}

وداعًا ثناء دبسي: من رائدات الدراما السوريّة

سمر شمة 29 فبراير 2024

 

هي الأم الحنون للدراما السورية، ورائدة من رائداتها الأوائل، الحضور الراقي الذكي، سيدة المسرح السوري، الدافئة دائمًا وأبدًا، الأستاذة الطيبة المتواضعة، السيدة الكبيرة، القلب الأبيض الناصع، وحاملة القيم النبيلة في الحياة والفن على حد سواء.

إنها الفنانة السورية القديرة ثناء دبسي التي شيعتها دمشق بحزن ووجع كبيرين قبل أيام، بحضور كبير لصناع الدراما والسينما والمسرح، وحضور خاص لمحبيها من الناس الذين تحدثت عنهم مرارًا في أعمالها، ولامست أوجاعهم ومشاعرهم وتركت لهم فنًا راقيًا ومبدعًا، وقدوة عظيمة في المجالات كافة يعرفونها جيدًا ويحترمونها.

ولدت الراحلة ثناء دبسي في مدينة حلب الشهباء عام 1941 ورحلت عن عالمنا في العشرين من شباط عن عمر يناهز 83 عامًا بعد وعكة صحية ألمّت بها.

تتلمذت في مرحلتها الدراسية الإعدادية على يد الموسيقي الراحل بهجت حسان ضمن فرقة نادي المسرح الشعبي الذي أقام آنذاك العديد من الأنشطة الفنية، كما تتلمذت على يد الأستاذين محمد خيري وأحمد صابوني. 

بدأت مع أختها الفنانة ثراء دبسي بتقديم العروض المسرحية على خشبة مسرح دار الكتب بحلب، وشاركت في الحفلات المدرسية الفنية، وتعلمت رقص السماح وغناء الموشحات والقدود الحلبية والتمثيل، كما تدربت على يد أستاذها في اللغة العربية على فن النطق والصمت، وشحن الصوت بالعاطفة وإلباسه سمات الشخصية التي تؤديها، ودرست بعد ذلك في فترة متقدمة من حياتها الفنون المسرحية في مسرح جيرار فيليب في فرنسا.

بدأت التمثيل في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وكانت بدايتها من خلال المسرح بعد أن شاركت بتأسيس المسرح القومي السوري مع كل من الفنانين نهاد قلعي – عبد اللطيف فتحي – محمود جبر والكاتب رفيق الصبان مطلع الستينيات.

قدمت نحو أكثر من 16 عرضًا مسرحيًا للمسرحين القومي والعسكري عن نصوص لكتاب عرب وأجانب لكنها توقفت عام 1978 عن العمل المسرحي لتعود عام 2000 إلى الخشبة للمرة الأخيرة بمسرحية "تخاريف" تأليف كوليت بهنا إخراج ماهر صليبي مع الفنان الراحل عبد الرحمن أبو القاسم.

في عام 1961 قدمت مسرحية "شيترا" للشاعر الهندي رابندرانات طاغور مع المخرج رمزي شقير والفنان عبد الرحمن آل رشي.

ولعبت دور البطولة في مسرحيات هامة منها "مروحة الليدي وندرمير" للمؤلف المسرحي والروائي الإنكليزي الإيرلندي أوسكار وايلد، إخراج هاني إبراهيم منصور، و"الأخوة كارامازوف" للكاتب الروسي فيودور دستويفسكي، إخراج أسعد فضة، ومسرحية "عرس الدم" للكاتب الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا إخراج أسعد فضة أيضًا، ومسرحيات "زيارة السيدة العجوز" للروائي الألماني فريدريش دورينمات و" الأشجار تموت واقفة" للشاعر والكاتب المسرحي الإسباني أليخاندرو كاسونا و"الملك لير" للمسرحي والشاعر الإنكليزي وليم شكسبير وهذه المسرحيات إخراج  علي عقلة عرسان، إضافة إلى مشاركتها في مسرحية "الأشباح" للكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن، ومسرحية "رجل القدر" عن نص للمؤلف الأيرلندي الشهير جورج برنارد شو، إخراج هاني ابراهيم منصور، ومسرحية "البخيل" للشاعر والمسرحي الفرنسي موليير إخراج حسين إدلبي.

وكانت الفنانة الراحلة من المؤسِسات للدراما السورية، وقد عملت في البداية في مجال ما أُطلق عليه يومها "المسرح التلفزيوني" مع المخرج سليم قطايا، وهو مسرح يتم تصويره في استديو كما لو أنه يقدَّم أمام الجمهور، وذلك لصعوبة إعادة التصوير في ذلك الوقت. ومن التجارب التي لعبت بطولتها في هذا المجال الذي دمج التلفزيوني بالمسرحي: "المستوصف" و"عشاء الوداع" و"رجل الشمع" و"راكبو البحار".

قدمت على صعيد الدراما السورية التلفزيونية عشرات الشخصيات العميقة والهامة والتي رسخت في ذاكرة المشاهد ووجدانه، وكان أول عمل درامي لها في التلفزيون عام 1963 مسلسل “ساعي البريد" إخراج سليم قطايا.

وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي عملت مع المخرج الراحل علاء الدين كوكش في مسلسلات عديدة مثل المسلسل التاريخي "الأميرة الخضراء" تأليف عبد العزيز هلال. والمسلسل الدرامي التشويقي "حارة القصر" تأليف عادل أبو شنب، وعملت أيضًا مع المخرج غسان جبري في مسلسل "الفندق".

في مطلع التسعينيات من القرن الماضي ومع فورة الإنتاج الخاص الدرامي وفورة الفضائيات العربية حضرت الفنانة القديرة بقوة في مسلسلات عديدة منها: مسلسل "الثريا" مع المخرج هيثم حقي والكاتب نهاد سيريس بدور الحاجة أمون، ولعبت دور الأم في المسلسل المعروف "سيرة آل الجلالي" للروائي الراحل خالد خليفة والمخرج هيثم حقي. وجسدت في مسلسل "ذكريات الزمن القادم" شخصية المرأة الفلسطينية الطيبة والتي تحن للعودة إلى وطنها وتحن لزوجها الشهيد وهي المصابة بفقدان الذاكرة والنسيان، والعمل تأليف ريم حنا إخراج هيثم حقي أيضًا.

وشاركت في المسلسل الإجتماعي "عصيّ الدمع" تأليف دلع الرحبي إخراج حاتم علي، وفي مسلسل "الذئاب" تأليف عبد الكريم ناصيف، إخراج علاء الدين كوكش، و"أبو كامل" تأليف د. فؤاد شربجي إخراج علاء الدين كوكش أيضًا، و"باب الحديد" إخراج رضوان شاهين تأليف الروائي فيصل خرتش. هذا إضافة إلى مشاركتها في مسلسل "زمن العار"، تأليف حسن سامي يوسف ونجيب نصير إخراج رشا شربتجي، والذي جسدت فيه أيضًا أهم وأعمق وأنضج أدوارها وسحرت المشاهد بقدراتها على التعبير دون صراخ ودون كلام وضجة وهي الأم العاجزة المريضة الصامتة والتي تتعرض للموت على يد زوجها. إضافة إلى المسلسل الاجتماعي "بنات العيلة"  تأليف رانيا بيطار إخراج رشا شربتجي أيضًا. وفي مسلسل "أولاد القيمرية" تأليف عنود خالد إخراج سيف الدين سبيعي، و"وراء الشمس" تأليف محمد العاص إخراج سمير حسين، و"رحلة المشتاق" تأليف داوود شيخاني إخراج سليم صبري. ومسلسل "رسائل الحب والحرب" تأليف ريم حنا إخراج باسل الخطيب. 

آخر عمل فني لها مسلسل "ترجمان الأشواق" وفيه كانت الأم (جميلة) المدرسة المتقاعدة والتي تنتظر عودة ابنها الغائب، وقد برعت في هذا الدور وكانت أمًا حقيقية ومقنعة في انتظارها لعودة الغياب


وحلت الفنانة القديرة كضيفة شرف على مسلسل "الفصول الأربعة" من إخراج حاتم علي وسيناريو وحوار ريم حنا ودلع الرحبي، وقدمت فيه أجمل أدوارها "الآنسة كفاية" المعلمة المثقفة والجادة والعادلة والتي تركت أثرًا طيبًا في نفوس طالباتها رافقهم طوال حياتهم.

وفي عام 2006 قدمت القديرة دور أم غدير في المسلسل الشهير "غزلان في غابة الذئاب" للكاتب فؤاد حميرة والمخرجة رشا شربتجي، وفيه جسدت شخصية المرأة الفقيرة الصابرة والأرملة التي تحاول حماية أبنائها من الظلم والفساد وتحثهم دائمًا على الأخلاق والقيم النبيلة.

وفي عام 2015 شاركت في مسلسل "العراب– نادي الشرق" بجزأيه الأول والثاني وهو مقتبس عن رواية ماريو بوزو الشهيرة من إخراج حاتم علي وتأليف وسيناريو الجزء الأول رافي وهبة، أما الجزء الثاني فهو من تأليف الروائي السوري الراحل خالد خليفة.

أما آخر عمل فني لها فهو مسلسل "ترجمان الأشواق" وفيه كانت الأم (جميلة) المدرسة المتقاعدة والتي تسكن في بيت مهيب وقديم وتنتظر عودة ابنها الغائب، وقد برعت في هذا الدور وكانت أمًا حقيقية ومقنعة في انتظارها لعودة الغياب، والعمل تأليف وإخراج محمد عبد العزيز.

كذلك شاركت في أعمال درامية عربية وذلك مع التلفزيون المصري في مسلسل "المتنبي"، وقدمت أعمالًا في الأردن وُصفت بالمهمة والمختلفة مثل "الميراث" و"القفص" للمخرجين عروة زريقات وصلاح أبو هنود، وشاركت مع المخرج اللبناني أنطوان ريمي في مسلسلي "شجرة الدر" و"صبح والمنصور". 

وفي إذاعة دمشق عملت الفنانة القديرة مع مؤسس الدراما الإذاعية في سورية مروان عبد الحميد وسجلت عشرات الساعات الإذاعية وكانت متميزة بصوتها الذي لا يشبه أي صوت آخر وبنطقها السليم خلف الميكروفون وبقدرتها على التعبير عن الشخصية كما يتخيلها المستمع بالصوت فقط.

وكانت حاضرة بتفوق في المشهد السينمائي وذلك بفيلم "المخدوعون" 1973 الذي يُعد من أهم مائة فيلم عربي في تاريخ السينما العربية للمخرج المصري توفيق صالح، عن رواية للأديب الفلسطيني غسان كنفاني "رجال في الشمس"، وهو يتناول تبعات نكبة 1948 والمآسي التي تعرض لها الفلسطينيون من أجيال وظروف مختلفة. وأيضًا بدورها في فيلم "قيامة مدينة" 1989 للمخرج باسل الخطيب وهو يبحث في تاريخ القدس. وفي فيلم "اللجاة" 1993 للمخرج رياض شيّا وهو مستوحى من رواية "معراج الموت" للروائي السوري ممدوح عزام.

ولعبت دور البطولة في فيلمين آخرين الأول بعنوان "حدوتة مطر" تأليف موفق مسعود إخراج ماهر صليبي والثاني "شوية وقت" تأليف وإخراج ماهر صليبي.

جسّدت دبسي في المسرح والسينما والتلفزيون شخصية الأم العطوفة، والمرأة الناضجة القوية والجدة الحنونة الحكيمة والأستاذة الجادة المتواضعة والمرأة الفلسطينية المناضلة. وقد قال عدد من النقاد إن الفنانة دبسي تتميز خلال تاريخها الفني الطويل بالأداء الرفيع، وقدرة الصوت على التعبير عن أعماق الشخصيات، إضافة إلى نبل الأخلاق والسيرة التي كُتبت بماء الذهب.

حازت الفنانة الراحلة على العديد من الجوائز والتكريمات منها: جائزة أفضل ممثلة عن دورها في مسلسل "أولاد القيمرية"، وجائزة أفضل ممثلة عن دورها في مسلسل "غزلان في غابة الذئاب" من مهرجان التلفزيون العربي. وكُرمت أيضًا بمهرجان دمشق المسرحي عام 2004 وضمن احتفالية الثقافة السورية عام 2020. وحصلت على جائزة أفضل ممثلة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ومهرجان دمشق السينمائي أيضًا.

نعاها الفنانون بحزن ووجع كبيرين وهم يتذكرون حبها للآخرين بصدق ولهفة ومساعدتها لهم وعطاءاتها الكبيرة في المجالات الإنسانية والفنية.

الفنانة الكبيرة منى واصف قالت: "حزينة بفقدانك أيتها الطيبة والدافئة، وقبلة أطبعها على جبينك وعلى يديك الرقيقتين، السيدة الكبيرة ثناء دبسي لروحك الحب والسلام ولعائلتك ولنا العزاء والصبر. ثناء دبسي: أحبك جدًا".

وقال الفنان فراس إبراهيم: "سأفتقدك أيتها البهية الجميلة الرائعة كما أفتقد أمي".

ووصفتها الفنانة أمل عرفة بالنبيلة وصاحبة الأخلاق الرفيعة علاوة على امتلاكها مشاعر الحنان الحقيقية.

أما المخرج محمد عبد العزيز فكتب يقول: "شجرة الحياة اليانعة، النبل والفرادة، النقاء، الحب والحرية والنزاهة، ثناء الباقية في ذاكرة الروح أنارت وستنير الشاشات وخشبات المسارح".

وقال النجم جمال سليمان: "عندما كنت شابًا صغيرًا يحلم بأن يكون ممثلًا، شاهدت الممثلة العظيمة ثناء دبسي على خشبة المسرح القومي السوري في مسرحية "الأشجار تموت واقفة" وكانت من المشاهدات التي تركت أثرًا كبيرًا في نفسي، شاهدت روعة الإتقان، وعظمة الأداء، وقوة الحضور المذهل، ورغم السنين التي مرت ما زال صوتها وطيف صورتها حيًا في ذاكرتي. وداعًا أيتها الفنانة والسيدة التي أعلت بموهبتها وصدقها وشخصيتها الآسرة ونبل أخلاقها شأن الفن والفنانين في بلدنا".

أما زوجها الفنان الكبير والمكلوم سليم صبري فقد وصفها بأنها "متلازمة الحياة" بالنسبة إليه، وأعلن مرارًا وتكرارًا قبل وفاتها أن ثناء لديها إصابة في شبكية العين وقد عرض على الأطباء أن يقدم لها عينه لترى بها، إلا أن ذلك غير ممكن طبيًا.

أما السيدة الراحلة فقد تحدثت في أحد اللقاءات المصورة عن مشهد الموت الذي جسدته بحرفية مدهشة في مسلسل "زمن العار" قائلة بكل تواضع: "النص ساعدني على هذا الأداء. أنا أحببت النص والشخصية وتهيأت كل الظروف لكي أنجح، عندما يكون الجو إيجابيًا يجب أن نبدع".

وداعًا أيتها المبدعة... "الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.