}

دُكانٌ عبثيّ: الأغراض التي كنت أظنّها نباتات

رنيم ضاهر 23 أبريل 2024
آراء دُكانٌ عبثيّ: الأغراض التي كنت أظنّها نباتات
آني كركجيان (لبنان)

 

كانّ الحيّ مكتظًا كمزاجي بعد انتهاء اليوم دون أن أجد ما أقرؤه، كنتُ أسير مع نقود معدنية تُخشخش في جيبي لأستأجر قصة جديدة مُتخيّلة مصير أبطالها وراسمة صعودهم الهوليوديّ نحو الأوسكار، بينما أتفادى مواء القطط التي تخربش عالمي الخياليّ لُتُعيدني إلى الواقع المسكون بالتّكرار.

كان ألبير كامو يعتبر "أنّه يوجد طريقان للتعايش مع العبث: إمّا أن تُصبح عبثيًا أو أن تُصبح شخصًا عاديًا تعيسًا ينتحر في الهواء، مثل دخان سيجارة".

فالجميع من حولي يرتبون التبغ داخل لفافات بيضاء، ويبتلعونها مع الأيام، ويُحكى في الكواليس أن خلف الجبل قُرى بأكملها يزرع ساكنوها الخارجون عن سلطة الدولة الحشيش والأفيون، ويُقال بأنّهم يستمتعون بالحياة على عكس سيوران ونيتشه.

هل تُعتبر حياتهم نوعًا من العبث أيضًا، أم أن كامو كان يقصد عبثًا لا يحميه القانون وغياب الدولة؟

السّعادة تظهر في التّفاصيل، وغنى المشاهد حيث الجميع محاصرون في الزوايا، ينفضون الآثام التي تعودت عليهم، حتى أصبحت جزءًا من الخطاب المباشر، الدين أيضًا صادرته العادات البالية، ولعبة الاختفاء والهروب والتسكع في المتاهات، حيث لا قانون ولا رقابة ولا من يحزنون. الأنا الأعلى مغيّب في صحة التهريب والاحتفاء بسلطة العشيرة التي تتوارث الأخطاء والأقنعة والقبور البعيدة.

هناك تكتفي النساء بالزغاريد وتوضيب الحقائب ودعاء الغائب، والتدخين طوال الليل بحثًا عن خبر أو وشاية، ينمن بعيون مفتوحة وآذان يقظة خوفًا من قطاع الطرق: "رجال الأمن".

ويحضُرني هنا الكلام الّذي قاله الممثل الأميريكيّ ليوناردو دي كابريو في أحد أدواره المهمة في فيلم "خيال رخيص"، الحائز على جائزة السعفة الذهبية، والذي أخرجه كوانتين تارنتينو المثير للجدل؛ "أتيت من عالم العنف، إنه يسري في دمي، كان والدي كذلك ووالده من قبله، كان ذلك قدري. من هو البريء؟ هل أنت بريء؟ إنه مجرد قتل، كل الكائنات تفعل ذلك، بشكل أو بآخر".

هل يمكن لعبارة كهذه أن تُعبّر عمّا "وراء الخير والشّر" بحسب نيتشه، وبأنّ البيئة هي التي تُحدد مصير الإنسان ونهايته وابتداعه لوطن داخل وطن، شيء يشبه الغابة والدوران حول الطوطم، الأب الفعليّ الذي سيقتله أبناؤه في محاولة للتوازن وخلق الأسطورة في عالم حديث قديم. عالم لا يشبه الإنسان الذي كبت غرائزه وانفعالاته وسلخ جلده الأول ليُصبح متمدنًا في عصر الرأسمالية أو لنسمّيها "الكوميديا السّوداء".

لنعُد إلى الدكان الذي كنت أقصده لاستئجار القصص المتاحة والمجلات الممنوعة، دكانٌ يُشبه إلى حدّ كبير مخيّلة بودلير ورامبو، لقد شكّل هذا الأخير منعطفًا بين جميع العلوم التي أدرسها، هناك كانت تختلط الحواس في محاولة لتصديق المشهد، لا ينقص المحل سوى زريبة وقضبان لحبس اللصوص وأقزام سبعة للسدّة التي ربما تحتوي على تابوت للأحلام التي استبعدها أصحابها في منتصف الطريق إلى الحقيقة.

كان يلزمني وقتٌ لاستقطاب الأشكال غير المتناسقة والمكدسة في محاولة لتخريب نظرية "فيتاغورس"، لم أكن أعرف إن كنتُ في خربة أو داخل مسرحية غير مكتملة لـ"بيكيت" سيخرج في نهايتها "غودو" من السحبة التي تلمع في خيال الطفلة الشقراء وهي تبتسم للخاتم البلاستيكيّ الندي سينكسر قبل وصولها إلى المنزل.

هل هي أفكاري التي تبللت برائحة القهوة والشوكولا والعطر الرخيص وسدادات القناني الزجاجية التي تطير من حولي، أم أن الزمن تحول إلى خردة تُثقل المكان الذي ضاق بالأنفاس والأيدي الممدودة، وعبارات الطلب، والنهي والتململ؟

لو دخلنا صلب الموضوع، سنجد في هذا المربع الضيّق طاقة سلبية، الطاولة مُتخمة بالاُقلام والدّفاتر والسكاكر والمعجون وأوراق اليانصيب وعلب فقاعات الصابون والحلويات اللّزجة، الرفوف تكاد تتهاوى من كثرة المعلبات وأكياس الحبوب. أمّا الواجهة المُتسخة فكانت تتصدرها خواتم الحديد والحلق وكولونات النايلون والشبك. لا أعرف حقًا إن كان هذا مجرد محل لرجل لا تتغيّر ملامحه ولا هندامه، أو سوقًا صغيرة تشبه سوق الجمعة أو الأحد، خاصة حين يتعثر أحد الأطفال ببقايا الخضار والفاكهة ويقع باكيًا على الأرض.

لكي أصل إلى القصص والمجلات، كان عليّ أن أحتمل سمنة المكان، وأن أزيح كراتين البيض ومواسير الخياطة، ربطات الخبز وعلب الهندسة والأدوية، برفق وإنسانية لأتفادى نظرة العجوز الممتقعة.

ربما كانت القصة التي حصلت عليها بعد معاناة طويلة، تبدو أكثر فقرًا من براد البوظة ذات النكهات الفوسفورية والبرتقالية في أفواه الأطفال بعد المدرسة، وأقل إغراءً من طابات التفاح المغطاة بالكراميل واللون الأحمر الذي يصبغ شفاه المراهقات ويُعتبر نوعًا من الإغراء الأوليّ على طريق الأنوثة.

إذا كانت الحياة فعلًا يحكمها اللامعنى، والعالم غير عقلانيّ، والحياة والموت مجرد غريزتَيْ دفاع للاستمرار أو الاضمحلال، وإذا كانت الرتابة واحدة من معايير التمرد على الوجود بحسب كامو، فإن الهدف الذي اخترعه صاحب "دكان العبث"، هو الإضاءة على غرائز سكان الحيّ ودعوتهم إلى التماهي مع محتويات المكان، وتجاهل الأغراض المنتهية الصلاحية، كي لا يعقد الرجل العجوز حاجبيه ويطرد صاحب الحق خارجًا دون رجعة.

من الواضح أن صاحب هذا الحانوت يُشبه "الغريب"، فهو يُضطر في كل مرة لإنقاذ بضاعته من الجرذان التي تبحث عن بذور دوار الشمس في الليالي الباردة وقضم الأوراق المليئة بزيت المناقيش، ويبقى هذا الجرم حادثًا فرديًا عابرًا للوجود والطاعون.

ويبقى ليوجين يونسكو أن يتخيّل "عارف" على خشبة المسرح وهو يتفوه بعبارته الشهيرة: "الكون يبدو لي وكأنّه غريب بشكل مطلق. في هذه اللحظة أمعن فيه النظر بمزيج من المعاناة والألم والسعادة والنشوة، وبالانفصال عن الكون أرى الصور والمخلوقات وكأنّها تتحرك في وقت بلا توقيت وفي مساحة بلا مساحة، وتنبعث أصوات تكون نوعًا من اللغة التي لم أعد أفهمها أو أسجلها مطلقًا".

ربما يكون العالم سخيفًا ومُتهالكًا وقديمًا، ويبدو البحث عن معان له من أصعب ما يُمكن، ويبقى التصالح مع فكرة عبثية الحياة ومواجهة الفراغ النفسيّ الهائل، من خلال خلق معنى خاص ومنسجم مع الذات، هو الأهم لإثراء التفاصيل التي تبدو عاديّة حين تكون بالقرب منا، وغنيّة حين نبتعد عنها، وتُغطيها خيوط العنكبوت وتجاعيد الزمن.

فمن منا أنا أو الدّكان أو الإشارات التي تدلف من الروح والطفولة وبقايا العواء هي الحقيقيّة؟ أم أنّه لا حقيقة تحت الشّمس وأن الدّكان هو مجرد شبح لا معنى له في وجودي الحاليّ؟.

"أنا" التي تبحث طوال الوقت عن مقص قادر على بتر التقاليد التي جلدتني، تمامًا كما أرهقت الثلوج على مدى سنوات محتويات وجدران الحانوت وصحة عارف.

أستذكر هنا "يونسكو" في مسرحيته الشهيرة "وحيد القرن"، وهو يتحدث عن التأثيرات اللاإنسانية المُترتبة على الرضوخ والامتثال وسخافة التقاليد المجتمعية، المبنية على التوارث غير العقلاني والمنطقيّ، وعدم اعتبار الإنسان حرًّا وقادرًا على الاختيار والتّعبير والالتحام بالكون من خلال ذاته واكتشافاته الخاصة، النابعة من تجاربه وحساسيته الموضوعية.

لا أعرف تحديدًا ما الّذي يجمعني بذلك الزمن سوى حبل سرة مقطوع.

تُرى ما الذي حلّ بعارف، هل وقعت واجهة أسنانه بالكامل أو تقاتل الورثة وأحرقوا القصص والمجلات داخل الموقد مع نظراتي الحافية، التي لم تعد تذكرها الأرصفة ولا الدّكان الذي تنبح داخله الذاكرة ككلبة صيد. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.