}

من أحاديث اللحى

نبيل سليمان 15 أغسطس 2024
آراء من أحاديث اللحى
(Getty)

 

ما أكثر ما سوّلت لي الأمارة بالسوء بأن أكتب عن اللحى، فخيّبتها. وربما كان أول ذلك في عهد الصبا، حين راجت موديلات اللحية الغيفارية والتروتسكية واللينينية والكاستروية، نسبة إلى غيفارا وتروتسكي ولينين وكاسترو. ومن ذلك أيضًا ما كان في عهد الدراسة الجامعية في قسم الأدب العربي من كلية الآداب في جامعة دمشق، حين أسرني كتاب (المستطرف من كل فنٍ مستظرف) للأبشيهي. وما لا أنساه ما فاجأني منه: "عظم اللحية يدل على البَلَه، وعرضها على قلة العقل". ومن هذا الكنز أو من سواه أذكر قول الجاحظ: "ما طالت لحية رجل إلا تكوسج عقله"، أي خفّ عقله وتبلّد، والكوسج قليل شعر اللحية. أما ديوان ابن الرومي فقصته قصة، كما يقال. وقد كان ما قرأت من أهجياته للّحى، هو ما دفعني إلى اقتناء الديوان حين بات ذلك ممكنًا. وكانت طبعة الديوان قديمة، وهي من اختيار كامل كيلاني. وقد قدم لها عباس محمود العقاد. ويتصل بذلك، بعد سنوات، أنني اقتنيت كتاب عباس محمود العقاد (ابن الرومي: حياته من شعره). وكان الكتاب قد صدر عام 1931.

لم أقع في غواية اللحى الثورية اليسارية الماركسية، ولا في غواية اللحى الدينية. ومن العُقد النفسية (الكثيرة) التي سكنتني، ما أورثتني الخدمة العسكرية الإلزامية عام (1973) من الحلاقة اليومية للذقن، والتلميع اليومي للبوط. فبحسب الأوامر المنزّلة تنزيلًا يجب أن يكون البوط مثل المرآة، تنعكس فيه الذقن الحليقة التي كان الضابط يمرّر أصابعه عليها، والويل لصاحب الذقن التي تقلّ نعومتها في صعود الأصابع عنها في النزول.

خلال نصف قرن مضى تعرّجت الدروب بأصحاب اللحى. فمنهم من اتخذها علامة على الموقف المتدين أو على التحزّب الإخواني، أو على الأقل: مناصرة الإخوان المسلمين. وبعد أن لم تعد اللحية علامة على تحزّب يساري أو مناصرة يسارية باتت واحدة من علامات الشباب السوري المنخرط في ثورة/ زلزال 2011، ولكن في إهاب الأسلمة. ولعل أحدًا لا يزال يذكر من عام 2012 الدويّ الإعلامي الذي فجّرته دعوة الشاعر فرج بيرقدار إلى الملازم أول عبد الرزاق طلاس الذي انشق عن الجيش وأرخى ذقنه، فدعاه الشاعر إلى حلاقتها أو جعلها غيفارية، إبعادًا لشعارية الأسلمة، فانصب على الشاعر غضب عظيم. وكانت رواية (حذاء فيلليني) للكاتب المصري وحيد الطويلة قد صورت زوجة الضابط تروي أنه أقام سجنًا لحسابه (قطاع خاص!) كما في حكاية تصلح لفيلم في خيال فنان مجنون، حيث المرشحون لأدوار البطولة كل أفراد الشعب. فكل من لا يثبت ولاءه بالتأييد للسلطة حتى الموت، هي ذي التهم جاهزة: "الزندقة، الشراذم، وإضعاف الشعور القومي، الوهن من نفسية الأمة، اللحى التي نبتت في الذقون، الذين نبتت لهم لحية ولو كانت في المؤخرة، منذ مجزرة حماة صارت الهاجس الأول للدولة كلها، اختفت من الوجوه كأن الوجوه عقمت، ولم تظهر إلا على وجوه الممثلين في المسلسلات والأفلام، ولم ينبت ذقن لواحد إلا إذا كان قد استطال سرًا في قبره. لم تكن اللحى وحدها، بل كل الوجوه. أتذكر الآن ما رأيته في صحيفة منسوبًا إلى فنان مشهور زار مدينتنا وقال قولة ثم وأدها في حينها: ما كل هذا الذل على وجوه الناسّ! تمّ منعه سرًا من العودة، ولا بد أنهم دبروا محاولة لاغتياله حيث يقيم".

ثمّة من كانت اللحية له علامة على كهولة أو شيخوخة، أو على شبابية عصرية: لا ننسَ اللحية موديل فيرساتشي، ابنة الأيام الثلاثة. وعلى ذكر هذا الموديل، بات بين ظهرانينا في بلاد العرب والمسلمين من يفضّل أن يكون مشط لحيته موديل توم فورد – 50 دولار تقريبًا – أو من يستخدم بلو دو شانيل بعد حلاقة الذقن، أو للحيته إذا كان ملتحيًا. ومن الملتحين من يفضل لتشذيب لحيته مجموعة جيباس: ماكينة ورأس ماكينة وأداة التشذيب وفرشاة تنظيف وأربعة أمشاط وشاحن و... وماذا أيضًا؟

تختلط أوراق (اللحية) في أيامنا أيّما اختلاط. ففي الجيش صرتَ ترى لحية قصيرة أو ذقنًا طويلة. وكانت الجزائر ومصر وغيرهما قد عرفتا حظر اللحية في الجيش منعًا للأسلمة. وها هي بريطانيا قد سمحت بإطلاق اللحى في الجيش بعد مائة سنة من منعها. وإذا كان يغلب أن ترى للشباب في الجامعات أو الشوارع أو المقاهي في الداخل السوري ذقونًا/ لحى يتراوح طولها بين ميلليمتر أو ضعفه أو أضعافه، فاللحى الطويلة قاسم مشترك أعظم بين الميليشيات والفصائل المسلحة في سورية والعراق ولبنان على اختلافها.

لم تعد اللحية علامة على تحزّب يساري أو مناصرة يسارية، باتت واحدة من علامات الشباب السوري المنخرط في ثورة/ زلزال 2011، ولكن في إهاب الأسلمة (Getty)


على مستوى آخر، سجلتُ أثناء الإعداد لهذه المقالة، ما أسعفتني به الذاكرة من لحى الأدباء، وعلى رأسهم مولانا نجيب محفوظ الذي ظل حليق الذقن دهرًا. وبين الكتّاب من أطلق اللحية كبيرًا مثل إدوارد سعيد وخيري الذهبي وأمير تاج السر. وتلك هي لحى حيدر حيدر وهاني الراهب وعلي الجندي وعادل محمود ونواف يونس وفايز خضور وسعيد بنكراد وطارق الطيب وصبحي حديدي وخالد خليفة وإبراهيم الجرادي ويوسف الخال وفاروق مردم بك وثائر ديب وتميم البرغوثي وصالح الدريدي وأمين الزاوي وإبراهيم الجبين ومحمد الحاج صالح ورؤوف مسعد وفادي عزام وفارس الذهبي وخضر الأغا وإبراهيم الهاشمي وهشام أصلان ويعرب عيسى والطاهر بن جلون وعبد العزيز بركة ساكن وباسم خندقجي وفهد هندال وعلي أبو الريش... ومن المخرجين أذكر محمد ملص وعلاء الدين كوكش، ومن الفنانين التشكيليين أذكر عدلي رزق الله ومصطفى الحلاج الذي كانت ابنتي إيناس تناديه في طفولتها (أبو شوكة) بينما يجلسها في حضنه ويترك لها أن تعبث بذقنه الطويلة الشعثاء.

من اللحى التي لا أنسى، وقد كنت بها معجبًا، ما كان للدكتور شكري فيصل وللشيخ صبحي الصالح من أساتذتي في الجامعة (1963 – 1967). ومن اللافت أن لحى أغلب من ذكرت هي من قبيل ما اشتهر بالسكسوكة أو العثنون، وهي اللحية الصغيرة أسفل الذقن، وفيها قال طرفة بن العبد في معلقته: "صهابيّة العثنون مُوجَدة القرا/ بعيدة وخد الرجل موّارة اليد"، وقال أيضًا الصاحب بن عباد: "يا يوسف إن العثانين آفة/ على حامليها فاتّخذْ لحيةً قصدا".

إذا كانت لحى الممثلين تتوقف على أدوارهم، فإلى ذلك، تروج بينهم اللحى الموسمية، ومثلهم رهط من الأدباء والمثقفين. وقد كانت اللحية المهيبة حاضرة لدى الفلاسفة والقضاة والمحامين. أما الرؤساء فالملتحون منهم نزر، على العكس من الملوك والأمراء والسلاطين. وفي سورية لا أذكر إلا أول رئيس: محمد علي العابد، والرئيس الأسبق هاشم الأتاسي، والرئيس الأسبق أيضًا الشيخ تاج الدين الحسني.

من تاريخ اللحى أذكر فرض حلق اللحية في إسبارطة على من يفر من المعركة، وكذلك معاقبة الهنود لعتاة المجرمين بحلق لحاهم، وحلاقة الفرس لشعور أسراهم. وقد تفنّن أجدادنا الميامين بتعطير اللحى وتبخيرها وتلوينها بالحناء. وكانت مهنة اللحّاء مستقلة عن مهنة الحلاق.

وفي تراثنا اللغوي الثري الكثير المنسيّ المتعلق باللحى، ومنه أن توصف اللحية الكثيفة الغزيرة بالكثّة، وقد تكثّ اللحية كثاثة وكثوثة. وهذا شاعر يقول: "وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية/ كأنك منها قاعد في جوالقِ". والجولق هو كيس كبير من الصوف أو من الشعر، توضع فيه الحبوب. أما اللحية الخفيفة فلها اسم عجيب هو: السنوط أو السناط. ومن كانت ذقنه كذلك هو الرجل الثط، والجمع رجال ثطاط، وندرة الشعر في الوجه هي: ثطط.

بالعودة إلى ابن الرومي، يحار المرء فيما جعله أكثر وألذع من هجا اللحية. ومن كثيره قوله: "لله لحية حائلٍ أبصرتها/ ما أبصرت عيناي في مقدارها/ إني لأحسب أن من أشعارها/ هذا الأثاث معًا ومن أوبارها". وقال: "ولحيةٍ ذات أوصاف وأوبار/ منها يحاك أثاث البيت والدار/ منها متاع إلى حين لصاحبها/ وللعيال وللإخوان والجار". وقال أيضًا: "إذا عظمت للفتى لحية/ وطالت وجازت إلى سرّته/ فنقصان عقل الفتى عندنا/ بمقدار ما طال من لحيته". وقال: "ولحيةٍ يحملها مائق/ شبه الشراعين إذا أُشرعا". والمائق: الأحمق. ولابن الرومي أخيرًا: "إنْ تطلْ لحية عليك وتعرض/ فالمخالي معروفة للحمير". وإذا كان في هجاء ابن الرومي وفرة مما هو من ضعيف شعره، فمثله قول البهاء زهير: "وأحمقٍ ذي لحيةٍ كبيرة منتشرة/ تبًا لها من لحيةٍ كبيرة محتقرة/ كم قريةٍ للنمل في/ حافاتها ومقبرة/ قد نبتت في وجهه/ فوق عظام نخرة/ قد تركت صاحبها/ منها بحالٍ منكرة".

يروي ابن البحتري – وهو أبو الغوث يحيى بن أبي عبادة، وكان شاعرًا مقلًا – أن أول ما قال والده من الشعر كان حين عاد من سفر إلى بلده منبج في الشمال السوري، فوجد أن لحية محبوبه الغلام شُقران قد نبتت، فقال: "نبتت لحية شُقران/ شقيق النفس من بعدي/ حلقت! كيف أتته/ قبل أن ينجز وعدي". وكان ابن الرومي قد هجا البحتري بقوله: "البحتري ذَنَوبُ الوجه نعرفه/ وما رأينا ذنوب الوجه ذا أدب/ أنى يقول من الأقوال أثقبها/ من راح يحمل وجهًا سابغ الذنب/ أولى بمن عظمت في الناس لحيته/ من نحلة الشعر أن يدعى أبا العجب"، وذنوب الوجه: ملتحٍ. والبحتري هو من قال: "يا قتيلًا للحية السوداء/ آفة المرد في خروج اللحاء". ولمن يستزيد يجد المزيد في كتاب (هجاء اللحى في الشعر العباسي) لثائر سمير حسن الشمري (العراق) حيث تتدافع أشعار من سبق ذكرهم، والسري الرفاء وابن المعتز والصنوبري وابن طباطبا وأبو هلال العسكري ودِعبل بن علي الخزاعي والخباز البلدي وآخرون كثر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.