}

ثريا الحافظ سيدة دار الأمة

نبيل سليمان 31 مايو 2024
استعادات ثريا الحافظ سيدة دار الأمة
ثريا الحافظ
في السادس من أيار/ مايو عام 1916، وفي قلب مدينة بيروت، في الساحة التي ستعرف باسم ساحة الشهداء، أعدم الحاكم التركي العثماني جمال باشا، الذي سيعرف بالسفاح، أربعة عشر سوريًا ولبنانيًا ممن ثاروا ضد الهيمنة التركية العثمانية. وبين أولاء السوري الأميرالاي أمين لطفي الحافظ، مخلفًا ابنته ثريا في سنتها الخامسة، والتي ستكتب بعد عشرات السنين أن والدتها اصطحبتها إلى سجن عاليه في لبنان لترى والدها، الذي أخبر أنهم سيطلقون سراحه في الغداة، ونقرأ: "فعدنا إلى دمشق، وما زلت أذكر أن أمي قد ارتدت ثوبًا أحمر اللون، وزينت شعرها بالورد والياسمين من أجل استقبال والدي. وفي ذلك اليوم، استقبلت أمي جارتها من عائلة الشهابي. جاءت وقد وضعت يدها فوق رأسها، فسألتها أمي: ما بك يا لبنى؟ أجابتها بلوعة وأسى: لقد أعدموهم شنقًا. فضربت أمي نفسها ونثرت عنها الورد والياسمين".
بعد عامين، تزوجت أرملة الشهيد من الأمير مصطفى الشهابي، المهندس والكاتب والوزير، فنشأت ثريا الحافظ في عهدته. وما إن تخرجت في دار المعلمات حتى بدأت تسطّر تاريخها، ابتداءً بالعمل في التعليم حتى عام 1963، وابتداءً بتأسيس جمعية خريجات دور المعلمات في دمشق سعيًا إلى مكافحة الأمية، وافتتاح نادٍ نسائي، وتقديم عروض مسرحية في مدرسة سوق ساروجا الأميركية. وقد كان لثريا الحافظ دور البطولة في تلك العروض. وسرعان ما سيتفجر ويتوالى نشاطها الاجتماعي، من تأسيس جمعية (دار كفالة الفتاة)، وجمعية (يقظة المرأة الشامية)، و(دوحة الأدب)، وجمعية (رعاية الجندي السوري عند الحدود)، وجمعية (نقطة الحليب)، وجمعية (الفنون السورية)، إلى عضوية (النادي العربي)، و(الرابطة الثقافية النسائية)، و(جامعة نساء العرب القوميات) و...

منتدى سكينة الأدبي
ومثل نشاطها الاجتماعي، كان لثريا الحافظ نشاطها الثقافي. وقد تمثلت ذروته في تأسيس منتدى (سكينة الأدبي) في 26/ 12/ 1953، والذي كان أيضًا من ذرى النشاط الثقافي في سورية في خمسينيات القرن الماضي. ومن أعلامه كانت ألفة عمر باشا الإدلبي، ومرزية القوتلي، وعزيزة هارون، و... وكانت جلساته تعقد في منزل المؤسسة، الذي اشتهر بأنه دار الأمة، في السابع عشر من كل شهر. ومما استهدفه جمع وطبع نتاجات الأدباء، والترجمة من اللغات الأجنبية وإليها، وتنظيم المهرجانات والمسابقات الأدبية، لكأنه وزارة الثقافة!




من الذين حاضروا في هذا المنتدى غادة السمان، وكوليت خوري، وسهير القلماوي، ووداد سكاكيني، ويوسف السباعي، وعبد العزيز الأهواني، وقسطنطين زريق، وعبد القادر القط، وعبد السلام العجيلي، وسامي الدروبي، وكثير سواهم من الأعلام في سورية، ومصر، والجزائر، والعراق، ولبنان... كما ألقى كبار الشعراء أشعارهم في المنتدى، مثل نزار قباني، ومحمد مهدي الجواهري، وفدوى طوقان، وخليل مردم بك، صاحب النشيد "حماة الديار عليكم سلام"، الذي اعتمد نشيدًا وطنيًا لسورية عام 1936 في عهد رئيس الجمهورية الأول محمد علي العابد، بعد أن لحنه الأخوان اللبنانيان محمد وأحمد فليفل. ومن لبنان، أيضًا، استضاف "منتدى سكينة" فيروز والأخوين رحباني، وكانت له عناية خاصة بالفنون، فقد انبثقت عنه فرقة (فجر الأندلس) لتعليم رقص السماح والدبكة الشعبية.
أُوقِف المنتدى في سورية عام 1963، فاضطرت ثريا الحافظ إلى الانتقال إلى القاهرة، حيث استأنف المنتدى نشاطه هناك، ولكن بحدود ضيقة. وممن تحدثوا فيه ناصر الدين النشاشيبي، وعبد الله شمس الدين، صاحب نشيد (الله أكبر فوق كيد المعتدي)، الذي دوّى عام 1956، ولحنه محمود الشريف، كما كان النشيد الوطني الليبي منذ 1961 حتى 2011. ومن الشعراء الذين تغنوا بالمنتدى الشاعر المصري أحمد علي حسن، الذي كتب: (ها هنا منتدى سكينة أحيته/ ثريا، فهل عرفت ثريا؟/ أمةً جمّة النشاط وجيلًا/ أدبيًا وعالمًا عربيًا). كما قال صقر بن سلطان القاسمي في منتدى سكينة: "إيه يا منتدى سكينة مني/ لكَ أن أبقى في حماكَ صديقًا/ فاهد مني تحيةً لثريا/ وانشر الورد زاكيًا وصديقًا".
في عام 1970، توقف منتدى سكينة الثقافي نهائيًا، وعادت مؤسِّسته إلى سورية. وقد كانت لها قبله مساهمتها الكبرى في الصالون الثقافي (حلقة الزهراء الثقافية) عام 1946، وكان مقره في قصر مؤسسته زهراء العابد، زوجة أول رئيس للجمهورية محمد علي العابد. وكما كان لثريا الحافظ في النشاط الاجتماعي والثقافي، كان لها في الشأن العام. فقد شاركت في المظاهرات النسائية في دمشق ضد الاستعمار الفرنسي. واشتهرت بأنها (خطيبة الجماهير)، و(بطلة المظاهرات). وقد أسست عام 1945 دار (كفالة الفتاة) لمساعدة بنات الشهداء، الذين تصدوا للاعتداء الفرنسي الشهير على البرلمان السوري في 29 أيار/ مايو 1945. كما شاركت سيدة دار الأمة في المقاومة الشعبية في دمشق ردًا على العدوان الثلاثي (فرنسا وبريطانيا وإسرائيل) على مصر عام 1956. وحين قامت الوحدة السورية المصرية في "الجمهورية العربية المتحدة" (1958 ــ 1961) كانت ثريا الحافظ بالغة الحماسة في "وحدويتها"، وفي "ناصريتها"، نسبة إلى جمال عبد الناصر. ولذلك عارضت الانفصال الذي أودى بدولة الوحدة. وعندما توفي جمال عبد الناصر أقامت مجلس عزاء في منزلها، وشاركت في مظاهرة الحزن النسائية التي جابت شوارع دمشق يومئذٍ.

ثريا الحافظ تخطب تأييدًا لدور الجيش السوري في الدفاع عن فلسطين عام 1948 

ولعل زواج ثريا الحافظ من منير الريس قد يسّر لها المساهمة في مختلف ألوان النشاط. وقد كان الرجل عضوًا في (عصبة العمل القومي) في ثلاثينيات القرن الماضي، كما حُكم عليه بالإعدام عقابًا على انخراطه في الثورة الفلسطينية عام 1936، فهرب إلى برلين. وقد أسس منير الريس جريدة (بردى) عام 1945. ونشرت ثريا الحافظ مقالاتها المتنوعة الغزيرة فيها، وفي غيرها من الصحف في سورية ومصر، كما ألقت عددًا من الأحاديث الإذاعية في إذاعات البلدين، وحاضرت في منابر عديدة، منها مجمع اللغة العربية في دمشق، فنافت محاضراتها على مئة وخمسين. أما الكتب فقد تركت لنا منها اثنين فقط، أولهما هو المجموعة القصصية "حدث ذات يوم"، التي صدرت عام 1960. وقد صادفتُ نسخة منها عند بائع كتب على الرصيف. وترتبط القصص جميعًا بمناسبة عامة، أو حدث سياسي، أو اجتماعي، وتمتح من حياة الكاتبة، عبر ما صورت من مساهمتها منذ كانت طالبة في مقاومة الاستعمار الفرنسي، كما في قصص (سلاح الإيمان ــ فليسقط واحد من فوق ــ الصديق المجهول). وقد اختارت الكاتبة لنفسها اسم حزام ــ حزامي في القصص، وتقنّعت بالضمير الثالث (الغائب). وتلفح الخطابية أغلب القصص، كما تتلامح السخرية فيها أحيانًا ــ قصة (مؤامرة على فأرة) كمثال.
في عام 1979، صدر الكتاب الثاني "الحافظيات" لثريا الحافظ، وأهدته إلى (المناضلات في سبيل تحرير فلسطين). وتسم السيرية الكتاب عبر ما استذكرت وسردت الكاتبة مما عاشت في حياتها الزاخرة. وقدّم مصطفى الشهابي لكتاب "الحافظيات"، وفي ما قدّم نقرأ: "إنك لتجد نفسك أمام جاذبين، أحدهما غنى الأحداث التي تروى لك، ولعلك واجد نفسك فيها، والآخر صدق وصراحة ما يُروى. ففي حياة ثريا الحافظ معين لا ينضب من الحركة والاندفاع".
رحلت ثريا الحافظ عام 2000 عن تسعة وثمانين عامًا، تركزت في بؤرتها الدمشقية ــ ما عدا سنواتها المصرية ــ وأعني: منزلها. وقد حُقّ لهذه البؤرة/ المنزل أن تحمل لقب (دار الأمة). وكنت قد قرأت أول مرة أن بيت ثريا الحافظ هو (دار الأمة) في جريدة (حمص)، التي كانت أول جريدة في مدينة حمص عام 1909، ثم هاجرت مع المهاجرين إلى البرازيل، حيث خصّت سيدة دار الأمة بما هي أهل له، وقصّرنا عنه من بعد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.