}

القصة التراجيدية لمكتبة عاصمة الدولة الجزائرية الحديثة

فائزة مصطفى 5 مايو 2024
استعادات القصة التراجيدية لمكتبة عاصمة الدولة الجزائرية الحديثة
الأمير عبد القادر الجزائري ودوق دومال
تعدُّ قلعة شانتييه شمال باريس بمثابة متحف صغير عن تاريخ الجزائر، لما تملكه من مقتنيات أثرية وأسلحة وهدايا وتحف ولوحات، لكن أهم كنز تحتويه القلعة هي مكتبة الأمير عبد القادر (1808 ــ 1883)، والتي نهبها الجنرال الفرنسي دوق دومال (1822 ــ 1897) بعد سقوط أول عاصمة متنقلة في التاريخ، ثم نقل مخطوطاتها إلى قصره في أورليون وسط فرنسا بعد عزله عن منصبه كحاكم عام للمستعمرة الأفريقية، لترافقه الكتب في منافيه، وإلى غاية آخر يوم من حياته، تشهد على مدى إعجاب آخر أبناء الملك لوي فيليب بقائد أطول وأشرس مقاومة شعبية ضد الاحتلال الفرنسي.

قلعة شانتييه أو قصر دوق دومال 

ما يُعرض في قسم المكتبات في القلعة الفرنسية هو جزء قليل من مكتبة الأمير عبد القادر التي رغب في تدشينها في عاصمته السياسية والدينية بمدينة تاقدمت بتيارت، العاصمة الثانية بعد مدينة معسكر بالغرب الجزائري، قبل أن تسقط في 25 مايو/ أيار عام 1841 أثناء حملة الجنرال توماس روبير بيجو، حيث نقل قائد المقاومة ما نجا من المخطوطات إلى عاصمته المتنقلة "الزمالة". وأثناء غيابه لمراقبة جيش الجنرال لامورسيار، على بعد مئة كيلومتر من منطقة طاقين، قصر الشلالة، في أعالي شلف، عثر الجنود الفرنسيون بفضل وشاية من عميل يدعى عمار بن فرحات على هذه المدينة الفريدة من نوعها، لتسقط على أيدي 1300 جندي و600 فارس فقط في 16 مايو/ أيار عام 1843. جسد الرسام هوراس فارني مشهد الاستيلاء على الزمالة في عمل فني ضخم، تلبية لطلب الملك لوي فيليب من أجل تخليد انتصار ابنه. تُعرض اللوحة العملاقة حاليًا في قصر فرساي في باريس.
يتحدث الملازم شارل دوبارال عن قائد فرنسي يدعى يوسف، واسمه الحقيقي جوزيف فونتيني، عُين بعد تحريره من القراصنة الأتراك في تونس حاكمًا على منطقة قسنطينة في المستعمرة الفرنسية بين العامين 1836 و1837، يقول هذا الملازم: "تكفل يوسف بجمع غنائم النصر، من المقتنيات الأكثر أهمية وفضولية التي وقعت في يد الصبايحية ــ الجزائريون المتعاونون مع الاحتلال ــ أهداهم إلى الأمير دوق دومال، والذي تلقى أيضًا بكل فخر أسلحة حصل عليها عبد القادر بموجب معاهدة تافنة". من بين الغنائم: أعلام أو رايات، شارات، أسلحة وذخائر، إضافة إلى خيمة الأمير الشخصية وهي محفوظة في قلعة شانتييه. وعن يوم سقوط عاصمة الدولة الحديثة يتحدث دومال وفق ما جاء في كتاب "دوق دومال، أمير، قائد حرب وكفيل" الصادر في عام 2013: "قال الآغا، الذي سيُعد من الآن فصاعدًا من بين أغنى الأغنياء، لقد ترك الناس خيامهم، بالإضافة إلى المبالغ الكبيرة من المال، ما زلنا نأخذ جميع البرانيس الحمراء التي يستخدمها الآغوات والقياد، الغندورة توجه للقضاة، وعدد كبير من الأسلحة، والملابس، والمخطوطات الثمينة، حلي...، لقد قام عربُنا بسبي الخدم الأفارقة، والآلاف من الأحمرة، ومئات الجمال والأحصنة... إلخ، للأسف كان عددنا قليلًا ومرهقًا، ما جعل من المستحيل أن نفرض النظام مثلما أردت، لم أستطع الاحتفاظ للدولة إلا ببعض براميل البارود، وقطعان كبيرة".
شغف الجنرال الفرنسي بالمخطوطات، والشرق عمومًا، بدأ خاصة في عام 1840، عندما عثر جنوده على ملفوفة التوراة في معبد يهودي مهجور في منطقة المدية وسط الجزائر، وبموجب ذلك قدموا له ما وجدوه داخل خيمة محمد الخروبي، سكرتير ومستشار الأمير، من مخطوطات وفق ما قاله دومال. بعد أربعة أعوام، تحديدًا في 23 ديسمبر/ كانون الأول عام 1847، استسلم الأمير، ثم التقى دوق دومال في منطقة الغزوات قرب تلمسان، بعد أن أصبح هذا الأخير حاكمًا عامًا جديدًا للجزائر، وعاهده على تلبية طلب نفيه إلى بلاد الإسلام، لكن ثورة فبراير/ شباط عام 1848 في فرنسا حالت دون الوفاء بالعهد، وسُجن بعدها الأمير عبد القادر لخمس سنوات مع حاشيته في قلعة الأمبواز الفرنسية.

هل تحدث القائدان عن المكتبة خلال لقائهما وجهًا لوجه في مدينة الغزوات؟
جاء في كتاب هامس بعنوان "عبد القادر والجزائر في القرن التاسع عشر"، الموجود ضمن مجموعة متحف كوندي، أو قلعة شانتييه، أن صاحب كتاب "المواقف" تحدث عن كتبه فقال: "لقد وضعت تشريعًا، وأعطيت تعليمات، في كل المدن ولكل القبائل، على أن نسهر على الحفاظ على المخطوطات، وكل شخص متهم بتلطيخ، أو تمزيق كتاب، يعاقب بشدة، جنودي تعودوا على جلب ما يستولون عليه من المخطوطات خلال المعارك إليَّ، ولتحفيز حماسهم أمنحهم مكافأة، أضع تلك الكتب في مرائب المساجد والزوايا، بين أيدي من أثق فيهم من علماء الدين، وكان اهتمامي أن أؤسس مكتبة كبيرة في تقادمت، لكن الله لم يمنحني الوقت.

مخطوط من مكتبة الأمير عبد القادر 

"الكتب وضعتها في الزمالة التي استولى عليها ابن الملك، ما أضاف ألمًا إلى آلامي خلال توجهي إلى المدية، هو رؤية أثار الأوراق الممزقة مبعثرة في الطريق، تلك الكتب كلفتني كثيرًا من المتاعب لجمعها".
وفي فبراير/ شباط عام 1848، طلب الأمير عبد القادر من الحاكم العام للجزائر أن يرسل إليه كتبًا نسيها داخل صندوق في مدينة الغزوات، وهذا ما قام به في 29 من الشهر نفسه، قبل ثلاثة أيام من مغادرته البلاد. وحسب قائمة الكتب المحفوظة في الأرشيف الوطني ما وراء البحار، هناك مخطوطات مختلفة عن تلك التي توجد في قلعة شانتييه، فهنالك من تتناول مواضيع صوفية وفلسفية، مثل كتب عبد الحق ابن سبعين الأندلسي، صاحب رسالة "المسائل الصقلية" في القرن الثالث عشر ميلادي، وأحمد بن عطا الله الإسكندري، صاحب الطريقة الشاذلية في القرن الثالث عشر، والمؤرخ والفيلسوف المصري عبد الوهاب ابن أحمد الشعراني، القرن الخامس عشر، عن الطريقة الشعرانية، حيث كان الأمير مهتمًا بعلمهم ومدارسهم الدينية.




ووفق ما جاء في رسالة كتبها دوق دومال إلى الجنرال كافينياك في الجزائر العاصمة في 29 فبراير/ شباط عام 1848، وفي كتاب "السلم والحرب، عبد القادر وفرنسا"، للمؤرخ أحمد بويردان الصادر عام 2017، فإن هنالك مصحفين شريفين أهداهما الأمير إلى مترجمه الفرنسي ليون روش، خلال 1837 إلى 1839. ليمنحهما هذا الأخير لدومال، أحدهما سرق من مكتبه في باريس، والأخر أهداه إلى أستاذه وسكرتيره كوفيلييه فلوري، الذي رافقه إلى الجزائر في 1840. وحسب روش، فإن هذه النسخة من القرآن قدمها الشيخ محي الدين لابنه خلال تأديتهما مناسك الحج عام 1827.
يقول دومال في مراسلاته المطبوعة في منشورات بلون عام 1910: إن هذا المصحف حصل عليه السياسي والدبلوماسي والمؤرخ غابرييل هوناتو. قبل أن يوضع لاحقًا في المكتبة الوطنية الفرنسية عام 1992.

الرحلة الطويلة للمخطوطات من تيارت الجزائرية إلى أورليون الفرنسية
بعد الإطاحة بأبيه الملك، نفي دومال إلى لندن حاملًا معه كل ما جلبه من الجزائر، على غرار وثائق تبين تعلمه للغة العربية على يد الصحافي والمترجم إسماعيل ثوما أوربان. ثم عاد إلى مقر إقامته بمنطقة أورليون الفرنسية بعد سقوط الإمبراطورية الثانية، 1870، وهناك خصص جناحًا للمكتبة، ومتحفًا للثقافة الجزائرية. ثم خلال نفيه مجددًا عام 1886، وضعَ المخطوطات في خزانة الأرشيف بعدما قام بترميمها وإخضاعها للدراسة. وعقب عودته من المنفى بعد ثلاثة أعوام كلف أوكتاف هوداس، المتخصص في الكتابة العربية لغرب أفريقيا، بتحضير كاتالوغ خاص بكتب الأمير عبد القادر، وضع في قسم الرسائل والتاريخ قرب الأرشيف العسكري الأكثر قيمة بالنسبة لمتحف كوندي، أو شانتييه. كما أوصى خلال منح مجموعته وميراثه لمعهد فرنسا ألا تتم إعارة تلك الكتب أبدًا. وفي انتظار تدشين مكتبة افتراضية مهداة للأمير الجزائري، تم عرض مكتبة الزمالة بمناسبة المئوية الثانية لميلاد الأمير الفرنسي في معرض بعنوان "مخطوطات تاقدمت" في عام 2022.

كنوز الدولة الجزائرية الحديثة التي لا يمكن استعادتها أو إعارتها
يوجد 38 مخطوطًا عربيًا مكتوبًا بالخط المغاربي بحبر ملون ومذهب، ومغلفًا بالجلد ومشدودًا بالروابط، تعبر مضامين تلك الكتب عن مدى الاهتمام بالفلسفة والفلاسفة والعلماء من القرنين الخامس عشر إلى التاسع عشر الميلادي، إلى جانب أخرى مرتبطة بالنحو، وعلم اللاهوت، الفلك، الشريعة، القانون، المعاملات القضائية، المعاملات، الحساب، علوم الفرائض، الفقه، التصوف، الأوردة، الأذكار، ما يدل على أن  الجانب الروحي أخذ حيزًا كبيرًا في حياة الأمير نظرًا لنشأته وسط عائلة مرتبطة بالزاوية القادرية، إذ احتفظ في عاصمته المتنقلة بكتابين في هذا المجال: "دلائل الخيرات" للمتصوف المغربي سليمان الجازولي (1465م)، يتضمن صلوات على النبي كان يرددها المؤمنون في كل مناسبة، والثاني كتاب يحتوي على أربعين نصًا للصلوات مرتبط بالطريقة الشاذلية التي كانت منتشرة في تلك الفترة. وإلى جانب المجلدات، هنالك ما يشبه ملفًا أو سجلًا موثقًا يحمل ملاحظات حول التنظيم الإداري الذي وضعه مؤسس الدولة بدءًا من عام 1836، وكتاب حساب يسجل الإمدادات لفرقه العسكرية. توجد في المكتبة النادرة أربع وثائق استثنائية تخص علم الأنساب، إذ يمنح الانتماء إلى السلالة النبوية في تلك الفترة، وإلى غاية اليوم، مكانة رفيعة، تعفي صاحبها من دفع الضرائب، ولديها أيضًا ارتباط بالميراث، وكان قضاة تلك الدولة مهتمين بإصدار هذه الوثائق لتوثيق الشجرة الجينية للأفراد، أو القبيلة، وتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية.

لوحة عملاقة للفنان الفرنسي هوراس فارني تجسد سقوط الزمالة، عاصمة الأمير عبد القادر، على يد دوق دومال في 16 مايو/ أيار 1843





تتضمن المكتبة وثيقة تضم شهادتين صادرتين في تلمسان وضواحيها، مؤرخة في مارس/ آذار 1668، محفوظة بجانب رخصة نقل المعرفة، أو ما يعرف بإجازة، أما الوثيقة الأكثر إثارة للإعجاب فهي ملفوفة بطول خمسة أمتار، مكتوبة بخط مغاربي، ومزينة بالألوان والرسومات.

اكتشاف أسرار مخفية بين طيات كتب الأمير عبد القادر
خلال معاينة الكتب في عام 2020، عثر الباحثون على رقائق ورسائل ووثائق بين الكتب، أو مدسوسة داخل الأغلفة، هي: مراسلات، عقود موثقة من قضاة، وهنالك رسالتان تذكر بالدولة التي أسسها الأمير، واحدة موجهة إلى خليفة الأمير في مليانة، محمد بن علال، توفي في المعارك عام 1843، والثانية مؤرخة في عام 1840 موجهة إلى علي خزندار، وهو اسم يتكرر في وثائق عدة، إلى جانب مجلد يتضمن أكثر من 49 وثيقة مخبأة بين الأوراق، ومخطوط اندس داخله 80 عقدًا يتعلق بالبيع، الزواج، ميراث، مراسلات، وأيضًا الحاجات اليومية للفرق العسكرية لجيش المقاومة. ويقول الباحث إسماعيل ورشيد إن هذه الظاهرة رُصدت في مكتبات مغاربية وأفريقية عدة. كما يرى أن مكتبة الزمالة تعبر عن مناحي الحياة الثقافية للجزائر ما قبل الاستعمار، ووصولها إلى أوروبا يذكر بمخطوطات أفريقية أخرى نهبتها الجيوش الفرنسية في القرنين الماضيين.
احتفاظ الأمير الفرنسي وعنايته بهذه المخطوطات يعبران عن مدى شغفه وتأثره بالقائد الجزائري، إذ اقتنى قبل وفاته بشهر، أي في أبريل/ نيسان 1897، لوحة للفنان البولوني ستانيسلاس شلوبووسكي تجسد القائد والمقاوم الجزائري الشهير كمفكر، وزاهد في منفاه الدمشقي. كما يلتقي الرجلان في أكثر من مصير، فكلاهما سليل أسرة عريقة في العلم والنسب والجاه. يتقاطعان في السياسة والحرب، وحب الكتب والانفتاح على الآخر، كما عرفا المجد والانتصار، والهزيمة والمنفى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.