}

كيف يتعامل شعراء عرب مع كونهم صحافيين؟

مناهل السهوي 2 أغسطس 2024
هنا/الآن كيف يتعامل شعراء عرب مع كونهم صحافيين؟
(Getty)
ليسَ جديدًا توجّه الشعراء إلى ممارسةِ مهنة الصحافة، فقد عمل شعراء كُثر على مرّ السنين في الصحافة. وتطرح أسئلة عدّة حين نتكلم عن الشاعر الصحافيّ، وعن سبب اختيار هذه المهنة وإيجابياتها وحتى سلبياتها.
قد تجمع اللغة في النهاية كلا الاختصاصين، لكن اللغة في كلّ مجال تختلف بشكل جذري، إذًا لا يمكن انكار الفرق الشاسع بين المقال والقصيدة. الانطلاق من الشعر للعمل في الصحافة قد يترك أثرًا على الموهبة الشعريّة، فالشعر مثلًا يلزمه الاختزال والاستعارة بينما الصحافة تحتاج إلى الشرح والاستفاضة والابتعاد عن الغموض، وفي هذه الجزئية يتحدث البعض عن تأثير سلبيّ للصحافة على الموهبة الشعريّة للشاعر.
من جهة أخرى يدفع البحث عن الاستقرار المادي بالكثير من الشعراء إلى مهنة الصحافة، بخاصة مع امتداد وتوسع الانهيار الإقتصادي على عدد من الدول العربية، فهل يذهب الشعراء إلى الصحافة برضاهم؟ وهل سرقت منهم هذه المهنة فطرتهم الشعرية؟ للإجابة عن هذين السؤالين توجهنا إلى مجموعة شعراء يشتغلون بالفعل في مهنة الصحافة.
وفيما يلي إجاباتهم:

آلاء حسانين: تطويع الشعر للعمل الصحافي


أكتبُ الشعرَ منذ الثامنة أو التاسعة من عمري تقريبًا، وكلما سئلتُ: لماذا تكتبين؟ أقول: حتى أنجو بنفسي. لذلكَ فإنَّ الشعر كان بمثابة نوع من العلاج النفسيّ لي، وحين بدأتُ العمل في الصحافة في سنّ العشرين، وجدتُ أنها أعطتني نفسًا جديدًا في الكتابة، ولم تقلّص من قدرتي الشعريّة، بل على العكس، أخذتُ أكتبُ النصوص الشعريّة، أي الشعر بهيئة النثر، وفيما بعد حين درست الدراما والنقد، لم تتقلص قدرتي الشعرية أيضًا، بل غذّتها الدراما.
شهدتُ مع شعري تقلبات كثيرة، وتغيرات، فقد كتبت قصيدة النثر وكتبت أيضًا ما أسميته بالشعر الخام في كتابي "العهد الجديد كليًا" ثم كتبتُ النصَّ الشعريّ وفيما بعد كتبتُ الشعر اليومي.
أجد أن كلَّ شيء يمكن أن يكون شعرًا، فالشعر بحسب تعريفي له هو القدرة على الانتباه للحياة والتقاطها، ثم بعد هذا الانتباه يجيء الشعر لوحده، مناسبًا.
أمّا بالنسبة للعمل الصحافيّ، فقد اتخذت فيه جانبًا فنيًا كذلك، إذ ركزت على النقد السينمائي والحوار الصحافي، وصرتُ أكتبهما بلغة شعريّة أيضًا، لأن السينما هي شعر في نهاية الأمر، ووصفها يجب أن يكون شاعريًا كذلك.
إذًا الصحافة لم تسرق منّي الجانب الشعريّ، بل طوعت هذا الجانب للعمل الصحافي أيضًا.

باسكال صوما: الكتابة لا تسير دومًا كما تشاء مراكبنا


الصحافة والأدب يلتقيان حينًا ويتناحران أحيانًا، تحدث تلك المعارك كلّها في قلب الكاتب الذي تتنازعه موضوعية الصحافة وجديتها، من جهة، ولطافة الشعر ورقّته وإحساسه من جهة أخرى. لكن ما يجمعهما ليس قليلًا، تجمعهما التفاصيل والقضايا عمومًا، إنما تختلف زوايا المعالجة وآفاقها وأهدافها، بطبيعة الحال.
بتجربتي الخاصة أعيش هذا الصراع يوميًا، وأكادُ أعترف بأن المهنة سرقتني لا سيما أنني أعمل في الإعلام المرئي و"الديجيتال" وهو ما أبعدني في بعضِ الفترات عن الكتابة بشكلٍ عامٍ، ولكنني أعود إليها بين حين وآخر بالكثيرِ من الشوق والأرق، محاولةً ألّا أخسر الكتابة الصحافية وأن أتمسّك باليد الأخرى بقدراتي الإبداعية، لأنني أخشى أن أفقد أيًا من ذلك كلّه، وهو فقدان يرقى إلى تشتت هويتي ككاتبة وكإنسانة وكامرأة.
لا شكَّ في أننا من دون أن نقصد نقعُ في الفخِّ، تأخذنا الصحافة المهنة ونظنّ أننا نملك دومًا حق العودة ساعة نشاء إلى الكتابة الإبداعية. لكنّ الكتابة لا تسير دومًا كما تشاء مراكبنا، وقد تقاصصنا على بُعدنا وكسلنا وغربتنا، إلى أن تقرعَ بابنا مجددًا ساعة ينتهي القصاص وتعود الدوائر إلى دورانها.




في النهاية، علاقةُ الكاتب بالكتابة ليست ثابتة ولا تستقرّ على حالة واحدة دائمًا، أو هذه على الأقل تجربتي وتجربة كتّاب أعرفهم... إنها علاقة معقّدة، متغيّرة، شديدة الغرابة، وعلينا التكيّف مع الأمر. وهذا التغيّر يعني في أمكنة كثيرة النضوج، الانتقائية، الهدوء... في بداياتي كنتُ أكتب كل يوم تقريبًا حين أراجع ما كتبته وقتها، لا أجد أن كلّه ذو جدوى، لأن الكثرة قد تسيء إلى الجودة أحيانًا. الآن أكتب أقل، لكنني أسعى إلى المعنى، إلى الجودة.

تمام هنيدي: دخلتُ عالم الصحافة من باب الأدب 


بدأت حياتي مع الكتابة الشعريّة قبل الكتابة الصحافية، أعتقدُ أن هذا تركَ أثرًا على الكتابة الصحافية نفسها، إذ إنني حتى اليوم أعتبرُ أنني دخلتُ عالم الصحافة من باب الأدب والثقافة، وهذا أثّر بدون شكّ على لغتي الصحافية لاحقًا، فهي ليست صحافيةً تمامًا، بل موشاةً بلغة أدبية لا تشبهُ اللغة الصارمة المنضبطة للصحافة.
وعلى أيّ حال، أنا ممن يعتقدون أن بإمكان الشاعر أن يكون صحافيًا أكثر من العكس، فالصحافةُ مهنة، بالإمكان دراستها، أو تعلّم مفاتيحها، لا أقولُ إنها مهنة سهلة على الإطلاق، ولكنّ تعلّمها ليس مستحيلًا، كقيادة الدراجة الهوائية، ستسقطُ مرةً واثنتين وثلاثًا، ولكنّك في النهاية سوف تُمسكُ مفاتيح قيادة الدرّاجة، بينما قلة قليلة جدًا في العالم العربي كلّه أمكنها التعاملُ مع الشعرِ بوصفهِ مهنة، والحقيقة أنهُ ليس كذلك، على الرغم من محاولات شعراء كثيرين إثبات العكس، لكنّ أمثلةً عديدة، في العالم العربي على وجه التحديد، تؤكد أنّ على الشاعرِ ممارسة مهنة ما تستطيعُ تغطيةَ تكاليفِ حياته، فهذا عباس بيضون، وهذا محمود درويش في الثمانينيات وقبلها، أكثر من ذلك؟ كفافيس العظيم ظلّ موظفًا سنواتٍ طويلة، لا بدّ إذن من طريقةٍ لتدبُّرِ أمورِ الحياة، لكي يأخذَ الشعرُ الحيّز الطبيعيّ في حياة الشاعر لا أن يتحولَ إلى وسيلةٍ شبه وحيدة للحياة. ليس من الصحيّ، باعتقادي، التعامل مع الشعر على أنّهُ ملاذُ الشاعر الوحيد من الحياة، مسؤوليات الحياةِ ليست أمرًا تافهًا، ويجب ألا يعامل على هذا النحو من البوهيمية إذا صحّ التعبير.
كتبتُ أول مقالةٍ لي في سنّ الثالثة والعشرين، وقبلها بسنواتٍ كتبتُ أولى قصائدي، واليوم لا أفضّلُ القول إنني شاعر، كما لا أستطيعُ القول إنني صحافيٌّ، لذا أذهبُ دائمًا إلى اعتبارِ نفسي كاتبًا، أكتبُ للصحافة، وأكتبُ في الشعر والنثر، وفي بالي مشروعٌ سرديّ طويل (لا أجرؤ طبعًا على إطلاق تسمية أكثر دقة عليه)، لكنني أردتُ القول إنّ الكتابة ككلّ هي مهنتي، ولكي تكون كذلك يجب أن أقرأ الكثير وأتعلم الكثير الكثير، فهي ليست مهنةً منتهية، بمعنى أن إمكانيّة خسارتها قائمة دائمًا إذا لم أكن حذرًا في التعامل معها، هذا إذا أردتُ أصلًا الحفاظَ عليها بوصفها مهنة. في أوقاتٍ كثيرة ندمتُ على اختياري الكتابة مهنة، والتمسّك بها، مراتٍ ومراتٍ تمنيتُ لو أنني من أصحابِ المهن الحرفيّة، أقصدُ المهن التي لا تحتاجُ مجهودًا ذهنيًا ضخمًا كذلك الذي تحتاجُهُ الكتابة، فهي مهنة شاقة جدًا، ومردودها لا يتناسبُ أبدًا مع الجهد الذي تستهلكه، فما الذي كان سينقصُ الشعرَ أو الصحافةَ لو أنني امتهنتُ قصّ العشب أو طلاء الجدران؟ أحسبُ أن لا شيء.




والأمرُ لا يتعلق بي لوحدي، لا أعرفُ متى قرأنا آخر مرة لكاتبٍ شعرنا معهُ أنه أضافَ لهذه المهنة شديدة القدم، أو للحياة نفسها؟ لا أسعى حقيقةً لتحقيق ذاتي من خلال الكتابة، أحسبُ أنني فعلتُ ذلك، وما زلتُ، عن طريقِ خلقِ الأصدقاء حول العالم، أظنّ أنّ شعوري بالرضى منبعهُ هذا أكثر مما أقدمهُ للكتابة ومن خلالها. الأصدقاء هم الثروة، الكتابة دائمًا على هامش الصداقة، ولكن من حظّي أنني أستطيعُ الاحتفاء بأصدقائي وبالصداقة نفسها من خلال الكتابة! يا للجمال!

عبد الله حريري: متأخرًا جدًا فكرت بكتابة مقال


بدأت علاقتي مع اللغةِ منذ دخولي المدرسة، في ريفٍ بعيدٍ، على خلاف الشعر لم تكن الصحيفة ذات أهمية بالنسبة لأهل الأرياف، فهم يولون النشرة الجويّة جل اهتمامهم، هم يؤمنون بالغيم أكثر بكثير من إيمانهم بالتحليل السياسي أو الاقتصادي، بينما الجرائد لا تتعدى كونها عيًّا بعي بالنسبة لهم، خلا صفحةَ الكلماتِ المتقاطعة بالإضافة إلى استخدامها لأغراضٍ أخرى كالتنظيف بعد قصّ صورة الرئيس وحرقها.
متأخرًا جدًا فكرت بكتابة مقالٍ، وكان هذا تحت تأثير عاطفيّ خاص، فكان المقال أشبه ببطاقة تعزية علنيةٍ لأحد أصدقائي الأطباء، وكنّا وقتها نعيش حصار جنوبي دمشق منذ عدة سنوات. لعل الاستحسان الذي لاقته هو الذي دفعني للاستمرار، ولكنه كان بدافعٍ خاص، وأظنُّ أن كتابة المقال إذا ما كانت بهذا الدافع يمكنها أن تكون ذاتَ تأثيرٍ إيجابي في تجربةِ الشاعر. إنها نزعة الشاعر للظهور اليومي في حياة الناس، في أحاديثهم، ومواضيعهم، وبالطبع لا يستطيع الشاعر أن يكتب قصيدة كلّ يوم أو كلّ أسبوع، ولكنه يستطيع أن يكتب مقالًا كلّ أسبوع على سبيل المثال.
هذه الحال لم تدم على ما هي عليه، مع شديد الأسف، حيث سرعان ما صارت كتابة المقال ضرورة من أجل تدبر أمور الحياة ماليًا، وخصوصًا بعد وصولي إلى تركيا، وهذه ليست حالي الخاصة، بل الحال الغالبة لدى أغلب كتّاب المقال من غير المختصين، فترانا نبحث في درج يومياتنا عن أي فكرة مهما سخفت فنمطها ونشدها حتى تصير موضوعًا، ولعلنا نصادفُ هذا النوع من المقالات بشكل شبه يومي.
الصحافة تجافي أساليبَ وأدواتَ الشاعر اللغوية، أي تعاطيه الخاص مع اللغة، وربما يكون في ذلك صحة، ولكن هناك ما هو أسوأ منه، وهو اضطراره للانصياع إلى السياسة التحريرية للصحيفة أو المؤسسة التي يعمل معها. يا ترى، هل في هذا خلل ما؟ نعم، لأن السياسة التحريرية صارت شيئًا غير معلن، يجب أن يفهمه الكاتب من تلقاء نفسه من حيث توجه هيئة التحرير وسياسة الجهة أو الدولة الداعمة ماليًا لهذه الصحيفة، هذا ناتج عن الخلل في طبيعةِ العلاقةِ بين المؤسسة والكاتب.
صار الكاتبُ أشبه بالآلة الطابعة التي تنتج ضمن حدود مبرمجة مادة تتفق مع خطة تسويق الصحيفة، وهذا خللٌ كبير سيؤثر بشكل هدّام على الصحافة كمهنة وعلى الكاتب والشاعر والصحافي.
لقد حدث معي بالفعل أن عدلت بعض المواد بشكل جذريٍّ تماشيًا مع رأي رئيس التحرير، وحدث مع أصدقاء أن طُلبت منهم مواضيع محددة مثل مهاجمة شخصيات بعينها أو التركيز على قضايا تخص خلافات بين الدولة الداعمة ودولة أخرى... إلخ، هذا كله دفعني حين أتيحت لي الفرصة للاستراحة من كتابة المقال، وإن بشكل مؤقت.
في النهاية لا يمكنني أن أجزم بندمي من عدمه على كتابة المقال، ولكن هناك مرات انصعت فيها لغير قناعاتي، وإن كان فقط بشطب بعض الأفكار، كنت أتمنى لو أني لم أكن أحتاج تلك المئة دولار لأدفع فواتير الكهرباء والتدفئة في وقتها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.