}

جاك بريل: ساعي بريد الصوت والروح والواقعية "السّافرة"

رنيم ضاهر 4 أبريل 2024

 

عندما نستذكر جاك بريل (1929-1978)، فنحن لا نتحدث عن مغنٍّ عاديّ، بل عن فنانٍ من طراز خاص واستثنائيّ، فقصصه ومغامراته وجنونه الأرستقراطيّ والصاخب معًا يُعري الواقع من زيفه وأقنعته ويسكب المخدر على التفاصيل لتتحول مشهدًا تمثيليًّا مُتكاملًا، بأبعاده النفسية الهائلة، من خلال لا وعي نزق وغير مُتساهل مع فكرة الحياة الممعنة بالقسوة والشقاء حينًا، السّعادة والقدرية والشغف في أحيانٍ أخرى.

كتب بريل مواسم كاملة من الجمل الصادمة والرومانسية، وبأداء محيّر وغير قابل للتقليد أو التّحليل، استطاع تخريب الفن بالمعنى الإيجابيّ، فسار عكس السائد ليتقبله الجمهور ويُصفق لصور لا تُشبه سوى صاحبها الّذي يبتكر الحركات ويتلاعب بالمايكروفون وطبقات صوته، فيبدو ساخرًا وعاشقًا وبليد المشاعر ومُختلًا وعبقريًا: كل هذا التناقض والجنون يُدعى جاك بريل.

يبدو أن ساحر العشاق القُدامى والصّيادين والسّكارى وبائعات الهوى على امتداد مرفأ أمستردام، تخطى كل الانفعالات الإنسانية، فاختزل المشهد بجمل مغناة أقرب ما تكون إلى الرسم، تماهى مع انفعالات المحيط وضحاياه من البحارة والصّيادين والحفاة، وخطّ بصوته وموسيقاه مراكب لا تنتهي من التراكيب الحسيّة المتورطة بزنخ الميناء واضطراب العالم، بعدسة مصور ماهر.

صدح بصوته معبّرًا عن تعب المُهمشين ومعاناتهم الدّاخلية بشعرية لا يُضاف إليها سطرٌ، مهما كان الخيال مُتقدًّا:

"في ميناء أمستردام/ هناك بحّارةٌ يُغنّون للأحلام التي تتصيّدهم/ على ساحل أمستردام/ هناك بحارةٌ ينامون كالأشرعة على تلال مُطلّة على الضفاف/ على ميناء أمستردام/ هناك بحّارة يموتون مليئين بالجعة والحزن…".

المنازلة مفتوحة هنا بين من هو بائس ومتورط بالبغاء بالمعنى النفسيّ والملموس، وكذلك بالقناعة والتماثل مع هدير المياه وتبعات التماهي مع الخشب المشقق وموسيقى الأكورديون الذي قد تنتهي صلاحيته في وقت قريب على حدّ قوله، وأنواع النساء الرخيصات اللاتي ينتظرن عملات ذهبية بعد هبوط الشّمس على رصيف المرفأ.

أدّى بريل الأغنية دفعةً واحدة، دون توقف، لدرجة أنّه وجد صعوبة في التقاط أنفاسه عند نهايتها.

وصف بريل الفقر بجسده، بالأبيض والأسود كأزرار البيانو في الظلمة، وصف كيف يحتسي الفقراء الطعام ذاته وكيف تتشابه أقدارهم وأيامهم بكثير من الانفعال والتوتر، فكأن التمثيل إحدى ألعابه في التّعبير، إلى جانب خطف القلوب وتصوير التابوهات كمصدر للتمايز بين بيئة مُعدمة ومهمشة وأخرى تسير على السّجاد الأحمر دون أن يلفتها حزام البؤس حول العواصم الفاخرة، لقد خطّ بجيناته السّوداء حُطام النفس كما في أغنية " السّكير" و"هؤلاء النّاس"، ولمس بجيناته الحمراء الحب بمنزلقاته وحدوده القصوى، ليُصبح رمز العاشقين تحت منتصف القمر وعدالة الموسيقى والكلمة.

ليس سهلًا أن تكون نفسك في عصر الأغنية الصعبة، وليس سهلًا أن تثبت ذاتك وسط الازدحام والنقد اللاذع، لكن صاحب أغنية "ماتيلد" و"لا تتركيني" و"عندما لا نملكُ سوى الحب" عَبر القارات واللغات، فمن لم يفهم كلماته، تأثر بالجسد المتمايل والحواس المشتعلة على أهم مسارح العالم، ومن لم تسرقه الموسيقى، استسلم لبساطة الكلمة وعمقها، وتمادّيها بالشّعرية في أحيانٍ أخرى، فبدا الرجل كسمفونية في مشهد سينمائيّ، لا يخرج بعده المُتلقي سوى عاشق يحمل في قلبه وردة حمراء سيزرعها بصدق على وسادة افتراضية، عابرة للزمان والمكان والمقاييس المألوفة للغناء.

"لا تتركيني" هي إحدى أغنيات بريل الأكثر شيوعًا وشعبية، حيث صوّر الحب كما في الأفلام وبكلمات راقصة، لا تدل سوى على الاختلاف. عزف في النفوس كل المفردات التي لا تضمحل أو تذبل، راسمًا للعشاق طريقًا من دخان القطارات المشمسة، "لا تتركيني/ أنا سأهديك لآلئ المطر/ الآتية من بلاد/ لا تُمطر سماؤها/ سأحفر الأرض/ إلى ما بعد موتي/ لتغطية جسدك/ ذهبًا ونورًا/ سأنشئ عالمًا/ أين يكون الحب ملكًا/ وأين يكون الحب قانونًا/ وتكونين أنت ملكة…".

وهنا تحديدًا يظهر نداؤه للحبيبة الغائبة على شكل مقاطع صوتية، تضج بالدمع والتّوسل والضياع والتأزم والقلق من الفراق الثقيل على العين والروح، وهنا أيضًا يبدو التمهل والفراغ الموسيقيّ جزءًا من طلب العودة واستجداء المرأة البعيدة لتُنصت إلى كلمات مختلفة لم يألفها الوسط الفنيّ من قبل. فتظهر موهبته العالية في نسج الصور وطريقة التّداعي خلال الفن، والتّحرر من القيود نحو الكثير من الابداع بانفعال عاطفيّ قل نظيره.

جاك بريل الكاتب والمغنّي والممثل البلجيكيّ الأصل، كتب ولحنّ وأدّى أغانيه، وألّف موسيقى الفالس الحسيّة


وفي أغنيته السّاحرة "ماتيلد" يرتل بريل على أنغام البيانو، "أمّي، هل ترين بعد أن أبليت ركبتيك وأنت تُصلّين لأجلي. ماتيلد عادت إليّ/ أيّها السّاقي لا تضع مزيدًا من الجِعة/ فالليلة سأشرب دموعي/ أيتّها الخادمة/ عليكِ أن تُعدّي ملاءات جديدة للسرير…". ويُتابع: "أيّها القلب/ يكفي بأن تخفق بهذا الاضطراب/... الآن أمي هل تسمعين صراخي؟/ ابنك الوحيد سيعود إلى الجحيم من جديد...".

بعد كل هذا الحب الذي يؤديه بريل بشفافية ومصداقية، يفعل كل ما يقدر عليه ليتخطى النظرات إلى ما هو أبعد من التصفيق، فتتجاوز كلماته الصالونات الواسعة وعتم الأزقة والجزر النائية.

وصل إلى أرواح النّاس سواء من خلال عباراته المخملية من جهة، أو القاسية من جهة أخرى والعميقة حدّ الانسياب في الضلوع، والغريبة عن السائد، كهدايا تنهال من السّماء السابعة في المداخن العارية، ولا تكتشفها سوى أحلام الأطفال.

عبّر بريل بصوته مسامات الهواء، فكان فنانًا في إيماءاته، وتحوّله من رجل كئيب إلى مهرج دون بقع على وجهه وملابسه، وبين الحزن والفرح وبين تنويع الطبقات ومقامات الصوت المُتعثر بملامح صاحبه، كان الجمهور يستسلم للزوبعة التي يتركها صدى الرجل النحيل.

لم يكن صاحب "أغنية العشاق القدامى" والذي يُعتبر من أشهر المغنّين بالفرنسية، مولعًا بالشهرة أو الأضواء، بل كان يُفضل التواري خلف خيوط لُفافة لا يُدخنها، بل تُخفف من حيائه الزائد.

صرّح بريل في مقابلة تلفزيونية بأنّه "يستطيع أن يعيش دون غناء، لكنّه لا يستغني عن الكتابة". هو الدقيق في صياغة اختيار العبارات وانتقاء الألفاظ من ذاكرته المكتظة بالعاطفة وحياة الأرصفة الموحلة.

جاك بريل الكاتب والمغنّي والممثل البلجيكيّ الأصل، كتب ولحنّ وأدّى أغانيه، وألّف موسيقى الفالس الحسيّة، فتخطى جمهوره فرنسا إلى مختلف بلدان العالم. فأصدر ألبومات عديدة وشارك في التمثيل في أكثر من عمل دراميّ، إضافةً إلى الإخراج السينمائيّ، وقد أحب كثيرًا الطيران وحصل على شهادة فيه.

أثّر بريل على أجيال بأكملها وفنانين، وقد تُرجمت أغنياته إلى الإنكليزية، ويُعد المُغنّي فرانك سيناترا أفضل من صدح بها.

في سياق آخر، يبدو أن بريل لم يؤمن يومًا بالحب الأبويّ، رغم أنّه عاش الكثير من قصص الحب، لكنّه ترك الميراث لزوجته تيريزا وبناته، وممّا قاله بريل لزوجته في وصية خاصة: "أنا لا أؤمن بالحب الأبويّ، لكنّي أؤمن بالحب الأموميّ، لا يمكن للأب أن يكون على اتّصال وثيق بالأطفال. يمكنك بالطبع الثقة حتى يسقط لسانك. لكن هذا لا يؤدي إلى أيّ شيء جيّد. لم أرغب أبدًا في أن تتذكرني بناتي وأنا أضع أنبوبًا في فمي، أريدهم أن يتذكروني كنجم".

غادر بريل المسرح وهو في كامل شعبيته، وانتقل الفنان للعيش في الجزر حيث الحياة أثقل ممّا عليه في العواصم الملونة، ولم يستمع بريل إلى وصايا الأطباء الذين حذروه من البقاء هناك، لأن طقسها وجوّها العام سيء لرئتيه المتعبتين، الخاليتين من الغناء، خاصةً بعد تشخيص مرضه بالسرطان، ومع ذلك أكمل بريل الحياة هناك حتى موته في عام 1978، تاركًا لنا موسوعة من الأغنيات العاطفية وغير العاطفية المختلفة وغير النمطية، إضافةً إلى إسهامات في السينما والإخراج والكتابة، هو المُجدد على صعيد اللحن والثّراء الموسيقيّ، ومساحات الصمت التي تعقب الذهول العام.

"سأخترع لك كلمات لا معنى لها وتفهمينها... وعندما يأتي المساء/ الأحمر والأسود ألا ينسجمان؟ لا تتركيني…".

إن خلود بريل أتى من تخطيه النمط المتعارف عليه للأغنية، دون التعدّي على إطارها الخاص، ومن ولعه باختبار أحاسيسه على المسارح، والاحتفاء بجماليات الحب، والتطرق إلى مواضيع خارجة عن "مهنته" الأصلية، واختبار الأسئلة الوجودية الكبرى في بعض أعماله، تَمنحه صفات المخترع سواء في المضمون أو الشكل أو الأداء المتميّز والرياديّ. فهو أحيانًا يبدو كناسك صوفيّ في معبد ، كما في أغنية "كبار السّن"، حيث  يلمس الحب المصطف في أثواب دائرية، أو يأخذك إلى القلق والنفور في الأزقة الخلفية للشوارع الفاخرة، حيث التناثر النفسيّ والشّقاء وتعرية الروح والجسد، بواقعية كحدّ السّكين.

لم يرحل بريل، هو الذي عاش طفولة شقيّة مُخصصًا معظم وقته للتأليف واختراع أدوار فتيّة لرفاقه، هو نفسه أيضًا من رفض استلام أعمال والده لأن الفن كان هاجسه.

الطفل البلجيكيّ جاك بريل أصبح ما يُريد، ترك يومًا والديه وبلاده إلى العالم الشاسع، وحين تعب ترك الأخيرة إلى الجزر البعيدة، وحين أرهقه الصمت الطويل والرتابة وتكرار المشاهد، عاد إلى السّماء تاركًا صوته وكلماته للعشاق والمسافرين على عجل من محطة إلى أخرى، سواء على الأرض أو في الفضاء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.