}

أخسرُ قلباً وأواصل السّير

كريستيان بوبان 23 ديسمبر 2017
ترجمات أخسرُ قلباً وأواصل السّير
لوحة للفنان السوري لقمان أحمدة

 

 

فَم الأسد

 

مثلي الأعلى في الحياة كتاب ومثلي الأعلى بين الكتب ماءٌ مثلّج يشبه ذاك الذي رأيته يتدفّق ذات صيفٍ من فَم أسَد النافورة على طريق "جورا". كنتُ في إحدى المقصورات السعيدة التي نسمّيها "المخيّم الصيفي". لقد تُركتُ هناك لقرون عدّة، فانضممتُ إلى فرقة صغيرة للقتَلة المغنّين، أشباهي، حين وصلتُ إلى منتصف مسيرة قسرية تحت الشمس ولاحت لي نافورة تبصق رغوةَ ضوئها. وضعتُ وجهي تحت فم الأسد، فتحتُ فمي وابتعلتُ محيطاً من الماء البارد. اخترق الماء جسدي إلى القلب حيث أطفأ نار الفقدان الّتي خرَّبته. بعد عشرات السنين، ما زلتُ أتذكّر الراحة الصوفية الّتي يمنحها الماء المثلّج. أما بالنسبة لفم الأسد، فما زلتُ أبحث عنه كلّما هممتُ بفتح كتاب.

في مكتبة قديمة وجدتُ كتاباً مؤرّخاً عام 1670:  "تأمّلات" السيد باسكال عن الدين ومواضيع أخرى. في تلك الفترة كان يلزم قطع الأشجار بالفأس لصناعة الكتب. إنه موتٌ أخويّ تتقبّله الملائكة. لا شيء ينعم بالشباب مثل كتاب قديم. يبزغ باسكال من الظلام، بعينين مبلّلتين بالذهب. تأتي مغامرته من منطقة تحت الأرض أعمق من إرادته - بصعوبة إن وجد شيئاً ما. في إحدى الليالي اشتعلت روحه ناراً. تقدّمت خيول فِكرِه راكضةً، يقطر من سروجها عَرَق الحبر. عاد باسكال في إشراقة مساء يوم الإثنين 23 نوفمبر  1654 بحفنة من الجمر - تُذكّرنا برؤيته بعضُ الملاحظات المخبّأة في باطن سترته، تحت قبضة اليد. إنّ للأبدية خشخشةُ الأوراق المكوّمة.

ثلاثة أيام. ثلاث ليال. قضيتُ ثلاثة أيام وثلاث ليال على متن هذا المركب المتهالك والشّهيد بسبب العاصفة. حتى في غفوتي، حيث لا شيء يتحرّك، ولا شفرة عشبٍ يهزّها النسيم في المرج الأسود للدّماغ، هنا حيث كلّ شيء أسود، غارق في السواد ومشقوق من السطح بفعل شُعلات الحلم المتوقّدة، وحتّى في المستودع الأسود للدماغ المرصَّص بقُدرات النّوم، حتى هنا كنت أسمع لُهاث الأمواج، بينما دعامة الماء الثّقيل فوق عظامي، وصفعات يدٍ من فولاذٍ أسود تنزل عليّ، والطريق المثير لنهاية النجوم، والمحيط، والسفينة ونهايتي. ثلاثة أيام وثلاث ليال على هذا المركب، كنتُ أحسّ بقلبي ينخطف من صدري، ويغوص في هاوية خوفٍ أسود العينين، خوفٌ سيصير وجهاً لنهايتي، ونهاية النجوم والشيطان والله وكلّ شيء - باستثناء الخوف. كنتُ أتحدّث، وأتناول طعامي. وأفكّر في أشياء أخرى. ولم يتركني هذا الخوف، اللّذيذ والموجع. وتغيرَّ لون دمي من الأحمر إلى الأسود. وعاد اللّيل إلى قلبي. وكان اللّيل هو حمولة السفينة الّتي ناء بها الخشب. واكتشفتُ ما هو الموت، أن ترفع رأسك لترى النجوم تهطل وتنطفئ: ثمّ لا شيء. لا شيء سوى دائرة ماءٍ أسود حول السفينة الّتي أجهل لماذا صعدتُ على متنها. لا شيء سوى جدارٍ من نارٍ سوداء، سوى برميلٍ أتدحرج بداخله وتحيط بي الصّرخات، بينما أفقد دَمي، قوّتي، لثلاثة أيّام، لثلاث ليال. وقد وصلَت الثقة إلى مداها. لا، ليس إلى مداها: إنّها بداخل الكتلة السوداء، في الفم الفاغر من السواد، حيث تبدو نقطةً صفراء. لقد كان الأمر  هكذا. كان لا بدّ من اجتياز امتحان السواد، امتحان الغَرق المُقبل، والأكيد، كان لا بدّ من معانقة الخوف بعيونٍ غاضبة، من محبّتِه مثل خبزٍ جيّد، ومواصلة السّير في المعبر، أخسرُ قَدماً، أخسر قلباً وأُواصل السير رغم ذلك، وأرى السماء تتحوّل إلى بُرادة حديد، والنّجوم تسقط كما لو أنّها غبار  الذّهب القذر، ويصل مسامعي في هذه اللّحظة، في هذا التحقّق الكامل للكارثة، صوتٌ طيّب وواثِق، هو صوت الّلون الأصفر الفاتح، يعِدُ بإرجاع السفينة إلى المرفأ.  ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ وأنا أحيا برأسٍ مشجوج،  أنصت إلى التمزّق المخيف لنسيج اللّامرئيّ وأشاهد انتحار الله مباشرة أمام عينيّ، في عينيّ، وأطناناً من الماء الأسود تنفجر في عنبر الدماغ، وتلك نهايةُ المشاريع والأحلام. ودائماً ثمّة عدمُ ثقة، هذا السّيلُ المدهش من بارودِ السّلام العميق، أعمق من الموت ومحيطاته المهجورة. كنتُ مُستنداً على الموت، وفجأة طرحتُه أرضاً: لقد عشتُ هذه الإطاحة.  ماذا ألمَّ بي؟ لا شيء، لقد أنهيتُ للتوّ قراءة "تيفون" لكونراد. أنفقتُ ثلاثة أيام وثلاث ليال في قراءته. هل هذا جيّد؟ لا يمكنني إجابتك. الكتاب إمّا أن يكون رائياً أو لا يكون. دورُه أن يُشعل الضّوء في قصور أدمغتنا المقفرة. والكتابة تعرف ذلك بشكل أطول من الموت، أنا متأّكد. لقد دفعتُ ثمناً لاكتشافه: ثلاثة أيام وثلاث ليال.

 

 

الدّفتر الأزرق

 

تفتحين هذا الدفتر. فتجدين أنّ الأمر يتعلّق بالسماء، بهذا الجزء من السماء الّذي بقي بداخلنا، مُكهرباً، ليليّاً، متوحّشاً، غيرَ قابلٍ للتصرّف. سترين على أزرق هذه الصفحات بياضَ نجمة، هو بياضُ الملح نفسه، وبياض النار. ستمرّ بضع كلماتٍ تحت عينيك، في صباحِ عينيك. كلمةٌ مثل هذه: "روح". الرّوح. إنّها غسيل الشّمس الرّطب، المطويّ بمحبّة. غطاءٌ ذهبيّ من أجل سرير العشاق، مطرّز بالأَسود، ومنقوشٌ عليه الحرفان الأوّلان للعاصفة والفجر معاً. ستقرئين مرّة أخرى، بعيداً. نحو كلمات أخرى. ستقرئين كلماتٍ ثمينة، رقراقة، أميريّة، هي كلمات اليأس ذاتُها، وكلمات الأمل. وعندها ستفهمين. ستفهمين أنّ في كلّ واحدة من هذه الكلمات، من هذه الصفحات، لم يكن الأمر يتعلّق إلّا بكِ، بهذه المصادفة الرائعة بينك وبين هذا الحبّ الّذي يغمرني نحوك. بينك وبين هذه الكلمات، الّتي هي كلماتي لأقُولكِ. بينك وبين هذه الكلمات التي تمخّضت في اللّيل، متولّدةً من هذه الفوضى التّالية لدخولكِ إلى روحي كي تنعم بالسلام. ستفهمين أنّك لم تمنعينني أبداً من الكتابة. ستفهمين أنّني لم أكتب إلّا من أجلك، حتى قبل أن أتعرّف عليك، حتّى في الزمن، في هذا المدى المعتم للزّمن السابق للِقائنا. في هذه الصحراء. كنتُ أكتب في انتظار هذا الحبّ، في انتظار مجيئه، في استحالةِ قدومه. كتبتُ كلماتٍ أكثرَ عصفاً من الليل، أكثر قتامةً من اللّيل، على أمل أن أتجاوزه، أن أُلحق هزيمةً باللّيل بمزيدٍ من الليل. الآن أنا أكتب. في الحبّ، في الضوء، أكتب. بكلماتٍ أكثر إشراقاً من الضّوء، لكي أتجاوزه، لأبلغ فيه مدىً لا يخضع لكُسوف، لأفوز منه بهذا الوضوح الّذي لم يعد يشوّش دورانَ الأيام البطيء. معك أكتب. معك أرى أنّ هذه الكلمات هي نفسُها. كلماتُ اللّيل. النهارِ المشرق. انتظارِ الحب. الحبّ. اليأس. الأمل. أكتب على ضوء هذا أنّنا الوحيدان الجديران بالمعرفة. أنا أكتبك. في هذه الدفاتر وفي كلّ ما أكتب أيضاً. أنتِ حاضرة أيضاً من طرف إلى آخر، حاضرةٌ في هذه النصوص الّتي أُرسلها إلى "مونبلييه". حيث أنا في وضع استحالةٍ للحديث عنك، وهي ليست ظرفيّة. في هذا اللّيل حيث تكونين بداخلي، في هذا اللّيل الحارق حيث تمتزج بك الّتي تأتي منها الكلمات، أكتبُ، أكتبكِ. أناديك. من هذه الصفحات أناديك. من هذه الغابات، المستنقع، الطّرقات، من هذه الأراضي، الّتي تُقاس بخُطانا إلى ما لانهاية، أُناديك.

 

 

حياةٌ جديدة

 

قرأتُ كتباً أكثر ممّا عبَّ السكّير من زجاجات. لا أستطيع أن أبتعد عن الكتب ولو ليومٍ واحد. إنّ لإيقاعاتها البطيئة مفعول العلاج. لقد قضيتُ صيوفاً في معابدها الظّليلة، المنحوتة على بياض جرفِ الصّمت الجميل. أسحب من البوفيه أعمالَ الشّاعر، الذي رسمَ بيوت الجنّة والجحيم، وقد بدَت عليها مسحةُ الأيقونة. فتحتُ بشكلً عشوائيّ الحياةَ الجديدة وأطلقتُ سراح طِفلين، نفضتُ عن لباسهما الغبار قبل أسمح لهما بالركض في الضّوء.

كان دانتي ينزل إلى الجحيم كما ينزل شخصٌ إلى القبو بحثاً عن قنّينة شراب جيّد. وكنت أُرافقه، أمرُّ بجواره على مكانٍ أو قبورٍ تحترق، عندما سمعتُ استغاثاتٍ تأتي من قلب الحديقة. في البداية ظننتُها هلوسة. في المرّة الثانية دنوتُ من النافذة وفهمتُ أنّ الأمر يتعلّق بصيّادين ينادون على كلابهم الضّالة. أنا أعرف هذه الكلاب. واحدٌ منها اقترب من بيتي ذات أَحد. بشَعر  قصير، ووجه عابس، مكتئباً مثل شيطانٍ أَسير في رواية منحوتة، يتدلّى من عنقه طوقٌ به أجراس تُشبه دموعاً متحجّرة. رميتُ له قطعة كعك. أسعدته هذه الهدية كثيراً، لأنّه بدا متعوّداً - كما في الفردوس الوحيد الّذي يعرف - على سوءِ معاملة سيّدِه. عيناه بريئتان من كلّ أمل، لم يكن سوى آلةٍ للقتل جديرة بالتعاطف. لقد عاد من جحيم دانتي بسبب خطأ في إحدى أغانيه. توقّف الصيّادون عن مناداته. إذ عثروا على كلابهم وكدّسوها في أقفاص سياراتهم. وعلى ضفّة نهرٍ يحترق، اكتشف دانتي أولئك الناس الّذين لم يعملوا في حياتهم خيراً ولا شرّاً.  أولئك "الّذين لم ينفعوا إلّا أنفسهم"، ولم تقبلهم السماء ولفظهم الجحيم. عاقبتهم بالجري عراةً، مطارَدين من آلاف النّحل. أقفلتُ الكتاب، وعدتُ إلى العالم حيث يتحرّك الشياطين المساكين ذاتهم كما في القصيدة.

رجوعاً من "أوتان". على طرف لساني اسم المرأة التي ستشاركني هذا الطريق، منذ عشرين عاماً. كانت الأشجار الّتي تذكّرت ضحكتها قد أمطرت على شبحِها بُقعاً من ألوان دافئة. وبزغت مدرسةٌ من منعرج يشبه حزناً بوجه قنّاص. وجلست مقبرةٌ تتأمّل وسط الأبقار. وصعدت رائحةٌ من الأرض بعد مطرٍ يُقنع بالعيش بلا قلق لعشرة آلاف سنة مقبلة. "صيدٌ يجري الآن". شخصٌ متفرّد بشَعر أسودٍ كالإسفلت يقتحم الطريق بخمسة أمتار إلى الأمام. فتتقاطع حياتنا. يخاطر بجلده بينما أفكّر في القراءات السعيدة الّتي تنتظرني. يتوغّل الإله المذعور في الغابة. ويفقد المؤمنون المسلّحون أثرَه. أنا لا أفهم جيداً هذه الحياة حيث يسمع البعض، في نفس الوقت، طنين النحل منذ وفاتهم إلى معابدهم،  بينما آخرون يستعذبون حوزة الأبد أمامهم من أجل قراءة أشياء لطيفة جداً. 

نحن نتقدّم في الحياة بأيدٍ حمراء ملطّخة بالإجرام. وطوفان موتنا سيُبيِّضُها.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
23 يناير 2024
ترجمات
23 أبريل 2023
ترجمات
23 ديسمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.