}

في الذكرى السابعة والثلاثين لاغتياله: سامحنا يا حنظلة

ميسون شقير ميسون شقير 26 يوليه 2024
استعادات في الذكرى السابعة والثلاثين لاغتياله: سامحنا يا حنظلة
ناجي العلي
قال محمود درويش في ناجي العلي عندما رسم طفله حنظلة في عام 1969: "مخيفٌ ورائعٌ هذا الصعلوك، إنه الحدس العظيم والتجربة المأساوية، سريع الصراخ، طافحٌ بالطعنات". وقال أيضًا: "لا أعرف متى تعرَّفتُ على ناجي العلي، ولا متى أصبحت رسومه ملازمةً لقهوتي الصباحية الأولى، ولكنني أعرف أنه جعلني أبدأ قراءة الجريدة من صفحتها الأخيرة".
نعم، لقد جعلنا هذا الصعلوك الرائع، حنظلة، نبدأ حياتنا ورؤانا وتجربتنا ووعينا من الصفحة الأخيرة، وجعلنا نطلُّ على الفاجعة مثلما نطلُّ على الغد، ونطلُّ على أنفسنا مثلما نطلُّ على دم الفلسطيني الذي لا يجف، فحنظلة الذي عرَّفه ناجي بأنه الطفل الذي وُلِدَ في يوم السادس من حزيران/ يونيو عام 1967، أي الطفل الذي وُلِدَ في يوم الهزيمة، والذي لن يكبر، ولن نرى وجهه، إلا حينما نكون قد استحققنا تغيير تاريخ مولده، واستحققنا كرامة الحياة.
إنه ناجي العلي، إنه حنظلة، ذلك الصعلوك الذكي القادر دائمًا على كشف الحقيقة، والقادر دومًا على تعريتها، وهو الذي كانت إسرائيل بكل جبروتها تخاف من لوحاته، وتخاف من قهقهات حنظلة التي تمزِّق هذا الجبروت النَّتِن، وهو الذي كان الجميع يتمنى موته، وليس فقط إسرائيل، لأنه كان دائمًا صوت الحقيقة الذي لا يستثني أحدًا.
اليوم، وفي الذكرى السابعة والثلاثين لاغتياله، ولاغتيال صوت الحقيقة فينا، يعيد المسدس الكاتم للصوت تفاصيل اختراق الرصاصة لرأس حنظلة، لرأس الشاهد الذي يدير وجهه باتجاه الحقيقة وظهره لكل العالم، ويخترق المسدس نفسه رأس كل هؤلاء الآلاف من الأطفال الفلسطينيين في غزة فقط، لأنهم حاولوا يومًا أن يعلِّموا دُماهم حبَّ الأرض، وحبَّ الحياة، والعزة والكرامة فيها، كما يخترق أيضًا رأس كل سوري ومصري وليبي ويمني أدار يومًا إصبعه في اتجاه الطغاة.
اليوم، تُصوِّب يا حنظلة معظم حكومات العالم مسدساتها الكاتمة للصوت على رؤوس أكثر من مليوني فلسطيني، بينما يخرج طلاب وشعوب العالم من لوحاتك، مثلما يخرجون من قبضة حكوماتهم، ويملؤون الشوارع باسم فلسطين والحرية، هاتين الكلمتين اللتين متَّ لأجلهما.




في ذكرى اغتيالك، نقف جميعًا، نحن الفلسطينيين والسوريين والسودانيين والليبيين، أمام لوحتك، ونقول لك: لقد حاولنا يا حنظلة الساكن فينا، حاولنا أن نموت مثلك، لنعش مثلك، وجهنا باتجاه الحقيقة وظهرنا لكل هذا العالم، وكنا نقول مثلك، إن الطريق إلى اللوحة واضحٌ تمامًا مثل الطريق إلى القدس، ومثل طريق العاشق إلى قلب العاشقة، لكن مسدساتهم كانت أسرع من كل محاولاتنا.
وفي الذكرى السابعة والثلاثين لاغتيالك نستعيرك من غيابك الحاضر فينا ونقول لك: لقد حاولنا يا حنظلة أن نرشو الحياة بقاماتنا علَّها فقط تمنحنا ظلالًا إذا وقفنا، ونسينا يا حنظلة الدرس الفلسطيني الأول بأنه لا ظلال لأحد في القبور، ونسينا يا حنظلة أنه من دون القدس لن تكون هناك دمشق، ولا القاهرة، ولا عدن. من دون سيدة المدائن لن تحيا أية مدينة. وما زلنا نحيي نحن السوريين نزوحك الأول من عين الحلوة، فالطريق إليها صار يمر من حلب، ومن إدلب، ونعدِّد لك المحطات باسم المجازر، والمجازر باسم المدن، والمدن باسم الأماكن المقفرة، ونخبرك بأن الخيام صارت حظ الفلسطيني والسوري الأوفر، كما صارت حدود سورية مثلما هي حدود فلسطين، فمن الشمال، ومن الغرب، ومن الشرق، ومن الجنوب، تحدُّنا وتحرسنا الخيام، فلا تخف علينا من الجهات، ولا من نسيان الخارطة.
في يوم اغتيالك يا ناجي الذي لم ينجُ، نقف ونخبرك أن حنظلة ابن العشر سنوات لن يكبر، كما قلت يا ناجي، فهو هناك مرميٌ على شاطئ اللوحة، والملح ثقيلٌ على أحلامه، ونخبرك أن فاطمة غرقت أيضًا يا ناجي، وأنها ترسم لوحتك الأخيرة على الرمل والحصى، ونعترف لك بأننا تأخرنا كثيرًا يا ناجي، تأخرنا في الوقوف في وجه القتلة، وتأخرنا أيضًا بفهم هذا العالم، كل العالم، حين لم نعِ جيدًا أننا بثورتنا نقاتل من قتلك، وأن من قتلك خلق لقاماتنا تلك الأصنام والتماثيل، وأتقن لعبة مسرح العرائس، وأنه كان على حنظلة فينا أن يموت ألف موت.
في يوم اغتيالك، نقسم لك بكل ما تركته فينا يا ناجي، بأننا قد حاولنا أن ندير ظهورنا لخوفنا المتوحش فينا والمتوحش علينا، وأن ندخل اللوحة مثلك كاملين إلا من نقصنا، نقسم أننا حاولنا مثلك أن نمشي فيها باتجاه النهر، وكانت فاطمتك دليلنا الأول إليك، لكننا لم نصل إلا لهذا العطش، فلا تلم دمنا يا ناجي، على كل هذا الخذلان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.