}

أدب نهاية العالم: هل يكرّر الإنسان الأخطاء ذاتها؟

مناهل السهوي 25 يونيو 2024

قد نتخيل موت كلّ البشر في أدب نهاية العالم، لكن غالبًا يبقى من يروي هذه النهاية، فهي ليست نهاية للبشرية بل لشكل الحياة والحضارة التي نعرفها، نهاية التقنيات والتكنولوجيا والعودة إلى الصراع الأول للبقاء. تأتي هذه النهاية على أشكال مختلفة لعل أشهرها الحرب النووية أو وباء فتاك أو ظهور الزومبي (الأحياء الأموات)، ولأن كلّ يوم على الأرض يدفعنا لإدراك أن البشر يسيرون بخطى ثابتة نحو نهاية هذا الكوكب تعددت أشكال معالجة هذه النهاية في الروايات والشعر والأفلام وغيرها من الفنون.

أدب نهاية العالم ما قبل الحربين العالميتين

ساهمت الأفلام السينمائية والمسلسلات المقتبسة من كتب تدور أحداثها عن نهاية العالم، في زيادة الاهتمام بهذا النوع من الأدب بشكل كبير.

ويعود أدب نهاية العالم إلى عصور قديمة، تحدث الكتاب المقدس مثلًا عن يوم القيامة ونهاية العالم الذي نعرفه، ويقول القديس بطرس الرسول عن نهاية العالم: "سيأتي كلص في الليل، يوم الرب. الذي فيه تزول السماوات بضجيج، وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها" (رسالة بطرس الرسول الثانية، 3: 10).

كما تحدثت الأساطير القديمة عن هذه النهاية كشعب المايا فتَوقّع قُدماء المايا وفق تخطيط النجوم أنّه في الواحد والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر من عام 2012 ستكون نهاية العالم.

بشكل عام وحتى الحرب العالمية الأولى ثم الثانية نلاحظ أن معظم نصوص أدب النهاية تميل لتكون وعظية وأخلاقية بهدف حثّ البشر على التوبة.

بعد الحربين العالميتين ازدهر هذا الأدب وتنوعت أشكاله، ثم ساهمت التكنولوجيا والتغيرات المناخية والعلمية في إضافة أشكال ومعان جديدة لهذه النهاية التي باتت تغدو غالبًا عبثية ونتيجةً لتهور الإنسان وطمعه وأنانيته لا لبث الرعب في نفسه وحثه على التوبة كما في السابق.

رغم ازدهار أدب نهاية العالم بعد الحربين العالميتين إلا أنه وقبلهما هناك رواية تستحق الحديث عنها، إنها رواية الإنكليزية ماري تشيلي "الرجل الأخير" (1826). في هذه الرواية المأساوية تجد البطلة داخل كهف العرافة نبوءات قديمة وبعد ترجمة هذه الوثائق تكتشف قصة ليونيل فيرني، آخر رجل على وجه الأرض، بعد فناء البشرية، يبقى ليونيل وحيدًا ويكتب مذكراته.

اعتبرت رواية تشيلي كرد على الحركة الرومانسية إذ تفشل مُثُل الشخصيات وعواطفها في إنقاذهم من هلاكهم الوشيك.

ماذا لو قررت الطبيعة القضاء علينا؟

تميل روايات نهاية العالم اليوم إلى إظهار نزعة الخير والشر في الإنسان والتي تساهم الظروف الاستثنائية التي يعيشها في إظهارها أو حتى تبدلها.

في رواية "الموقف" لستيفن كينغ يهرب مريض من مختبر حاملًا معه فيروس سيقضي على 90 بالمئة من البشر، وينقسم الناجون إلى مجموعتين ويبدأون في بناء مجتمعين جديدين. يخبرنا أدب نهاية العالم أن البشر مستعدون دومًا للانقسام حتى في نهاية العالم.

في رواية "يوم التريفيد" الساحرة (1951) يروي البريطاني جون ويندهام قوة الطبيعة والضعف البشري، والصراع بينهما. يظهر ضوء قوي في السماء ويخرج البشر لمشاهدته، في اليوم التالي يصاب كل من شاهد الضوء بالعمى ولا يتمكن من الإبصار سوى قلّة لم تنظر إلى الشمس، أما ثلاثية الأرجل فهي نباتات سامة ولاحمة وقادرة على الحركة، طورها البشر في المختبرات، وبعد حادثة الضوء والعمى الجماعي تبدأ هذه الكائنات في استغلال البشر والسيطرة عليهم.

تعتبر "يوم التريفيد" من أهم الروايات حول نهاية العالم، إذ أثرت في أدب الخيال العلمي ونهاية العالم لاحقًا. تطرح أسئلة صادمة عن معنى الحياة واحتمالات البقاء وأشكال هذا البقاء فحتى الناس الذين أصيبوا بالعمى بحثوا عن طريقة للبقاء ومواجهة النباتات آكلة اللحوم! لكن الأهم أنها رواية تذكرنا بغضب الطبيعة وبأن المواجهة معها ستكون قاسية ورغم ذلك يستمر البشر في استهلاك كوكب الأرض وتدميره.

تنوعت طرق نهاية العالم في الروايات، مثلًا وصف مايكل كريشتون في روايته "مجرة المرأة المسلسلة" (1969) مسار قمر صناعي يعود إلى الأرض حاملًا مرضًا مميتًا.

من جهة أخرى يثير أدب نهاية العالم أسئلة مفصلية أمام البشر، وهي أصلًا أسئلة موجودة حول طبيعة وجودهم وموتهم، أسئلة مستفزة عن الاضمحلال وإعادة بناء الحياة والمواجهة مع المصير وحتى السلطة السياسية، إذ أن السلطة السياسية في أدب نهاية العالم تتحول وتتماهى مع متطلبات النهاية لكنها لا تحيد عن جوهرها السلطوي والمتحكم بالأقدار انطلاقًا من مبادئ الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يمثلون الحل والخلاص.

الشعر إذ ما يدخل نهاية العالم

للشعر رأي آخر في نهاية العالم، انطلق من جوهره وشاعريته، وتماهى مع كينونته الخاصة لخلق نهاية شعرية ربما أو على طريقة الشعر إن صح التعبير. في بريطانيا في منتصف القرن العشرين، ظهرت حركة أدبية ركزت وتمحورت حول نهاية العالم، سمّى أعضاؤها أنفسهم "شعراء نهاية العالم" ولكن الحركة انتهت سريعة وبقي العالم للسخرية! ظهرت هذه الحركة بإلهام من السريالية، وكانت قصائدهم كابوسية مليئة بالفوضى والموت والحرب.

شعريًا يمكن الحديث عن قصائد محدّدة حول موضوع نهاية العالم، لعل أشهرها قصيدة "المجيء الثاني" للأيرلندي - البريطاني وليام بتلر ييتس، قصيدة تصلُحُ لكلّ زمان ومكان، رغم أنها كُتِبت سنة 1919 في وقت انتهت فيه الحرب العالمية الأولى إلا أن الصراعات والحرب الثانية كانت خلف الأبواب بالفعل وهو ما ترك أثرًا على طريقة كتابة ييتس الذي اختار جملًا واستعارات شعرية تصلح لأي مكان أو زمان.

"إذ يلتف الصقر ويلتف بدولاب الأكوان/ بحركات متباعدة في الدوران، لا يقدر أن يسمع صقاره/ تتداعى الأشياء، والمركز لا يقدر أن يمسك بزمام الأجزاء".

تتنبأ القصيدة بأن مجيء المسيح الثاني وشيك، وأن الفوضى التي نشأت في جميع أنحاء العالم هي علامة على أن المجيء الثاني لا يمكن أن يكون بعيدًا. إن استعارة "الدوامة" التي يستخدمها ييتس في القصيدة هي إشارة إلى اعتقاده الغامض بأن التاريخ يعيد نفسه في دورات.

"فوضى صرفة تنفلت على العالم/ ينفلت المدّ الدموي، وفي كل الأنحاء/ يغرق طهر الإنسان/ فأخيار الناس يعوزهم الإيمان/ وأراذلهم يتملكهم شغف الأهواء/ ثمة وحي بالتأكيد وشيك".

لا شكّ في أن الشعراء يذهبون إلى شكل آخر من نهاية العام، ويأتي هذا بتأثير من شكل القصيدة ومتطلباتها الشعورية واللغوية والغيبية الخاصة بالشاعر النبي.

في قصيدة "النار والجليد" لروبرت فروست، وهو واحد من أبرز الشعراء الأميركيين في القرن العشرين (1874-1963)، يقول إنه سمع بعض الناس يقولون إن العالم سينتهي بالنار، بينما يعتقد آخرون أنه سينتهي بالجليد. بحسب فروست، احتمال النار مقنع أكثر، وتأتي وجهة نظره هذه من تجاربه مع الرغبة والتي ترتبط بالنار والحرارة غالبًا، لكن فروست أيضًا يعتقد أن الجليد له دور في نهاية العالم، فهو أيضًا يتمتع بقوة التدمير مثل الكراهية الباردة.

إذًا يختلف معنى وشكل نهاية العالم بالنسبة للشعراء، فعجز الإنسان لن يأتي بسبب وحش أو وباء خارجي بل من تراجع في الوعي. في قصيدة "الرجال المجوفون" للأميركي تي أس إليوت (1925)، يتناول مؤلف كتاب "الأرض اليباب" موضوع  نهاية الحضارة؛ القصيدة هي انعكاس لحالة الثقافة الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى. بالنسبة للشاعر، أغرقت أهوال الحرب أوروبا في يأس عميق لدرجة أن الثقافة الأوروبية نفسها تتلاشى في العدم. تصف القصيدة عالمًا مقفرًا، يسكنه أناس فارغون ومهزومون، محشوون مثل الفزاعات، ويتكئون على بعضهم البعض ورؤوسهم مليئة بالقش. تنتهي القصيدة بإخبارنا أن العالم ينتهي بأنين بدلًا من الضجة، وهي فكرة مرعبة بحد ذاتها.

وهكذا تمكن الأدب أن يفني العالم بمساعدة الخيال قبل أن يُفنى بمعناه المادي، وفعل الأدب ذلك من خلال تخيّل الحروب النووية، والتغيّرات المناخية والأوبئة، والمجاعات، والانفجارات البركانية، والغزوات الغريبة أو الحيوانية، واصطدام النيازك، وحتى موت الوعي والثقافة. ويعتبر هذا الأدب في مكان ما علامة تحذيرية للبشر، تتخيل نهايتهم وتحثّهم على التعامل مع عالمهم بطريقة مختلفة أو ربما أكثر تواضعًا وأقل أنانية.


إحالات:

 Mayan apocalypse: End of the world, or a new beginning?- Jane Little- 19 -12- 2012

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.