية "الملك أوديب" للكاتب المصري توفيق الحكيم من أبرز الأعمال التي تناولت أسطورة أوديب في الأدب العربي. أعاد الحكيم صياغة قصة أوديب، مسلطًا الضوء على صراع الإنسان مع قدره، وكيف يمكن للجهل والغرور أن يقودا الحكام إلى الهلاك. تعكس المسرحية نظرة الحكيم المتعمقة للحكم والسياسة، حيث رأى فيها أوديب رمزًا للحاكم الذي يقوده جهله إلى كارثة محققة.
استخدم الحكيم في مسرحيته أسلوب الحوار الفلسفي لإبراز العلاقة المعقدة بين السلطة والمعرفة، مشيرًا إلى أن العمى السياسي قد يكون في الغالب عمى إرادي. يقول الحكيم في مسرحيته: "إن الجهل الذي يحيط بأوديب ليس جهلًا قسريًا، بل هو جهل نابع من الرغبة في السيطرة وعدم التنازل".
وتعتبر رواية "أوديب في الطائرة" للكاتب المصري محمد سلماوي واحدة من أبرز المعالجات الأدبية العربية المعاصرة التي استلهمت أسطورة أوديب. في هذه الرواية، يربط سلماوي بين الأسطورة وواقع الثورة المصرية عام 2011، حيث يصور آخر يوم في حياة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في السلطة من خلال شخصية أوديب.
تبرز الرواية كيف أن أوديب، الحاكم، لم يستطع رؤية الحقيقة حوله إلا بعد أن ضاع كل شيء. تُستخدم الأسطورة كأداة لنقد السلطة المطلقة، موضحة أن القادة أحيانًا يعيشون في "عمى" مقصود يمنعهم من رؤية الواقع. ويستشرف سلماوي "مصير مبارك الأوديبي" بالقول: "يُبصر أوديب الحقيقة بعد فوات الأوان، وكأنه كان لا يرى ما حوله من علامات واضحة لزوال عرشه".
وفي المسرحية السورية "الظل والصدى" لسعد الله ونوس، تبرز أسطورة أوديب كمرجعية سياسية للنظام الحاكم الذي يتجاهل آراء الشعب ويسعى للسيطرة عليه. ونوس، الذي عُرف بمعالجته العميقة للقضايا السياسية، استخدم أوديب كرمز للحاكم الذي يرفض مواجهة الحقيقة ويفضل الاستمرار في خداع نفسه وشعبه. وعكست المسرحية كيف يمكن للأسطورة أن تكون أداة لفهم الواقع السياسي العربي، مما يوضح التناقضات الداخلية في الأنظمة الحاكمة.
من خلال المعالجات الأدبية الغربية والعربية، تظهر أسطورة أوديب كرمز خالد للسلطة والعمى الذي يصيب القادة. يظهر أن الأسطورة تظل متجددة ومرنة، مما يتيح للأدباء استخدامها لتسليط الضوء على جوانب سياسية واجتماعية مختلفة. وتظل أسطورة أوديب شاهدة على قدرة الأدب على تقديم نقد حاد للواقع السياسي، وعلى الدور الذي يلعبه الأدب في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي عبر العصور.