}

فايز صايغ: في مركزية موضوع اللاجئين بمسيرة القضية الفلسطينية

محمود شريح 22 مارس 2024
استعادات فايز صايغ: في مركزية موضوع اللاجئين بمسيرة القضية الفلسطينية
وُلد فايز صايغ في محافظة السويداء بسورية عام 1922
كان فايز صايغ في الثلاثين من العمر حين أصدرَ كتابَه "اللاجئون الفلسطينيون" بالإنكليزيّة في واشنطن العاصمة في فبراير/ شباط 1952. والكتابُ، على صغرِ حجمه (62 صفحة من القطع الوسط)، يكتسبُ أهميّة تاريخيّة في مسيرة القضية الفلسطينية، إذ استهلّه صاحبه بما أعلنه حاييم وايزمان، رئيس دولة إسرائيل في ما بعد، في العام 1947، وأوردَه لاحقًا في كتابه "التجربة والخطأ" (1949): "أنا متأكّد من أنّ العالمَ سيحكمُ على الدولة اليهوديّة بما ستفعلُه مع العرب"، وذلك قبل أن يترأسَها، فرأى صايغ أن ما هي إلّا أشهر قليلة حتى تحقّقت "نبوءة" وايزمان، إذ طُرِدَ الفلسطينيون من ديارهم، وأصبحوا في المنافي مواطنين من الدرجة الثانية، فيردُّ فايز صايغ قارئه الغربي إلى مقولة جورج أنطونيوس في كتابه بالإنكليزية "يقظة العرب" (نيويورك، 1938): "منطقُ الحقائق جليٌّ، إذ أظهرَ أنه ليس في فلسطين حيّز لأُمّة ثانية إلّا بقلع الأُمّة المالكة لها وإبادتها".
يرى صايغ أن مقولة أنطونيوس هذه أكّدتها الوقائع المرّة التي توصّلت إليها لجنة "كينغ ـ كرين" في تقرير لها رفعته عام 1919 إلى الرئيس الأميركي ويلسن أنّ الصهيونية تسعى إلى اقتلاعِ سكّان فلسطين وتملّكِ بلادهم، فألحّ صايغ على أنّ زعماء الحركة الصهيونية أرادوا "جعل فلسطين يهوديّة كما هي إنجلترة إنكليزيّة"، تمامًا كما أعلن وايزمان نفسه بذلك في كتابه "التجربة والخطأ".
يعيدُ صايغ إلى الأذهان شهادة الكونت برنادوت الوسيط الدولي لإيجاد تسوية سلميّة في فلسطين إثر قرار الأمم المتحدة بتقسيمها (22/ 11/ 1947)، إذ كان دعا إلى مفاوضات لاحقة في رودوس (حضرَها فيمن حضرَها طيّب الذكر كمال ناصر)، إلا أن مشروعَه لم يكن حلًّا عادلًا لإعادة السلام إلى فلسطين، وكان في شهادتِه إلى الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة أعلن أن نزوح عرب فلسطين نتجَ عن تدمير قراهم ودبّ الرعب في نفوسِهم؛ مُضافًا إلى ذلك مبحثٌ للمفكّر اليهودي Hal Lehrman رأى فيه أنّه لعارٌ يجلبُ الأسى ما ألحقَه الجنود الإسرائيليون من نهب وإحراق ومذابح، فيما رأى القاضيWilliam Douglas  من المحكمة الأميركية العليا في كتاب له صدر عام 1951 أن مذبحة دير ياسين أشاعت الرُّعبَ في صفوف عرب فلسطين ما أجبَرهم على النزوح، فيما أعلن الجنرال William Riley، رئيس أركان قوات الأُمم المتحدة لمراقبة الهدنة في فلسطين، في تقرير رفعه إلى مجلس الأمن في 18 سبتمبر/ أيلول 1950، أنّ القوات الإسرائيلية هجّرت بدوَ النقب.
على هذا النحو، وثّق فايز صايغ طردَ عرب فلسطين من ديارهم قبل حرب 1948 وأثناءها وبعدها، إلّا أنه لفتَ النظرَ إلى أنّ طرد عرب فلسطين لم يكن إلّا جزءًا من البرنامج الصهيوني، إذ كان الجزء الآخر منه تجميع أكبر عدد ممكن من اليهود في فلسطين، ذلك أنه بدءًا من مايو/ أيار 1948 وحتى نهاية 1951 هاجرَ إلى فلسطين حوالي ثلاثة أرباع مليون يهودي تحت غطاء اضطهادهم في أوروبا، ويفنّد ذلك بإعلانه أنّ "العودة" إلى فلسطين لإنشاء وطن قومي لليهود حلمٌ راودَهم تاريخيًا، وأنّه جذرُ الفكرة الصهيونية في القرن التاسع عشر، فيعيدُنا صايغ إلى سيرة وايزمان حين قال إن الصهيونية "قوّة حياتية وإبداعية" في حياة اليهود، وليست حاجة لعودة شعب منفيّ إلى وطن، لا بل إنّ وايزمان لا يتّفق في سيرته مع هرتزل القائل بأن شتات اليهود كافٍ للحركة الصهيونية في إقامة وطن لهم، وبناء عليه يخلصُ صايغ إلى أنّ الدافعَ إلى العودة لإقامة وطن قومي يهودي ليس هربًا من الاضطهاد، بل الحلمُ والرغبةُ في العودة إلى فلسطين، ليس إلّا. ويرى صايغ ذلك واضحًا في مقالة نشرها أبا ايبان، سفير إسرائيل في واشنطن آنذاك، في مجلّة Foreign Affairs (أبريل/ نيسان 1951)، قال فيها إنه كلّما زادت الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين كلّما كان ذلك إضافة إلى إنتاجية إسرائيل وزيادةً في أمنها.




وأشارَ صايغ إلى مقالة نشرها بن غوريون في النيويورك تايمز (1951.12.13) هاجمَ فيها زعماء الحركة الصهيونية الأميركيين لعدم هجرتهم إلى إسرائيل؛ أمّا موشيه شاريت، وزير خارجية إسرائيل آنئذٍ، فأعلنَ في سبتمبر/ أيلول 1951 في خطاب له في مدينة أتلانتا في المؤتمر السنوي لهداسا أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين نابعة من نبالةِ الحافزِ إلى الانخراط في الحلمِ العظيمِ للتاريخ اليهوديّ، فيلحّ صايغ على أنّ اقتلاعَ عربِ فلسطين من ديارهم لهو محصِّلة أساسية في البرنامج الصهيوني ويردّنا إلى إقرار John Kimche و Richard Crossman، وهما صديقان مؤيّدان لإسرائيل، بالإجحاف اللاحق بالفلسطينيين نتيجة اعتبار من بقي منهم في فلسطين مواطنين من الدرجة الثانية.
في نهاية كتابه، يرى صايغ أن الحلّ العادل الوحيد لمسألة اللاجئين هو حقّهم في العودة، ففنّد مزاعم الحركة الصهيونية وخطّأها بمنطقٍ سليم وبُعدٍ فلسفي، وهو خرّيج الفلسفة في أميركية بيروت مطلع الأربعينيات، وأستاذها فيها إثر كتابته أطروحة عن الوجوديّة، واستشرف باكرًا خواتيمَ نكبة 1948، إذ أنهى كتابه بهذه الفقرة:
"طالما بقي هناك طفلٌ لاجىء في مخيّم في غزّة يفتحُ عينيه فجرًا، ليس لملاقاة ضياءِ النهار، بل لملاقاةِ يومٍ آخر من الفقرِ والعَوَزِ، ولطالما بقيَ هناك مُسنٌّ لاجىء في خيمته إثرَ يومٍ مُظلم من القلق والقهر، لطالما بقيت معاناتهما الصامتة تستصرخان حكمَ الضميرَ والقلبَ الإنسانييْن".
لكنّ فايز صايغ لم يقفْ عند هذا الحدِّ في معالجتِه مسألة اللاجئين، فما أن تقدّمَ همرشولد، الأمين العام للأُمم المتحدة، في يونيو/ حزيران 1956، بوثيقة تدعو إلى تأهيل اللاجئين وتوطينهم حيثما وُجدوا في أماكنِ النزوحِ، حتّى كانت ردّةُ الفعل مدويّة، فترأس صايغ المؤتمرَ الفلسطيني الأوّل المُنعقد في بيروت في 26 يونيو/ حزيران 1959، الذي رفض مشروع همرشولد برمّته، ثم أعقبه بمؤتمر فلسطيني آخر عُقد في صوفر في جبل لبنان في يوليو/ تمّوز من العام نفسه، محذّرًا الدول العربية من مغبّةِ هذا المشروع، فوقفَ، إلى جانب وديعة خرطبيل (عن الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني)، وإميل الغوري (عن الهيئة العربية العليا لفلسطين)، وأحمد اليماني (عن الشباب العربي الفلسطيني)، ومندوبين عن جميع اللجان الفلسطينية في لبنان، مندّدين بوثيقة همرشولد، فلم تبدِ أيّ من الدول العربية حماسة لهذا المشروع، فطُوي وعفا عليه الزمن، إلّا أن صايغ وثّق وقائع هذين المؤتمرين في كتابه "مشروع همرشولد وقضية اللاجئين" (بيروت: دار الفجر الجديد، 1959) في 168 صفحة من القطع الوسط، وأشفعه بدراسة عَنْونَها: "مشروع همرشولد: تحليل ونقد" في 70 صفحة كان ألقاها أمام المؤتمر العربي الفلسطيني في 12 يوليو/ تمّوز 1959، وأقرّها المؤتمر بالإجماع، فجاءت وثيقة تاريخيّة أساسيّة في مراحل المسألة الفلسطينية، أنهاها بما أصبحَ شعارًا على درب نضال أهل فلسطين: "لا حلّ لقضية فلسطين ولقضية اللاجئين سوى عودتنا إلى فلسطين وعودة فلسطين إلينا".
وُلد فايز صايغ في قرية خَرَبا في محافظة السويداء في سورية في عام 1922، وانتقل مع والديه طفلًا إلى طبريّة، حيث عُيِّن والده عبد الله قسًّا. درسَ في الكلية الاسكتلندية في صفد، والفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت (ليسانس 1941، ماجستير 1945)، ودرّس فيها من 1945 إلى 1947، ثم دكتوراة من جامعة جورجتاون (1949). التحقَ في منتصف الثلاثينيات بالحزب السوري القومي الاجتماعي، وتسلّم فيه مسؤوليات هامّة من 1943 إلى 1947. كان أستاذًا في جامعات ستانفورد، وأكسفورد، وبيروت. اختير عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمّة التحرير الفلسطينية، وأُسندت إليه مهمة تأسيس مركز الأبحاث التابع للمنظمة في بيروت. انتقل إثرها إلى نيويورك مراقبًا دائمًا لبعثة لجامعة الدول العربية في الأمم المتحدة، ثم مستشارًا لبعثة الكويت من 1972 حتى وفاته هناك عام 1980. دُفنَ في بيروت يوم 16/ 12/ 1980.
كان من حسن طالعي في صباي أنّي قابلتُ فايز صايغ في فندق هيلتون أبو ظبي في منتصف السبعينيات، حين دَعَتْهُ وزارة الخارجية الإماراتية في أبو ظبي إلى إلقاء محاضرة عن السياسة الأميركية تجاه المسألة الفلسطينية. كان دَمثًا لطيفًا كعادة الصُيّاغ إخوته (يوسف، وفؤاد، وتوفيق، وماري، ومنير، وأنيس)، هو الذي عَوّلَ على الأميركيين في إنصاف أهل فلسطين، إذ رأى أنّ هنالك خطرًا داهمًا يلحق بأميركا والأُمم المتحدة طالما بقيت إسرائيل لا تلتزم بتوجيه راعيها الأميركي وبمواثيق الأُمم المتحدة، وهو نفسُه كان وراء قرار الجمعية العام للأُمم المتحدة رقم 3379 الذي يدين الصهيونية على أنها شكلٌ من أشكال العنصرية والتمييز العرقي، فهو الذي صاغَه ووضعَ كلماته، وأقرّته الجمعية العامّة في دورتها الثلاثين من العام 1975.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.