}

جواهر الوجوه المرمية في الطين

كريستيان بوبان 10 أغسطس 2017
ترجمات جواهر الوجوه المرمية في الطين
لوحة لخوان ميرو

 

 

 ولد الكاتب الفرنسي كريستيان بوبان Christian Bobin في كروسو بتاريخ 24 نيسان 1951. شاعر وباحث في علم الأخلاق. تربى وحيد الوالدين فآثر رفقة الكتب منذ طفولته. درس الفلسفة وتدرب ليصبح ممرضاً في العلاج النفسي. أطلق عليه لقب البائع المتجوّل يبيع سحر اليوميات. نصوصه قصيرة شجداً ومختصرة، تصنف ما بين المقالة والشعر، ولهذا يفضّل كتابة الفقرة: كتابة مكثفة مؤلفة من لوحات صغيرة تصور اللحظة. تتنوع مؤلفاته الغزيرة ما بين الرواية واليوميات والشعر المنثور. عرف نجاحاً كبيراً في أوروبا وله قراؤه الأوفياء، يتجنب الوسط الأدبي ويؤثر العزلة في الطبيعة. كلامه كمياه النبع بمذاق ندى الصباح، صباح يوم في هذا العالم.

 

حزمة مفاتيح

   كنت أقرأ لأحد الفلاسفة عندما اجتاحتني موجة من الضحك، ضحك صامت، زلزالي، نابع من تحت الأرض. بصعوده إلى وجهي لم يحدث سوى ابتسامة، رعشة خفيفة، لكن في الأعماق، كان قلبي يضطرم كالجمر داخل صدري. عثر الفيلسوف الجليل على حزمة مفاتيح ضائعة داخل العشب، مفاتيح ذهبية جميلة، كبيرة، مثل مفاتيح مدينة من زمن غابر، مثلها تقريباً، ما نفعها؟ لم يكن هناك أبواب، ولم يكن هناك قط، وهذا ما صعّد في داخلي تلك الضحكة الكبيرة الصامتة والتي ما زلت أشاركها حتى الآن مع باقة أزهار الزنبق على حافة النافذة.

   طارت ريشة زغب صغيرة تحت ناظريّ. لا شك في أنها ذرة غبار لا أكثر، كم هذا مبهج! كانت الأزهار تضحك بكل ألوانها، وعلى الجانب الآخر من زجاج النافذة ثمة عنكبوت يتسلق على حبله، ينسج تواً إلى السماء خيطاً كمن يهذر بكلام دون احتراز. كان يهزأ من بطلان كل فلسفة، مثلما كانت تفعل الأزهار والكرمة العذراء حول النافذة والأوراق البيضاء فوق مكتبي. كلمة مكتب بحد ذاتها تغدو بالحقيقة مهزلة. أحببت ذلك الفيلسوف، كانت عباراته زاخرة بالسلام المضيء، رشيقة، نافعة، لكن ضحكتي الكبرى كانت أقوى، آتية من أعماق النجوم، تندفع كأنها حجر.

   كتب الفلسفة شبيهة بتلك الأقنعة الكرتونية التي نثبتها بمطاطة فوق وجوهنا. من تحت القناع نفتقر الهواء. انظر، قالت لي الأزهار التي كان أريجها يفترش الحجرة كبساط. انظر، لا يوجد أبواب، ولا في أي مكان، ليس هناك سوى عطرنا وألواننا وضحكاتنا. العالم الآخر يبدأ من هذه الضحكة. لم البحث في مكان آخر، لم البحث عن شيء آخر. الله طفل مختبئ، تأتي لحظة ينكشف فيها، حين نمر بالقرب منه نسمع ضحكه المتواصل. بوسعك سماعه في الموسيقا، في الصمت، في البرعم المتفتح، وراء السحابة العابرة، في فم أدرد، في كل مكان. إنه لأمر يفوق التصور ذاك الصخب الذي يمكن أن تحدثه باقة أزهار في حجرة صغيرة، فهي تسكرني. ما من فيلسوف في العالم بوسعه أن يصل إلى مستوى زهرة أقحوان واحدة أو نبتة علّيق أو حصاة واحدة تتحدث كراهب حليق يتحدث مع الشمس على انفراد وهو يضحك ويضحك ويضحك.

   أتطلع إلى زرقة السماء. ليس هناك باب، أو ربما الباب مفتوح منذ الأزل. من داخل هذا الأزرق أسمع أحياناً ضحكة، الضحكة ذاتها لتلك الأزهار: يستحيل أن أسمعها دون أن أشاركها على الفور.

   هذا الأزرق أدسّه في هذه الرسالة، إنه لك.

 

 

 

كنوز حية

   العالم غارق بالقديسين، أقصد بالشهداء، فأنا لا أفرّق بين الكلمتين. إنهم يتكاثرون ويزداد عددهم كل يوم، نسميهم "مرضى الزهايمر". بازدياد أعدادهم يقدمون لنا هبة كي نعاين حياة تقتصر على الأساس، حياة منهكة، مضنية، معتقة من كل قواعد الحياة العصرية: الثراء، الرغبة، النجاح، السحق. بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، هذه الحياة ليست هي الحياة، ولم تكن قط، انتهت. عيونهم مفتوحة، يحدّقون بخوف في شيء لا يُسبر غوره. هم فريسة داء غامض يذيب العالم. يجدر بنا أن ننظر إليهم ككنوز حية. يسألون غالباً عن طريقهم، يسألوننا نحن التائهين في عالم مضاء بابتذال بتسليات بائسة. يبحثون بيد مرتعشة عن يد ملاك، فهم يدركون وجود الملائكة. يتحدثون أحياناً إلى موتاهم أيضاً. هم الذين ينسون كل شيء، لا ينسون أولئك الذين أبهروهم في زمنهم الماضي. كان أبي يبكي في كل مرة يتذكر أخاه الذي مات في طفولته. داخل قلبه الذي خلا من العوائق وغدا كريستالياً، كان المشهد يتوهج: هو الجاهل بمرض أخيه المعدي، تسلّق السرير وصعد فوق جبل الوسائد كي يقبّل أخاه المحتضر، فتلقى حينذاك صفعة من الطبيب. هذه الصفعة التي لم يفهمها، كان يشعر بحرقتها حتى في آخر سنوات عمره.

   أقام والدي لمدة عام في أحد تلك المنازل الجديرة بتمثيل ما يسمى باللاإنسانية. لم ينطفئ نور وجهه قط. لا أصدق ما يقال: "إنهم لا يتعرّفون علينا". التعرّف هو أن تحب، والحب أمر يعجز اللسان عن وصفه. حين صار والدي لا يعرف شيئاً عني، كان ما يزال يعرف من أكون، كنت أشعر بذلك وأحسّ به، وما نشعر به أكبر من كل ما يقوله العلم. هو الذي لم يكن يعثر على الأسماء، كان يراوغ عندما يُسأل عني ويجيب: "إنه من لا يُنسى"، وعن أمي: "إنها الأفضل". هؤلاء النسّاؤون لا ينسون شيئاً أساسياً وهذا ما يميّزهم عنّا.

   طفت في حقل المعركة، عاينت الأرواح المشوهة وجرح الخنوع الرهيب. جلّ ما سمعته هناك هو الصمت، ناقوس خطر من الصمت. ما شاهدته كان مهيباً، سخيفاً وفظيعاً في الوقت نفسه. وجوه صامتة، كلام عتاب على وجوه خمسة عشر كهلاً. يحضرون لهم الغداء فوق عربة، يلتقون على مائدة الطعام مرتين يومياً. هم لم يختاروا ذلك، لكنهم منذ طفولتهم كانوا على الطريق في سبيل هذا اللقاء. سقطت الحواجز، حواجز الشباب والجمال والمال والمنصب... رجل يضع السكر في فنجان جاره الشارد، امرأة تساعد أخرى في كسر خبزها. كل واحد من هؤلاء العجزة عظيم الشأن وهو لا يدري، وقد يهزأ لو قلنا له ذلك. يجدر بأحد ما الذهاب إليهم وإحضارهم واحداً واحداً وإخراجهم من خوفهم الذي يظنونه قدراً محتوماً، أمراً آتياً من فوق. كلنا سننتهي حطاماً. كي نرى بشكل أفضل، علينا أن نناضل ونباعد بين أغصان العدم التي تسفع وجوهنا. أشعر تجاههم بغضب ما عادوا يمتلكونه. إنهم مهملون أكثر من أزهار النرجس البري في الغابة التي لا يعيرها اهتماماً أي متنزه. كانت طفولتهم تعد بنور أكثر من تلك الأزهار، والآن؟ الريح تتحدث إلى الأزهار ولكن هنا، في هذه القاعة، أين الريح؟ شعلات خافتة، خافتة، نجوم تخبو. الروعة في هؤلاء القوم أنهم أحياء بالرغم من كل شيء، رغماً عنهم، وأكثرهم تضرّراً، أعظمهم شأناً.

عاينت الذهب في العدم، جواهر الوجوه المرمية في الطين. سننتهي كلنا حطاماً، لكنه حطام من ذهب، وحين تحين الساعة، سوف يأتي ملاك ويصنع منه رغيفاً كاملاً. 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
23 يناير 2024
ترجمات
23 أبريل 2023
ترجمات
23 ديسمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.