}

الدنيا كما لم أعرفْها

محمود شريح 17 فبراير 2024
يوميات الدنيا كما لم أعرفْها
(زاهر البزري)

 

كان فجرًا هادئًا ساعةَ فتحتُ عينيّ إثر حلمٍ مزعج، فتحسستُ نفسي لأُدركَ حقيقةَ يقظتي، وأرخيتُ أُذني للسكون بحثًا عن طمأنينة، إذ كان حُلمي مُفزعًا. شاهدتُ في ما شاهدتُ على وسادتي شعبي محاصرًا داخلَ وطنه وخارجَ وطنه، إذ نزلتْ عليه نكباتٌ، فأُجليَ عن بلاده قسرًا على مراحل، من مساكن هانئة إلى خيامٍ بائسة، فما إنْ التقطَ أنفاسَه حتّى دُفعَ به إلى العراء، وقُصِفَ من السماء، وحين احتمى بالسّاحل دُكّ من البحر، فلم يعدْ يَقيه برٌّ ولا بحرٌ. وحين ضاقتْ به الدنيا وانقطعَ عنه الغوثُ لاذَ بالصمت، إلى أن قويتْ شوكتُه فانتفضَ على الظُّلم وتمرّدَ على القهرِ، وصبرَ وصابرَ في سبيل تحصيلِ قوتِه، إلّا أنّه لم ينجُ، فاستبدّت به قوىً طاغيةٌ حوّلتْ نهارَه إلى سجنٍ وليلَه إلى قيدٍ، فصمدَ في وَجهِ نوازلَ عاتية، وذاق الأمرّين، من عدوٍّ وصديق، على حدٍّ سواء، في حروب مُتلاحقة عليه، ثمّ حُوصرَ وقيلَ له سلِّمْ تسلمْ، فسلّمَ ولم يسلمْ. وحين انقطعَ رزقُه أُحرِقَ زيتونُه واجتُثّ تينُه.
وعبثًا حاولتُ، وعينُ بصيرتي تغالبُ عينَ رؤيتي على وسادتي، أنْ أُبعدَ الكابوس عنّي، لكنّه طاردَني من دون إرادتي ولاوعيي، وكان طرادُه أخفَّ من نسورِ السماء. وأبصرتُ، في ما أبصرتُ، وما كان هيّنًا ما أبصرتُ، ميراثَ شعبي انقلبَ إلى الغرباء وسكنَهُ إلى الأجانب، وكانَ بنفسِه اكتسبَ خبزَهُ فاكدرّ ذَهبُهُ، وصدىءَ نضارُه، وإلى البريّة هربَ من حدِّ السيف.
واختلطَ الأمرُ عليّ في كابوسي الخانقِ على أنفاسي، إذ لمحتُ على وسادتي، وإنْ كان باهتًا، لقدمِ عهدِه، لوحًا صُكّ عليه وعدٌ يدعو إلى نُصرةٍ باطِلَةٍ، ثم أبصرتُ، غافلًا، على صحيفةٍ مَلكيّة، تصريحًا، رقيقَ الحواشي، يحثُّ، شَرْعًا على إحلال شعبي بمهاجرين غرباء عنه، فكان الوعدُ وعدَ إبليس بالجنّة، وكان التصريحُ سقيَ الكمّونِ بالوعدِ، فرأيتُ بما يُشبِهُ الخلَلَ المنطقيّ في سَيْرِ حُلمي، من شرعٍ وافدٍ من قرون غابرة، إلى ميثاق صيغَ من قرن ونيّف، فقلتُ في سرّي وأنا مغمضُ العينيْن، منقبضُ النفسِ، لا بُدّ أني شططتُ في تفسيري حلمي وأنا لم أدركْ يقظتي بعد، فهل يُعقلُ، وحتّى في الوعي الباطن، الإقرارُ بوعدِ حلمٍ واهمٍ، والركونُ إلى تصريحٍ ظالمٍ، فيما القاسمُ المُشتركُ بينهما إغداقُ عطيّةٍ مِن مَنْ لا حقّ له بإغداقها على مَن لا حقّ له بها؛ عندئذٍ أدركتُ أنّ شعبي خاسرٌ لا محالةَ في وجهِ وعدٍ توراتيّ وتصريحٍ إمبراطوريّ، فانزوى تحتَ خيمة الفرج القريب، ولو إلى حين، علّه ينفدُ بريشه من الطاغوتيْن.




ثمّ قادني حُلمي إلى يقظة روحٍ، إذ تذكّرتُ أثناءَه أنّ بساطةَ شعبي كانت قائمة على رغدٍ وهناءٍ وَدِعةٍ في مدنه على الساحل، وفي قُراه على ذُرى الجبال، وعند المنخفضِ حتّى النهرِ، إلى أن نُزعَ عنه حقُّه في المُلكيّة والأمنِ والفكرِ، فاضمحلّتْ حياتُه، إذ زُلزلتْ أرضُه عليه وصُدِّعتْ، ثم قُنِصَ عن كلِّ جبلٍ وعن كلِّ تلٍّ، وَرُوِّعَ على مضجعِه، فما إن اشتدَّ ساعدُه وأيّدَه أهلُ الحقِّ في مسعاه، وكان لا مفرّ من صراعه في سبيل البقاء، انتفضَ ثانيةً. لكن لم يتكافأ ميزان القوى، فأُسقطتْ مخيّماتُه على رأسِه، وحين التجأَ إلى أحراشِ المنفى أصلِيتْ نارٌ حاميةٌ عليه، فاكتوى جِلدُه كتنّورٍ، إلّا أنّ عنادَه حفزَه على النضالِ، فكانَ الاحتدامُ وبيلًا، وكان سلاحُه ضئيلًا، فَسَادَ البطشُ وطَفحَ الكيدُ، وقّدِّرَ للغالب فوزٌ مشؤومٌ، فتباهى واختالَ واطمأنَّ إلى نَصرِه، وانتشى سكرانَ إلى أن فقدَ حسَّه وأضاعَ رُشدَه، ثمّ سئمَ من الجَوَلانِ بين بحرٍ ونهرٍ، وبين نهرٍ وبحرٍ، فضاقتْ عليه دُنيا واسعة، وتعبَ من حملانِه رايةَ النصرِ المُثقلة بآلام المعذّبينَ في الأرض، فدهمَهُ ليلٌ دامسٌ غاب عنه النيّران العظيمان ويبسَ الزّرع وفَسُدَ الثمرُ، ولم يكنْ فصلٌ بين نهارٍ وليلٍ وأظلمتْ الشمسُ القمرَ وسحبتْ الكواكبُ ضياءَها، فإذا الكونُ جميعُه عوسجةٌ مُلتهبةٌ تطايرَ منها شررٌ لم يبقِ ولم يذرْ، فأضحتْ الأرضُ خرِبةً وخاليةً، وأظلمَ وجهُ الغمرِ، فلم يرفّ عليه روحُ الحقّ، فكأنّ الكونَ ما كانَ.
كان حُلمًا أقضّ مضجعي، فما إن غابَ عن خاطري ساعةَ انبلجَ عليّ فجرٌ غَبِشٌ حتى تنفّستُ الصعداءَ، وتحسّستُ نفسي، لأُدركَ حقيقة يقظتي، فانتبهتُ فجأةً إلى أنّي غفوتُ ليلًا وأنا أتصفّح عنواني كتابيْن على رفٍّ بجانبي، هما: ربّ شرارةٍ أحرقتْ سهلًا، ومن الشرارة يندلعُ اللهيبُ، فارتحتُ من عناء كابوسي، وفسّرته على هذا النحو على أنه بقوى من أمسي، فأزحتُ الكتابيْن عن رفّي وأبدلتهما، رحمةً بنفسي، ودفعًا للهمّ عنّي، وخشيةً من تكرار كابوسي، بمذكّرات خليل السكاكيني "كذا أنا يا دنيا"، وبرواية "في سبيل التاج" للمنفلوطي. ولأُبعدَ عنّي أيّ كابوسٍ لاحقٍ منّيتُ نفسي بحفظِ أبياتٍ من قصيدة "في سبيل لميس" لِعمرو بن معد يكَرِب أُردّدها قبل خلودي إلى النوم، علّها تعزّيني وتطيّبُ خاطري، هي:
كلُّ امرىءٍ يجري إلى/ يومِ الهياجِ بها استعدّا
لمّا رأيتُ نساءَنا/ يفحصنَ بالمعزاءِ شدَّا
وبَدتْ لميسُ كأَنّها/ بدرُ السماء إذا تبدّى
وبَدتْ محاسنُها التي/ تَخفى وكان الأمرُ جِدّا
نازلتُ كبشَهم ولم/ أرَ من نزال الكبشِ بُدّا
هُم ينذُرونَ دمي وأنذُرُ/ إنْ لقيت بأنْ أشُدّا
كَمْ من أخٍ لي صالحٍ/ بَوّأتُه بيديّ لَحْدا
أُغنّي غناءَ الذّاهبينَ/ أُعَدُّ للأعداءِ عَدّا
ذهبَ الذين أُحبُّهم/ وبقيتُ مثلَ السّيفِ فَرْدا.
فما إنْ حفظتُ أبيات عَمرو بن معد يكَرِب عن ظهر قلب، وفقَ تسلسلها المنطقي وتبعًا لجبروت حكمتها، مستفيدًا من بأسِ عنادها، حتى صرتُ أنامُ قريرَ العين مطمئنَّ النفسِ، وأُبصرُ في منامي أحلامًا لذيذة، منها أنّي واقفٌ على قمّة هرم الجيزة الأكبر عند القاهرة، فأرى بساتينَ الشّام مُنبسطة أمامي، فيما تهبطُ عليّ من سقفِ غرفتي مناشير تبشِّرُ بنزول الاشتراكيّة، وتدخلُ عليّ من نافذتي نسائمُ الحريّة، وتسري من مصراعيها أهازيج خافتة وافدة من مذياع بعيد تنشدُ الوحدة من محيط إلى خليج، فإذا الدنيا كما لم أعرفْها، سيّما أنّ المذياعَ نفسَه كان يختم برنامج أهازيجه بوعدٍ بفوزٍ عظيم ونصرٍ قريب.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.