}

هابرماس عربيًا.. الصمت خروجًا عن قيم التنوير

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 19 مايو 2021

لم تولِ الثقافة العربية ما يكفي من اهتمام للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وإنتاجه المعرفي الغزير، بوصفه أحد المتربّعين على عرش الثقافة أوروبيًا وعالميًا، وبقي الاهتمام به محصورًا في فئة قليلة ضمن دائرة أوسع من المختّصين بالفلسفة وغيرها من علوم اجتماعية وإنسانية. ولكن ما أن تراجع الفيلسوف عن قبوله جائزة الشيخ زايد للكتاب، حتى اقتحم هابرماس المجال العام الافتراضي عربيًا. السياق الذي جاء فيه هذا الاقتحام المصادف عبّر عن نفسه من خلال مراجعة، ومساءلة في الوقت نفسه، لمدى التزام الفيلسوف الألماني بقيم الحرية والتنوير، طالما أن هابرماس قد برّر هذا التراجع بانحيازه إلى تلك القيم حين رفض جائزة تشرف عليها دولة لها سجّل سيء في مجال حقوق الإنسان، معلّلا تأخرّه في هذا الانحياز بجهله بالجائزة وأصحابها. أفضت تلك المساءلة إلى إدانة الفيلسوف بسبب تناقض مواقفه، فكيف يرفض، مثلًا، جائزة يقف وراءها مستبّدون ولا يمتنع عن زياراته لدولة الاحتلال الإسرائيلي والتعامل معها أكاديميًا، دون أن يلتفت إلى إدانة الاحتلال، وسلوك هذا الكيان المنتهك لحقوق الفلسطينيين والقانون الدولي؟

ما حقيقة موقف هابرماس من عديد من القضايا العربية، وخصوصًا القضية الفلسطينية؟ وكيف يمكن قراءة تلك المواقف في ضوء موقفه الفكري العام ومنطلقاته النظرية؟

أسّس هابرماس لأجندات بحثية امتدّ تأثيرها إلى الدراسات الفلسفية، والاجتماعية، والتاريخية، والقانونية، والأخلاقية، والأدبية، واللغوية ودراسات الاتصال، وغيرها، وأدار النقاشات في المجال العام الغربي من خلال عدد كبير من المقالات، والمحاضرات، والمقابلات، بوصفها وسائل يسهل معها عرض ومناقشة القضايا المختلفة. ولتبيّن حقيقة مواقف هابرماس خلف إنتاجه المعرفي الضخم، كان عليّ أن أبحث في عشرات المقالات التي كتبها، والمقابلات التي أجريت معه، والمحاضرات المكتوبة والمصوّرة التي ألقاها، والتي تبيّن لي معها أنه يغيب عن هابرماس اهتمام حقيقي بالقضايا التي تخصّ "دول العالم الثالث" في ذاتها، إلا حين تكون تلك الدول حقلًا مناسبًا لنقد الممارسات والسياسات الغربية، وهو إن كان نادرًا ما يظهر انحيازه لإسرائيل فإنه كان غالبًا يمتنع عن توجيه النقد لها.

فما هي الأسباب الذاتية والموضوعية الكامنة وراء ذلك؟



 


هابرماس: محطات عامة

تتضافر أعمال هابرماس الأكاديمية والتزاماته السياسية معًا من خلال نظرة عالمية تتوسّع في أفكار فيلسوف التنوير في القرن الثامن عشر إيمانويل كانط. وينتمي هابرماس إلى النظرية الاجتماعية النقدية التي طوّرها في عشرينيات القرن الماضي الجيل الأول من روادها أمثال ماكس هوركهايمر، وثيودور أدورنو، وهربرت ماركوز، وغيرهم، ويعتبر هابرماس الممثّل الأكثر شهرة للجيل الثاني، وقد فرض حضوره في النقاشات الفكرية الرئيسية داخل ألمانيا منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وفي عام 1953 وعبر مراجعته لكتاب مارتن هايدغر "مقدمة في الميتافيزيقا" تصدّى هابرماس لتعاطف هايدغر مع النازية.

أثرّ تحديثه للنظرية الماركسية على احتجاجات الطلاب الألمان في الستينيات من القرن العشرين، وكان أحد المنظّرين للحركة الطلابية، لكنه انفصل عن نواتها الراديكالية عام 1967، محذّرًا من "فاشية يسارية"، بعد أن تخلّى عن الطموحات الثورية، ليطوّر سياسة عملية تتوافق مع دولة الرفاهية الأوروبية الديمقراطية قبلت وجود كل من الملكية الخاصة، والتنوع الحتمي لفصائل مجموعات المصالح في النظام البرلماني.

انخرط هابرماس أواسط الثمانينيات من القرن الماضي في ما عرف "بنزاع المؤرّخين" حيث كان هناك من يصرّ على أن ألمانيا الغربية دولة "طبيعية" يجب أن يكون لها تاريخ "طبيعي" من شأنه أن يلهم الكبرياء القومي، وفي مقابل هؤلاء كان هناك من أصرّ على أن ذكرى الحقبة النازية لا يمكن "تطبيعها" وأن تكون مصدر فخر وطني. حذّر من مخاطر القومية الألمانية التي تشكّلها إعادة توحيد ألمانيا 1989-1990، ونادى بديمقراطية دستورية فوق وطنية في الاتحاد الأوروبي.

أيّد حرب الخليج عام 1991، وقصف صربيا من قبل منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1999، وعارض الحرب على العراق عام 2003. عارض الاستنساخ البشري، وفيما يتعّلق بالأزمة الاقتصادية لعام 2008 توقّع عواقب مدمرة لها، وأنها كانت إحدى النتائج الكارثية لمرض الحداثة الرئيسي؛ هيمنة "العقلانية الأداتية"، التي ترى العالم من حيث الربح والخسارة، لتتناقض مع "العقلانية التواصلية".

حذّر هابرماس من ردّ فعل الأصوليات الدينية من أي نوع داخل الغرب أو خارجه على العلمنة المُدمَّرَة، ودافع عن حقّ اللجوء خلال أزمة المهاجرين عام 2015، كما ناضل ضد الشعبوية اليمينية، وكراهية الأجانب في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2019.

 

هابرماس يلقي محاضرة في كلية فرانكفورت للفلسفة، 1960



رسالة إلى أميركا

في عام 2002، نشرت صحيفة The Nation، مقابلة أجراها مع هابرماس، داني بوستل، مراسل صحيفة The Chronicle of Higher Education، وتمّت في الولايات المتحدة (1) حيث كان الفيلسوف يعمل أستاذًا زائرًا في إحدى الجامعات الأميركية. في تلك المقابلة، رفض هابرماس شن الحرب على العراق (عام 2003) قبل أن تبدأ، بحجة أنها غير ضرورية وغير قانونية، وحين ذكّره محاوره بموقفه المؤيّد للحرب على العراق عام 1991، وللتدخل العسكري الغربي في كوسوفو عام 1999، ذهب هابرماس إلى أن الجمود داخل مجلس الأمن، ومذبحة سريبرينيتسا غيّرت رأيه فيما يتعلّق بالجرائم ضد الإنسانية، وأن المجتمع الدولي يجب أن يكون قادرًا على التصرّف لوقفها حتى بالقوة العسكرية، إذا تم استنفاد جميع الخيارات الأخرى. أما دعمه لحرب الخليج 1991 فبرّره بأن الغزو العراقي للكويت انتهاك للقانون الدولي، وقد هدّد صدام حسين إسرائيل بالسلاح الكيميائي. هنا يبدو الأمر ملتبسًا، فهل المسألة عند هابرماس هي تهديد صدام لإسرائيل أم لاستخدامه السلاح الكيميائي؟ هل كان هابرماس سيؤيد الحرب لو أن صدّام حسين لم يهدّد إسرائيل أو أنه هدّد دولة أخرى بالسلاح الكيميائي؟

بخصوص حرب عام 2003، رأى هابرماس أنه لا ينبغي للإدارة الأميركية، أن تشن حربًا على العراق دون دعم قاطع من الأمم المتحدة، وتفويض من مجلس الأمن، وأنه ليس من جدوى لعمل عسكري في غياب التزام طويل الأمد من منظور واقعي للتعامل مع المشاكل التي تنفجر باستمرار في الشرق الأدنى، وأن مجرد قصف الرئيس صدّام حسين في قصوره، وترك "التنظيف" للآخرين، لا يفي بالغرض. صحيح أن هناك توجهات داخل الإدارة الأميركية لتغيير نظام صدام حسين، لكن رغم ما تروّجه الدعاية الحكومية الأميركية، فإن العراق ليس أفغانستان، ولا توجد أدلة قاطعة على تورط هذا النظام في أعمال إرهابية محددة. لقد أعلن بوش حربه على الإرهاب، كما يضيف هابرماس، بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، لكنه أعاد تعريف ظاهرة الإرهاب في مصطلحات مألوفة إلا أنها مضلّلة إرضاء للتوقع الشعبي "أنه يجب القيام بشيء ما". لقد وجه الداخل الأميركي السياسة الخارجية للرئيس بوش.

وفي مقابلة مطوّلة أجرتها معه الباحثة الأميركية من أصل إيطالي، جيوفانا بورادوري (2)، ذهب هابرماس إلى أن نمط الإرهاب الذي تجلّى في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر ليس لديه أهداف واقعية، ممّا يسقط عنه المضمون السياسي، لكن الحرب عليه تمنحه شرعية سياسية، وأعرب عن قلقه من خسارة محتملة لشرعية الحكومات الديمقراطية الليبرالية وأنها تعرّض نفسها لخطر أكبر حين تفرّط في ردة فعلها ضد عدو مجهول، كما أن عسكرة الحياة العامة، بتأثير تلك الحرب، قد تقوّض دستورية الدولة والمشاركة الديمقراطية.

وفي معرض توصيفه لظاهرة الإرهاب العالمي كما تجلّى في 11 أيلول/ سبتمبر اعتبر هابرماس ما أسماه بـ"الإرهاب الفلسطيني" بأنه أحد معاني "الإرهاب من الطراز القديم" وأخرجه من دائرة حركات التحرّر الوطني، وعلّل ذلك بأنه "يتمحور حول القتل وإبادة الأعداء، ولا يستثني النساء والأطفال، حياة في مقابل حياة أخرى، وهذا ما يجعله مختلفًا عن الإرهاب الذي يظهر في صيغة شبه عسكرية، في معارك حرب العصابات التي ميّزت الكثير من حركات التحرّر الوطني، في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي تترك طابعها اليوم على نضال الشيشان من أجل الاستقلال مثلًا. وعلى خلاف هذين النمطين، يحمل الإرهاب العالمي، الذي بلغ أوجّه في هجمات 11 أيلول/ سبتمبر أثارا فوضوية لتمرّد عاجز موجّه ضد عدو لا يمكن قهره، بأي معنى من المعاني الواقعية. النتيجة الوحيدة التي يمكن لهذا الإرهاب الحصول عليها هي صدم الحكومة والسكان وإنذارهم".


في القدس

في عام 2012 زار هابرماس الأراضي الفلسطينية المحتلة، وألقى في قاعة المحاضرات في الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات في القدس، خلال شهر أيار/ مايو، محاضرة في الذكرى السنوية للفيلسوف اليهودي مارتن بوبر. وفي آب/ أغسطس من العام نفسه، أجرت معه صحيفة هآرتس العبرية لقاءً حصريًا (3) في مقرّ إقامته في فندق دان بانوراما بتل أبيب. ورغم أن هابرماس كان قد انضمّ أوائل الثمانينيات إلى حركة معارضة الطاقة النووية في أوروبا، فإنه في تلك المقابلة اعتقد أن كتابة غونتر غراس قصيدته، التي أشار فيها إلى أن الطاقة النووية الإسرائيلية تهدّد السلام العالمي، أمر غير مفهوم، وأن نشرها غير مبرّر، بل كان استفزازيًا، ورغم أنه لا يعتقد أن غراس معادٍ للسامية إلا أن "هناك أشياء لا ينبغي على الألمان من جيلنا قولها".

بقي هابرماس ملتزمًا بمثاله العالمي المتمثّل في ديمقراطية منفتحة وصارمة، كما ألحّ على "الإرادة الجماعية" التي لا يمكن أن تكون موجودة في أي من الهويات التاريخية (الطبقة، والدين، والأمة) التي نَظَمَتْ السياسة الأوروبية، بل يجب أن توجد في نوع جديد من "الهوية الجماعية"، التي هي ليست أوروبية فحسب، بل عالمية، متاحة لكل إنسان دون استثناء. مثلما كان لا بد من توسيع الديمقراطية الاجتماعية من دول معينة إلى قارة موّحدة، كان على الأوروبيين إعادة تصور أنفسهم كأعضاء في إنسانية مشتركة. وطوّر هابرماس مفهوم "الوطنية الدستورية" ورأى أن مواطنيه يجب أن يحوّلوا انتباههم وعاطفتهم إلى دستور ألمانيا الغربية لعام 1949، والتقاليد الديمقراطية الليبرالية الأوروبية الأوسع، وأنهم يجب أن يجدوا هويتهم في "وطنية دستورية" يحتمل أن تكون مفتوحة لجميع البشر، بدلًا من المشاعر الإيجابية أو السلبية حول تاريخهم القومي.

لكن في المقابلة مع هآرتس، حرص هابرماس على التأكيد أن نهجه العام لا يستهدف إسرائيل، فيما يتعلّق منه تحديدًا بمعارضته لحل النزاعات الإثنوقومية من خلال تقسيم الدولة. فحين وُجّه إليه السؤال: "ما رأيك في حل النزاعات القومية من خلال تقسيم الدولة بحيث تكون لكل جنسية دولتها الخاصة؟"، رأى هابرماس أنه وكقضية عامة في النظرية السياسية، فإن حق الأمة في أن تكون لها دولة خاصة بها أمر مثير للجدل إلى حدّ ما. أعلن الرئيس الأميركي ويلسون هذا المبدأ، الذي حدّد بشكل أو بآخر معاهدات باريس للسلام في نهاية الحرب العالمية الأولى، وكانت النتيجة التاريخية كارثية، لأن اختراع دول جديدة أو حدود جديدة، وفقًا لهذا المبدأ القومي، يعني خلق العديد من الأقليات الجديدة وصراعات الأقليات. فمن الناحية المجرّدة وعلى أسس معيارية فقط، يبدو الحفاظ على دولة متعدّدة الجنسيات أو متعدّدة الأعراق حلًا أفضل، وفي نفس الوقت الإصرار على حقوق الأقليات المناسبة أو العمل من أجلها أو بشكل أعمّ على الحقوق الثقافية لتكمل حقوقًا مدنية متساوية. لكنه يضيف أنه مع هذا النوع من التفكير لا يجب أن تستنتج أنه لم تكن هناك أسباب قاطعة لتأسيس دولة إسرائيل في عام 1948؛ واليوم، فإن الحق السياسي لوجود إسرائيل نابع، دون أدنى شك، من أفضل الأسباب المعيارية المتاحة. هابرماس لم يجد هنا أي أسباب معيارية متاحة تمنح للفلسطينيين الحق في أرضهم المحتلة وتقرير مصيرهم فيها، وكأن الموضوع استثناء إسرائيلي فقط.

وحين سئل عن رأيه في السياسة الإسرائيلية، لاذ هابرماس بإجابة سابقة، فرأى أن الوضع الحالي وسياسات الحكومة الإسرائيلية تتطلب "نوعًا سياسيًا من التقييم"، وهو ليس "عمل مواطن ألماني خاص من جيلي". صَمَتَ هابرماس، وتجنّب أي تقييم للسياسات الإسرائيلية، واعتبر إسرائيل استثناء من "الإرادة الجماعية" ليمنحها حقًا في الوجود كدولة على أساس "قومي"، وإن من الناحية المعيارية فقط، دون أن يعبأ بأي استثناءات أو حقوق للفلسطينيين.

اعتبر نولته أن ما سميّ باستئصال اليهود (الهولوكوست) لم يكن غير ردّة فعل على تطرّف الحرب الطبقية السوفييتية وتيمنًا بها وتقليدًا لها

 

الماضي الذي لن يمرّ

تصدّى هابرماس للنداءات التي رأى فيها محاولة للتقليل من أهمية الهولوكوست، وتحويل التركيز منها إلى ضحايا الانتقام السوفييتي من الألمان، وصعودًا لليمين في الثقافة السياسية، فعزّز مكانته كشخصية قيادية في يسار الوسط الألماني.

ففي 6 حزيران/ يونيو 1986 كتب المؤرخ الألماني إرنست نولته (1923-2016) في صحيفة فرانكفورتر تسايتونغ مقالًا بعنوان "الماضي الذي لن يمرّ"، تساءل فيه إن كان هتلر قد ارتكب أعمالًا استعمارية، واصفًا غزوه للاتحاد السوفييتي عام 1941 بالعمل الدفاعي ضد مخاطر الشيوعية، واليهودية العالمية، وأن ما سميّ باستئصال اليهود (الهولوكوست) لم يكن غير ردّة فعل على تطرّف الحرب الطبقية السوفييتية وتيمنًا بها وتقليدًا لها. استنفر المقال كلًا من المؤرخ هانز أورليتش بهلر، والفيلسوف الألماني هابرماس، وقرّرا تقاسم مهمّة الرد على نولته، حيث تولّى هابرماس كتابة النص، وزوّده بهلر بـ"الحقائق التاريخية". في معرض ردّه على نولته، في مقال نشره في "دي تسايت" الأسبوعية، هاجم هابرماس أكاديميين وصحافيين وصفهم، بمن فيهم نولته، بالمحافظين، لينطلق بذلك جدل بين المؤرّخين أثيرت خلاله قضايا وتساؤلات عديدة: هل كانت جرائم النازية فريدة في التاريخ أم أنها لا تختلف عن غيرها من جرائم القرن العشرين؟ هل اتّبع التاريخ الألماني مسارًا خاصًا أودى به إلى النازية؟ هل كانت جرائم النازية ردّ فعل على جرائم الاتحاد السوفييتي كما زعم نولته؟ هل يتحمّل الشعب الألماني عبئًا خاصًا من الشعور بالذنب بتهمة ارتكاب جرائم نازية أم يمكن للأجيال الجديدة من الألمان أن تجد مصادر للفخر في تاريخها؟

بينما أصرّ المحافظون على تطهير التاريخ الألماني، أصرّ هابرماس على الإبقاء عليه تاريخًا لعقدة الذنب، وعلى إبقاء الوعي الألماني حبيسًا لها، فأكّد على حاجة ألمانيا للتعامل مع الماضي المظلم، ومواجهة حقيقة النازية، وعدم تجاهل هذه الحقيقة. فالإثم والمسؤولية، بحسب هابرماس، يُولَدَان في سياق التفاعل اليومي بين الأشخاص وأن "حياتنا الخاصة مرتهنة بشكل الحياة الذي جعل أوشفيتز (أحد أكبر معسكرات الاعتقال والإبادة النازية، بات رمزًا للمحرقة) ممكنًا كنتاج لظروف جوهرية لا عرضية. يرتبط نمط حياتنا بنمط حياة آبائنا وأجدادنا عبر شبكة من التقاليد العائلية والمحلية والسياسية والثقافية يصعب الفصل بينها؛ وهذا السياق التاريخي هو ما جعلنا على ما نحن عليه الآن. فلا أحد منا يستطيع أن ينجو من هذا السياق، لأن هوياتنا كأفراد وكألمان معًا، متشابكة على نحو يتعذّر فصله" (4).

سعى هابرماس إلى مواجهة إرث معاداة السامية للإبادة الجماعية من خلال معالجة ارتباطاتها بظهور الأشكال القومية المؤكّدة للمجتمع السياسي، وصياغة رؤية للمجتمع السياسي ما بعد القومي باعتباره الإمكانية المعيارية لعصرنا.

 

تعرية الصمت

في كتابه "الثقافة والإمبريالية" (5) يذهب إدوارد سعيد إلى أن الماركسيات الغربية في فروعها الجمالية والثقافية تعامت على نحو متماثل عن مسألة الإمبريالية، حتى النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، وعلى الرغم من النظرة الثاقبة والأصيلة لها حول العلاقة بين الهيمنة والمجتمع، وفرص التحرّر عبر الفن، بوصفه نقدا، فإنها صمتت على نحو مذهل عن النظرية العرقية، وعن مقاومة الإمبريالية، ويخشى سعيد من تفسير هذا الصمت على أنه سهو غير مقصود، ليؤكّد أن هابرماس نفسه يعلن في أحد لقاءاته الصحافية في (Left Review The New) أنه "ليس لدينا شيء لنقوله في الحقيقة حول الصراع ضد الإمبريالية وضد البرجوازية في العالم الثالث"، مع علمه أن ذلك إن هو إلا "وجهة نظر محدودة للمركزية الأوروبية" (6).
 


في النيويورك تايمز، كتب الفيلسوف اليهودي الألماني، أومري بوم، تعليقًا على مقابلة هابرماس في هآرتس (7) المذكورة أعلاه، فرأى أن إحجام المفكرين الألمان عن توجيه النقد لإسرائيل أمر مفهوم، إذ يعتقدون أن رفض التعليق في هذه القضية هو أمر مناسب، طالما جعلته المسؤولية الألمانية عن جرائم الهولوكوست كذلك. ورأى أن صمت هابرماس يتحدّث نيابة عن العديد من المثقفين الآخرين، بمن فيهم أولئك الذين ينتمون إلى الأجيال الشابة. لكن برأي بوم أن هابرماس ليس مواطنًا ألمانيًا خاصًا على الإطلاق: "عندما يرفض الكلام مؤّسس فرع من فروع الفلسفة يسمى أخلاقيات الخطاب، تكون هناك عواقب نظرية وسياسية. الصمت هنا في حد ذاته فعل خطابي، وهو فعل عام للغاية".

وفي محاولة تعرية هذا الصمت، يعود بوم إلى مفهوم كانط عن التنوير الذي يراه أنه "خروج الإنسان من عدم نضجه الذاتي"، وهي عملية نمو تتكوّن في إيجاد "الشجاعة" للتفكير بنفسه. ولكي يفكر المرء بنفسه، يجب أن يسعى جاهدًا لتجاوز منظور الالتزامات الذاتية للفرد - الشخصية والتاريخية والمهنية والمدنية - ومحاولة الحكم من "وجهة نظر الجميع" العالمية. يضيف بوم أن "الألماني الذي يرفض التعليق على السلوك الإسرائيلي - يظل وفيًا للالتزامات الخاصة الناتجة عن ماضيه الألماني - يرفض بكل معنى الكلمة اتخاذ موقف التنوير عند تناول الشؤون اليهودية"، إلا أنه من الخطأ أن نعتبر حالة انتقاد ألماني ليهودي، استثناء من فكرة كانط. صحيح أن التنوير منذ بداياته الأولى كان مسكونًا بعلاقته مع معاداة السامية، أي أنه غالبًا ما كان يميل إلى معاملة اليهود وتقاليدهم على أنهم "الآخرون" الأسطوريون في عصر التنوير، إلا أن قمع النقد العام للدولة اليهودية هو أمر خطير يخطو في فخ مألوف، ومهمة المثقفين الألمان، إن وجدت، ستكون، وبسبب التاريخ الألماني تحديدًا، هي إشراك إسرائيل في مجال النقاش العام العقلاني. لن تتحقق هذه العودة إلى كانط قبل أن يجد المثقفون الألمان الشجاعة للتفكير والتحدّث عن إسرائيل. من الناحية التاريخية، قد لا يكون هذا أقل من الاختبار النهائي لتفكير التنوير نفسه.

ويخلص بوم إلى أنه "سيكون من الحماقة أن يستخف إسرائيلي من جيلي بالقلق الذي يجب أن يواجهه المثقفون الألمان عند اتخاذ موقف تجاه إسرائيل، ولكن إذا كان التفكير التنويري يمكن أن يعمل كإجابة سياسية لماضي ألمانيا، فيجب إيجاد الشجاعة للتغلب على هذا القلق. إن الصمت عن إسرائيل في هذه المرحلة ليس هو الطريق الصحيح، ولا هو طريقة فعالة، لإنصاف تاريخ المحرقة".

هوامش:

1 J. Habermas, Letter to America, The Nation, Nov. 26, 2002: https://bit.ly/3eyL9tL

2 جيوفانا بورادوري، "الفلسفة في زمن الإرهاب"، ت. خلدون النبواني (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 65 -92.

3 Noa Lemone, Germany's Most Important Living Philosopher Issues an Urgent Call to Restore Democracy, Haaretz, Aug. 16, 2012: https://bit.ly/3bhs5yf

4  جيوفانا بورادوري، مرجع سبق ذكره ص 43

5Edward W. Said, "Culture and Imperialism" (New York: A Division Of Random House,Inc, 1994). P278

6 هو ما يشير إليه خلدون النبواني، مترجم كتاب "الفلسفة في زمن الإرهاب"، مرجع سبق ذكره، هامش ص 77

7 OMRI BOEHM, The German Silence on Israel, and Its Cost, The New York Times, MARCH 9, 2015: https://nyti.ms/3o1evo1

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.