}

لوكيوس أبولوس: التخييل الذاتي والضوء الأسود

نبيل سليمان 30 أغسطس 2024
آراء لوكيوس أبولوس: التخييل الذاتي والضوء الأسود
لوكيوس أبولوس
كانت ترجمة الصديق الراحل الليبي علي فهمي خشيم (1936 – 2011) لرواية لوكيوس أبولوس (تحولات الجحش الذهبي) أول ترجمة قرأتها، وهي عن الترجمة الإنكليزية التي أنجزها الشاعر روبرت غريفر لهذه الرواية عن اللاتينية. بعد سنين ترامت إلى مطلع القرن الحادي والعشرين قرأت ترجمة الجزائري أبو العيد دودو (1934 – 2004) للرواية نفسها، ولكن عن اللاتينية هذه المرة. وعن اللاتينية أيضًا قرأت ترجمة التونسي عمار الجلاصي للرواية الأولى في التاريخ.
بين قراءة الترجمة الأولى التي صدرت عام 1980، والثانية التي صدرت عام 2001، والثالثة التي صدرت عام 2018، كانت الفسحة الزمنية الطويلة، ومعها ما دأبت على إضافته إلى مدونتي الحمارية منذ عقود، تجعلني كأنما أقرأ رواية لوكيوس أبولوس لأول مرة. وقد (تلذذت) بتبدلات العنوان في كل ترجمة، وتعلمت منها أيضًا. فإذا كان خشيم قد اختار (تحولات الجحش الذهبي) فقد اختار دودو (الحمار الذهبي) وجاء على الغلاف أيضًا (أول رواية في تاريخ الإنسانية). وكان محمد غنيمي هلال قد اختار (الحمار الذهبي) عنوانًا أيضًا، ومثله فعل حميد لحميداني. لكن محمد غنيمي هلال ذكر أنه يقال إن أصل رواية أبولوس يوناني مجهول. كما ذكر لحميداني أن أبولوس روماني. أما جلاصي فقد اختار عنوان (الحمار الذهبي)، لكنه أضاف اختيارًا آخر من كلمة واحدة هي (التحولات). ولا يجعلنا كل ذلك ننسى ما كان لوكيوس أبولوس نفسه قد اختاره عنوانًا، وهو: (أحد عشر كتابًا في التحولات). وقد بنى الرواية من أحد عشر فصلًا، وإذا بالفصل كتاب. وخلاصة القول، لو أن الأمر لي لاخترت (تحولات الحمار الذهبي).
من كل قراءة للرواية الأم التي أبدعها هذا الشاعر والموسوعي الذي كتب في الموسيقى والفلسفة والفلك وعلم الأسماك وعلم وظائف الأعضاء... تعلمت جديدًا، و/ أو تعمق ما كنت تعلمته في قراءة سابقة. إنها الرواية الملهمة لميغيل دي ثيربانتس (1547 – 1616) في كتابته (دون كيشوت)، والملهمة لجيفري تشوس في كتابته (حكايات كانتربري)، والملهمة لجيوفاني بوكاتشيو (1313 – 1375) في كتابته (دي كاميرون). وإذا كان لكل رواية أو سردية أو كتاب جاء في مراجع روايتي (تحولات الإنسان الذهبي) أثر ما، فأكبر الأثر كان لرواية لوكيوس أبولوس.





ويلح عليّ أن أسرع إلى القول إن تسمية الكاتب لراوي وبطل روايته، باسمه، قد نزلت عليّ بردًا وسلامًا. فقد كنت في قلق ووحشة جراء تسميتي لراوي وبطل رواية (المسلة) عام 1980، باسمي الأول (نبيل)، وأن يكون الروي بضمير المتكلم. ولم يك في علمي أن كاتبًا ارتكب ذلك قبلي إلا غالب هلسا في روايته (الخماسين) التي صدرت عام 1975. وسوف يتفرد غالب هلسا من بعد بأن يسمّي رواة وأبطال رواياته باسمه، وأن يروي واحدهم بضمير المتكلم.
من المعلوم أن الريادة للتخييل الذاتي مكرسة للفرنسي سيرجي دوبروفسكي. وها هو الحديث العربي عن التخييل الذاتي قد بدأ يتواتر مع قدوم القرن الحادي والعشرين إبداعًا ونقدًا. هل يكفي أن أذكّر بكتابات المغربي عبد القادر الشاوي التي جنّسها بنفسه، ولم ينتظر النقد ليجنّسها، فذيّل عنوان كتابه (من قال أنا – 2006) بـ (تخييل ذاتي)، وكذلك فعل في (التيهاء – 2021) و(مديح التعازي – 2022)؟
في النقد كرست التونسية سلوى السعداوي كتابتها لدعوى التخييل الذاتي في كتابها (الكذب الحقيقي من قال إنني لست أنا – في إشكالية التخييل الذاتي – 2019). ولأن التخييل الذاتي لا يزال (جنسًا) محلومًا به وواعدًا في الكتابة العربية، فحسب المرء أن يؤشر إلى ما فيه من الهجانة بين الرواية والسيرة الذاتية، ومن مروق على التجنيس، وعلى القارّ منه أدبيًا، وإلى ما فيه أيضًا من محورية الذات الساردة بالاسم الصريح، مما ينادي السيرة، وما فيه من حرية التخييل، مما ينادي الرواية. تراها كتابة التداعي والسرد المفتوح؟ ألا يربك مزلق النرجسية هذه الكتابة؟ ألا تهددها الفوضى والافتقار إلى النظام؟
كل ذلك هو مما كابدته في كتابة (تحولات الإنسان الذهبي). وقد مرّ عليّ حينٌ من كتابة الرواية، كنت عازمًا فيه على أن أسجل على غلافها: (تخييل ذاتيّ) بدلًا من (رواية). لكن راوي الرواية وشخصيتها المحورية هو كارم أسعد، المتحول من الحمار إلى الإنسان، على العكس مما كتب لوكيوس أبولوس ومن ساروا على دربه.
لست بكارم أسعد، وإن كان في حياته من حياتي الكثير. فقريته نيبالين هي قريتي البودي التي تستلقي على بطن وسفح تلّة نيبال، كما سمّى الرومان الذين تركوا من آثارهم ما لا يزال قائمًا هناك، على الرغم مما نُهب منها في حمّى نهب الآثار السورية وتهريبها إلى الخارج خلال العقدين الماضيين. وزلفى التي افتتحت حياة كارم العاطفية هي القادمة من روايتي الأولى (ينداح الطوفان – 1970) باسم سعدا، الاسم الذي يؤكد السيرية. لكن أحمد في هذه الرواية مثل كارم أسعد سرعان ما يربك السيرية. وتولاي في رواية (تحولات الإنسان الذهبي) ليست الصديقة التركية تولاي أكقويون التي جمعني بها مهرجان عبد السلام العجيلي للرواية العربية في أكثر من دورة في مدينة الرقة، كما جمعني بها مهرجان الآداب العالمية في منتجع آكياكا التركي، على الرغم من كثير من الوقائع المعاشة والحقيقية في المهرجانين. ومثل ذلك ما يتصل بالصديق السوري التركي بركات كار، سواء في ذينك المهرجانين أم في أنطاكية أم في الطريق من إزمير إلى إنطاكية... وقد تكرر هذا الاشتباك وهذا الافتراق بين الراوي/ الشخصية المحورية، وشخصية أخرى أو أكثر في العديد من رواياتي، لأنني – ببساطة – أفتقد الشجاعة التي يتطلبها التخييل الذاتي الذي لم يكن سيرجي دوبروفسكي أول من حاوله أو أطلقه، بل هو مولانا لوكيوس أبولوس، هذا العبقري الذي لا أكاد أبتعد عنه حتى يباغتني. وآخر ما كان من مباغتاته، حتى كتابة هذه السطور، هو حضوره في الكتاب العلمي الاستثنائي (شيفرة الكون الأساسية: علم اللامرئي في الفيزياء والطب والروحانية) تأليف ماسيمو سيترو، وترجمة إسماعيل زين العابدين.
يبدو ماسيمو سيترو مسحورًا بما يسمّيه (التضاد اللفظي) الذي استخدمه لوكيوس أبولوس في وصف الوجود خارج الزمان والمكان. ومن سحر (تحولات الحمار الذهبي) ينقل هذه السطور التي قرأتها هذه المرة، كأنني لم أقرأها مرة بعد مرة في ترجمة بعد ترجمة لرواية مولانا لوكيوس أبولوس: "أغلقت عيني للتو، ثم برز من وسط البحر وجه إلهي، وتطلعتْ نحوي سيماء فاتنة تهيم بها حتى الآلهة. ورويدًا رويدًا رأيت هيئة متألقة تخرج من البحر: شعر طويل غزير متموج ينساب برقة إلى الأسفل... العنق الإلهي. على الرأس تاج من الأكاليل المجدولة والورود المتنوعة. وسط الوجه الآسر، فوق الحاجب مباشرة، يلمع قرص أبيض متوهج كأنه مرآة أو قمر صغير منمنم. (...) لكن العباءة حول جسمها هي التي بهرت بصري أكثر من أي شيء آخر، لأنها كانت سوداء داكنة ببريق قاتم تمامًا... على الحاشية المطرزة تناثرت نجوم متلألئة، وفي وسطها القمر المكتمل يتأجج بالنار".



هذا الحلم الذي رأى لوسيو فيه إيزيس، يكتب ماسيمو سيترو أن إيزيس التي أنقذت لوسيو وأعادته بشرًا هي الإلهة الأم الراعية للكائنات الحية وللأشياء، ولها العباءة الإلهية المطرزة بالنجوم التي تلمع بوهج أسود. وتأسيسًا على رواية لوكيوس أبولوس يقول ماسيمو سيترو إن للضوء الأسود نكهة النشأة الأولى، والأم الإلهية سوداء تتألق باللون الأسود. ولا يمكن لأحد أن يتحمل هذا المنظر لأن الضوء أسود. وهو أسود لأنه لا مرئي، واللون الحقيقي للضوء هو الأسود.
لم يكن مولانا لوكيوس أبولوس إذًا أول من أبدع التخييل الذاتي، فقط، بل هو من أبدع بخياله الأدبي الفني والعلمي العباءة الإلهية التي سيأتي في القرن الحادي والعشرين من يقول إنها المادة الغامضة التي لا تدركها الحواس، وإنها بحر من الطاقة، لم ينشأ من الانفجار الأعظم، ولا يختفي. هذا العالم هو ماسيمو سيترو الذي يتابع في كتابه الأهم (شيفرة الكون الأساسية) أن الضوء الأسود نقي وقوي، ففي توهجه الداكن تكمن جواهر الأشياء: المعلومات والشيفرات. إنها عباءة الإلهة المضيئة المظلمة التي أبدعها مولانا لوكيوس أبولوس في رواية التخييل الذاتي الأولى.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.