جيل الكفاح الوطني ضدّ النظام الملكي والانتداب البريطاني في نهاية أربعينيّات القرن العشرين، الذي شهد نموّ حركة شعبيّة، انبثقت من قلبها أداة طليعيّة، عُرفت باسم لجان الطلبة والعمّال، تمكّنت من تحقيق بعض الإنجازات، كسحب القوّات البريطانيّة من المدن المصريّة، واقتصارها على منطقة قناة السويس. وحين جذّرت مطالبها، وُوجهت بشراسة الحكم الرجعي المتحالف مع الانتداب، حيث فُرضت الأحكام العرفيّة، والاعتقالات الواسعة، ومواجهة التظاهرات بالرصاص.
في هذا الشرط التاريخي، كان طالبا كلّيّة الطب الراوي وشوقي في قلب المناقشات التي تتنقّل بين أروقة الجامعة ومدرّجاتها، وفي تظاهراتها... وكان لشوقي موقعه الريادي في قيادتها وإلقاء الخطابات التحريضيّة، التي ستنتهي به وبالعديد من زملائه إلى السجن، بينما اختفى الباقون، هرب بعضهم إلى الأرياف البعيدة، وفرّ آخرون إلى حُفَر عميقة داخل ذواتهم المفردة، ليدفنوا فيها معتقداتهم وثورتهم. خاتمة لمرحلة تاريخيّة، أعقبها انقلاب تنظيم الضبّاط الأحرار في 23 تمّوز/ يوليو عام 1952، وإعلان الجمهوريّة، الذي أسدل الستار على مرحلة تاريخيّة، وأسّس لمرحلة جديدة من الاستبداد السياسي.
اعتُقل شوقي لفترة محدودة، كانت كفيلة لتغيير قناعاته. أكمل خلالها دراسته، إذ كان يُقاد مع سجناء آخرين مقيّدين بالسلاسل ومحاطين بالعساكر المسلّحين لقاعة الامتحان.
انضمّ، بعد الإفراج عنه، إلى زميله الراوي للعمل في المكتب الطبّي لمحافظة القاهرة.
كانت أوّل الصدمات التي تلقّاها زميله، الذي احتفظ له بصورة الطالب الجامعي الثائر الصدامي، تبدّل صوته الجهوري الذي كان يهدر بالتظاهرات والمؤتمرات الطلابيّة، إلى الهمس الخجول. وميله للخضوع إلى من هم أعلى مرتبة منه، ومساومة المرضى على أجور يأخذها منهم مقابل وعد أن يوصي بهم في العلاج، فضلًا عن سرقات من غرف زملائه الأطبّاء، تهاوت معها صورة شوقي في عيون مائة طبيب عامل في المركز الطبّي، من زعيم طلابي، إلى الموقع الأشدّ وضاعة وانحطاطًا.
وعلى الطرف الآخر وفي موقع السلطة الملكيّة كان مسار العسكري عبّاس الزنفلي، الشاب الآتي من صعيد مصر، الذي حقّق الترقيات في مسيرته المهنيّة كعسكري وجلّاد ومرافق للباشا الوزير، وحصل على نوط تقدير بمرتبة شرف من وزير الداخليّة "تقديرًا للجهد المشكور الذي بذله في أداء الواجب والتفاني في خدمة مصالح الدولة العليا". عمل بعدها لبضع سنوات في ظلّ الحكم الجمهوري، لحين تسريحه من الخدمة بعد وسمه بالعجز الكامل.
سُلّط الضوء على شخصيّة عبّاس الزنفلي، بتقرير مهني لتسويغ تسريحه. كانت المهمّة الموكلة إليه ضرب السجناء، ضرب بعضهم لانتزاع اعترافاتهم وبعضهم الآخر لمجرّد الضرب وتحطيم أجسادهم، ضربهم بالكرباج والعصي والحذاء والنبّوت وبيده العارية... ضرب مذلّ، آتٍ من خسّة الحائز على القوّة والسلطة.
الحالة التي منحته شعورًا بالانتصار على سجناء وقد تحوّلوا إلى أكوام عارية، انتُزعت منهم القدرة على حماية أنفسهم والدفاع عنها والانتقام لها، حيث لم يترك لهم إلا الصبر والاحتمال، مجرّدين ممّا امتلكه أيّ حيوان للدفاع عن نفسه لحظة مهاجمته، بالرفس أو العضّ أو الخرمشة.
-2-
بعد وصول ملفّ عبّاس محمود الزنفلي إلى الهيئة الطبّيّة وإطلاع شوقي عليه، أصرّ على الذهاب إلى بيته، رغم تأكيد الممرّض عبد الله التومرجي عدم أهمّيّة الزيارة، بعدما باتت سيرته بين دفّتي مصنّف في الأرشيف. "ده خلاص يا بيه... الراجل بقى يهبهب زي الكلاب، ويعوي زي الديابة".
أراد شوقي اللقاء به أو مواجهته في انكساره. انطلق الطبيبان الراوي وشوقي مع عبد الله التومرجي بسيّارة الخدمة إلى بيته. ووصلوا إلى حارة لا تسمح شوارعها الضيّقة بعبور السيّارة، فتابعوا طريقهم سيرًا، بإرشاد عبد الله الذي يعرف موقع البيت.
وصلوا إليه بعد عبور عدد لا يُحصى من الأزقّة والحواري، بعضها صعدوا إليها بسلالم وأخرى اجتازوها بين أكوام من أنقاض البيوت المهدومة "بيت لا يشبه بيوت المدينة الفقيرة، وكذلك لم يكن كوخًا أو دارًا من دور القرى المبنيّة بالطين". كأنّما بذلك نصل إلى الموقع الهامشي الذي عاش فيه عبّاس، من الهامش الريفي في الصعيد إلى الهامش المديني في الأطراف المهملة لمدينة القاهرة.
صورته أكملتها زوجته نور، التي فتحت لهم باب البيت واستمهلتهم قبل الدخول إلى غرفته. سمعوا كلماتها المتسلّلة بين إجهاشات البكاء وسيل الدموع... كأنّما أرادت بها التخفيف على الحكم الذي تتوقّعه منهم على زوجها. قصّت عليهم قصّة الفلّاح الشاب، قويّ البنية الجسمانيّة، وحبّها له وانتظار عودته من الخدمة العسكريّة "الجهاديّة"، ليوم أتى إلى القرية وحملها للسكن في القاهرة، في البيت ذاته، الذي لم يغيّره الزمن ولا تعاقب السلطات وتراكم الثناءات السلطويّة. حدّثتهم عن انكسار عبّاس، لا ذاك الانكسار الآتي من ضربة صاعقة قصمت ظهره، إنّما بتعاقب الانكسارات، وتراكمها، من عجزه عن إنجاب ذرّيّة، وإدمانه الأفيون، تراجع موقعه في آلة القمع، انفضاض الجيران عنه.
مهّد هذا لدخول الغرفة واللقاء بين شوقي وعبّاس، اللقاء الذي ابتدأه شوقي بتحريض لذاكرة عبّاس، بسرده لوقائع تعذيبه الوحشي للسجناء، لكنّ عبّاس بقي صامتًا مشدوهًا، لا ينطق بكلمة، للحظة خلع شوقي قميصه، وكشف ظهره أمام الجميع، ليظهر كأنّ مخالب حيوان بري قد مزّقته... ووثيقة حيّة على إدانة الجلّاد.
بعد أن فقدت اللغة قدرتها على التواصل بين الجلّاد والسجين، انطلق بعدها شوقي بالنباح وردّ عبّاس بنباح مماثل... انتهى بدمويّة حين أطبق عبّاس فكّه على كفّ زوجته، ومن ثمّ نهشه لذراعه، ونزيف دمه وتهتّك لحمه. ووصول أصوات نباحهما إلى الجيران، الذين توافدوا على البيت، ودخلوا الغرفة ليكونوا شهودًا على هذه النهاية الفجائعيّة.
أطبقت الرواية على عالم مهمل، من أنقاض بشريّة، حاصرها اليأس والخيبة، دفع بها إلى أقصى الخيارات الكارثيّة التي تواجه الفرد والجماعة للتدمير الذاتي بالصيغة الأكثر همجيّة وكارثيّة: تأكل نفسها.
أضمرت دعوة لتفحّص النظام السياسي الجمهوري، التي كُتبت الرواية بعد مرور عشر سنوات على وصوله إلى السلطة، الأمر الذي داور عليه الروائي الراحل يوسف إدريس، بإحالة روايته إلى زمن الحكم الملكي.
لكنّها ترسّخت كرواية وشهادة عن حتميّة التحوّلات، التي تستبطن انهيار النقيضين الجلّاد والسجين في آن، بعد أن انتُزع كلاهما من شرطه التاريخي- السياسي الذي تجنّب الروائي مقاربته، وتركهما لعقاب شرطهما الإنساني المهين. في حين استمرّ النظام القمعي وسجونه وقوانينه العرفيّة، ينتج مئات العساكر السود ويدمّر حيوات آلاف المعتقلين.