}

دوهامِلْ يهجو الحرب طبيبًا وأديبًا: الألمُ مشهدٌ وحيدٌ لي

جورج كعدي جورج كعدي 27 يونيو 2024
استعادات دوهامِلْ يهجو الحرب طبيبًا وأديبًا: الألمُ مشهدٌ وحيدٌ لي
جورج دوهامِلْ (Getty, 1918)


الحرب موضوع للشعر والأدب منذ العصور القديمة. يكفي أن ينسج هوميروس إلياذته الملحميّة حولها. ولكن ما من حرب مثل تلك العالمية الأولى سال لها حبر غزير. عدد كبير من المثقفين والكتّاب أُلزموا بالمشاركة فيها فاختبروا أهوالها وحملوا أقلامهم، بعد البندقية، ليرووا شهاداتهم، وأحيانًا معاناتهم الشخصية فيها وانتشار الموت الكثير. وبين هؤلاء الطبيب والكاتب الفرنسيّ ذو النزعة الإنسانية جورج دوهامِلْ Duhamel (1884 - 1966) الذي التحق بجبهات القتال طبيبًا معالجًا للجرحى (تحضرنا للتوّ صورة الطبيب الغزّاويّ البطل غسان أبو ستّة) وكان في الثلاثين من العمر. بدافع التضحية والإرادة الطيّبة، أراد دوهامِلْ إسعاف جنود بلاده، متذكرًا في كتابه "وزن النفوس" (تعبير ديني مسيحي متصل بدينونة الأفعال بعد الموت) كيف وافقت زوجته على هذه التضحية حتى وإن تسبّبت باهتزاز عائليّ. ولم يكن يتوقع ما ستكون عليه الحرب التي ظنّها في البداية ميدانًا لـ"نبل الخدمة"، لكن سرعان ما وعى أضرارها البشرية مع التوافد غير المتوقّف للجنود الجرحى إلى مستشفيات المعالجة بين Artois  وSomme  و Champagne، ما فرض عملًا جراحيًّا وعلاجيًّا متواصلًا جعله مرارًا خائر القوى. أصبحت مهمته قاسية إلى حدّ انهياره أمام الألم، واصفًا ذلك بالصورة الآتية: "في لحظات كهذه، يتوالى المصابون سريعًا بحيث لا نعود نرى منهم سوى جروحهم، ويغادر المصاب الذي لا يزال غافيًا وقد اتخذنا من أجله القرارات من دون أن نكون سمعنا صوته أو نظرنا مليًّا في وجهه (...) كنّا ننتقل من سرير إلى آخر، معاينين ألم كلٍّ من هؤلاء التعساء، عذاب كلٍّ منهم، يأس كلٍّ منهم".

هذه التجربة المؤلمة والمنهكة لدوهامِلْ هي في أساس كتاباته عن الحرب، وبخاصة "وزن النفوس" (La pesée des âmes) الذي كتبه بعد سنوات من انتهاء الحرب ويختلف عن مؤلفاته الباقية (أشهرها "حضارة" أو Civilisation) بكونه سيرة ذاتية تنطوي على شهادة مباشرة فيها مشاعر مؤلمة ولّدتها مأساة الحرب. وقائع حقيقية لا يخالطها خيال الكاتب مثلما هي الحال في كتابه "حضارة" الذي نال جائزة غونكور عام 1918، ليدخل بعد سبعة عشر عامًا الأكاديمية الفرنسية (1935) تكريسًا لإبداعه الأدبيّ والإنسانيّ.

طوال نهارات وليالٍ حفظ الطبيب دوهامِلْ في روحه كلمات الجرحى، حشرجاتهم، تصرّفاتهم حيال الموت. من هنا إصراره على جانب الشهادة في نصوصه. الكتابة تتعدّى الشكل والأسلوب لتغدو إتيقا (أخلاق) أدبية. عندما يحكي عن المتألّمين يناقض الأدب المثالي، ومن هنا قيمة نصّه وفرادته. لم يستسلم لإغراءات السرد، كي لا يضيف شيئًا إلى ما يسمّيه هو نفسه "جلال الحقيقة". قرّر أن ينقل إلى العالم كلمات المصابين وأحوالهم لحفظها من الضياع. ومع ذلك، رغم حجج الكاتب المتعلقة بالحقيقة، يمكن تبيّن حضور المخيّلة في كتاباته المؤثّرة، فتلك من عدّة الأدب ولوازمه الضرورية. آلام الأجساد البشرية تتضاعف بالاعتداء على قيم الكائن البشريّ، وفي ذلك طعنٌ للحضارة الغربية.

هنالك ما يمكن أن ندعوه "الألم الدوهامليّ" وفيه الجروح البليغة وثقوب الشظايا والرصاص والغرغرين... باختصار، تلك الإصابات الجسدية التي تستلزم عناية جراحية اعتاد عليها دوهامِلْ. بيد أنّ شهاداته لا تتوقف عند ذلك، فالألم الجسديّ يترافق مع العذاب النفسيّ الذي يستدعي انتباهًا لم يستطع الطبيب الكاتب استيعابه بكلّيته. الأعراض الجسدية عالجها الجراح المتخصص، لكنّه لم يتمكن من التغاضي عن الأعراض النفسية الملازمة.

في كتابه "حضارة" نقرأ لدوهامِلْ هذه الشهادة الوصفيّة: "كان الجرحى ممدّدين جميعًا بجروحهم البليغة. وُضعوا جنبًا إلى جنب على الأرض الخشنة، مشكّلين فسيفساء ألم بألوان الحرب، وحولٌ ودماء، روائح نتنة من الحرب، عرق وعفونة، ضجيج صرخات، نواحات كأنّها تؤلف موسيقى الحرب. هذا المشهد جمّدني. كان عليّ تلقّن رعب آخر، رعب ᾿اللوحة̔، تراكم الضحايا في القاعة الفسيحة المكتظة، على الحضيض، بتلك الكتلة من اليرقات البرية". الإنسان فريسة ألمه، بات عدوّ نفسه. بحكمته المرتكزة على نزعته الإنسانية يصبّ دوهامِلْ كامل فكره على هجاء الحرب: "أيًّا تكن نهاية الحرب، فإنّها تسجّل وستسجّل دومًا مرحلة من اليأس العميق للبشرية. بين كلّ مواضيع الخيبة، إذا كان ثمة موضوع يظلّ مؤلمًا فإنّما هو الإفلاس الذي هُزمت به حضارتنا".

يهجو دوهامِل في كتابه "الحضارة" التقدم العلميّ، ليس لأنّه يكره التطوّر التقني، بل لأنّه لا يقبل ببساطة أن يتمكن الإنسان من استخدام ذكائه في صنع أدوات مخصّصة لإفناء البشر. يشعر دوهامِلْ بالمرارة حيال هذا العالم الغربيّ الذي يمارس تدميرًا ذاتيًّا. ومن ملاحظاته المعبّرة أن المعدن الكريم الذي تُصنع منه الرصاصات يستخدم لغايات بعيدة جدًا عن سعادة الإنسان. جوهر إنسانيّة جورج دوهامِلْ يقضي باتهام الثقافة المادية التي أثملت البشريّة وقادت إلى إنكار الإمكانات الحقيقية.

يصف دوهامِلْ الحربين العالميتين بأنهما حربا العرق الأبيض الأهليتان، وهما ظاهرة خاصة بالغرب تعكس الجانب المضادّ للطبيعة من الصراع. يقول إنّ الحضارة ليست في "تلك الخردة الرهيبة" (أي الأسلحة التي يصنّعها الإنسان لقتل أخيه الإنسان) ليردف بتعبيره البليغ "إذا لم تكن الحضارة في قلب الإنسان فهي ليست في أيّ مكان آخر". رأى دوهامِلْ في سباق البشر إلى التملّك المادي، إن على مستوى الفرد أو الجماعة، مصدرًا لكلّ العلل. وفي الحرب لم ير بطولةً ولا جنديًا أسطوريًا، بل الصورة الأكثر واقعية للجندي الذي يعاني، والذي شوّهت الحرب جسده، وعليه أن يقود معركته الحقيقية لا ضدّ العدو بل ضدّ اليأس والاكتئاب والصدمة والألم.


إلى تصنيف دوهامِلْ للألم الجسدي والنفسي الناجم عن الحرب، يجب إضافة انتزاع إنسانية الإنسان وتشويه الكائن البشري. لا يبقى لنا إلّا تصفّح كتابه الآخر "حياة الضحايا" (Vie des martyrs) الذي يُعدّ شهادة أدبية كبرى عن الحرب العالمية الأولى، ففي أربع سنوات تدفّق نحو خمسة ملايين مصاب إلى مراكز الخدمات الصحية خلف الجبهة، أي في الجانب الآخر من الجحيم حيث كان دوهامِلْ طبيبًا معالجًا. في هذا الكتاب يرسم صورًا مذهلة لعدد من الجرحى الذين تكمن تحت ضماداتهم جروح لا يمكن تخيّلها: "إنّها ساعة الشك في كل شيء، في الإنسان والعالم، وفي المصير الذي يخبئه المستقبل للقانون. ولكن لا نستطيع أن نشك في معاناة البشر". في كتابه هذا يصف دوهامِلْ مشهدًا كابوسيًا يشبه رؤيا نهاية العالم: "عدد لا يُحصى من الجرحى والقتلى في معركة فردان لم نعد نستطيع تخصيص وقت لسؤالهم عن أسمائهم، وأضحى فرزهم صعبًا للطبيب".

سالاڨان الشخصية الشبيهة

الجانب الإنسانيّ الهجائيّ للحرب لا يحجب في إرث دوهامِلْ الأدبيّ ثيمات أخرى عليا ابتكر لها شخصية رديفة (alter-ego) له دعاها سالاڨان Salavin وتعبر متن خمسة مؤلفات له هي "اعتراف منتصف الليل" (1920) و"رجلان" (1924) و"يوميات سالاڨان" (1926) و"نادي شارع ليونيه" (1929) و"مثلما هو" (1932).

في الأول يحلّل دوهاملْ التناقض بين الفرد ومجتمعه، وبين الفرد وآماله، أفكاره وأعماله. ينعكس هذا كلّه في ذهن سالاڨان الذي لا يسرد حوادثَ بل أفكارًا بلغت قوةً وتمكّنًا قوة الحوادث. يُفصل سالاڨان من عمله البسيط فيعيش البطالة والتشرّد والعوز والحرمان... وفي "رجلان" يتقابل سالاڨان وإدوار، الأول ساخط على وجوده وخائب، والثاني راضٍ وناجح ويزداد يوميًّا صعودًا ونجاحًا. إدوار يمثل الصورة الحية للمجتمع الحديث الذي يترجم أفكاره أعمالًا ومصالح، يبذل لسلاڨان من ماله وهباته فيقبلها هذا الأخير على حساب كرامته وكبريائه حتى يضيق صدره من تلك الصداقة غير المتكافئة التي تشبه العبودية فيهجر صديقه ويفترقان على نحو غير هادئ. في "يوميات سالاڨان" يقوم رديف الكاتب عشية بلوغه الأربعين بجردة حساب لحياته فيقلقه كم هي هزيلة، رغم اقتناعه بأنّه يملك في داخله ثروات مخفيّة تخنقها الحياة فيقول: "أربعون سنة ولم أفعل شيئًا! لو متّ هذا المساء ما استحققتُ أن يُذكر إسمي على لسان ولا أن تبقى صورتي في ذاكرة". قرّر في تلك الليلة أن "يتألّه"، أن يكون "قديسًا"، ولكنه لا يؤمن بالدين ولا يريد أن يكون قديسًا مثل قديسي الكنيسة بل أن يحيا حياة القديسين، أن ينعم بلذة الفضيلة. يرى أنّه بذلك يفي حاجة من حاجات العصر الذي يحتاج إلى قديسين، فقد كان لكلّ عصر قدّيسوه ولا يرى لعصره قديسين... بيد أنّ تجربته تختتم بنهاية أليمة إذ يمرض ويدخل المستشفى المجاني لمدة طويلة، ثم يخرج منه أكثر هدوءًا وإصرارًا على البحث، فيقوده إلى الكتاب الرابع "نادي شارع ليونيه" وهو ليس ناديًا في الواقع بل حانوت إسكافيّ فقير يجتمع فيه بعض الشيوعيين الثوريين الذين يدعون إلى مجتمع جديد. في هذا المكان المتواضع يجتمعون للتباحث في مشاكل حياتهم. غير أنهم لا يُطلعون سالاڨان على أسرارهم لكونه ليس منهم، ويكتشف مع الوقت أنهم لا يبالون كثوريين بالفرد لأنّ همّهم تغيير المجتمع، فينفر قائلًا لهم: "لا أسمح لنفسي بانتقادكم، وأغلب ظنّي أنكم ما دمتم مقدمين على تغيير المجتمع فثمة ما يدعوكم لذلك، ولكنكم تستطيعون تغيير ما يسمّى النظام، وتستطيعون أن تخلفوا الطبقة الحاكمة، تستطيعون أن تغيّروا كلّ شيء، ولكن إذا لم تغيّروني أنا سالاڨان فإنكم لم تغيّروا شيئًا!". يسأله أحدهم: "لم تلحّ هكذا في تغيير نفسك؟" فيجيب بصوت خفيض إنّما واضح يسمعه الجميع "لأنّي... لأنّي جبان".


وفي الكتاب الخامس من سلسلة سالاڨان هذه "مثلما هو" نرافقه مقيمًا في الجزائر تحت اسم آخر، وكيلًا لشركة فونوغراف، يحظى باحترام عارفيه لتضحيته وإيثاره وحبّه للإنسانية. لم يبق مهجوسًا بامتلاك الفضائل على نحو خياليّ، بل أمسى لأعماله مضمونٌ واضح. ومع ذلك، ظلّ غير راضٍ عمّا يفعل، فالضيق في نفسه يعود إلى سبب آخر هو أنّ الإنسان لا يسعه أن يكون إلّا ما هو عليه، أي مثلما هو، ولو حاول أن يكون غير ذلك لأصابه الجنون. السلام النفسيّ الذي ينشده عن طريق هذا الصراع الباطنيّ يوصله إلى الغاية الحسنة. غير أنّ بحثه عن سلامه الداخلي يفضي به إلى نهاية مأساوية حين يَقتُل خادمُه بائعًا إيطاليًا متجوّلًا ويختبئ في القبو، وعندما يرجوه سالاڨان أن يسلّم نفسه واعدًا إيّاه بالدفاع عنه في المحكمة يُرديه خادمه بمسدسه! كان عزاء سالاڨان أنّه لم يحظ بسلام النفس في الحياة بل في الموت!

الهواجس الوجودية وصراع الإنسان مع نفسه ومع العالم هي جوهر أدب جورج دوهامِلْ، يعبّر عنها من خلال رديفه، ناقل قلقه وتململه الداخلي وشكّه وبحثه ونظرته المتشائمة إلى الوجود والإنسان و"الحضارة" والتقدم. هواجس رافقت الطبيب والأديب دوهامِلْ طوال حياته الغنية بعطاءات إنسانية وأدبية كثيرة، ولم يَلْقَ لها عزاءً، أو بعض العزاء، إلّا في موسيقى باخ وموزارت التي نقل عشقها إلى أبنائه الثلاثة. الموسيقى هي الدفاع الأنسب عن ألم الوجود.

* ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.