من أجمل الأقدار الصحافية الجميلة التي عشتها في حياتي المهنية دخول قاعة سينمائية باريسية ليست ككل القاعات، وحضور فعالية فنية وسياسية ليست ككل الفعاليات في ظرف ليس ككل الظروف. وتم ذلك في أول فرصة ثقافية مكّنتني، ومكّنت أهل الفن السابع، من معانقة العتمة الساحرة في جو كله احترام حضاري. هذا الجوّ كان في قاعة "لا كلي" (المفتاح) المحاذية لجامعة السوربون الجديدة ومسجد باريس الشهير الشامخ في الدائرة الخامسة، التي احتضنت مؤخرًا يومًا سينمائيًا خُصّص للحراك الجزائري في إطار مهرجان مغرب الأفلام وبالتعاون مع مدينة باريس. ولم يكن الجمهور الذي لم يتجاوز 30 متفرجًا في الفترة الصباحية مجبرًا على الدفع كما يتم مع القاعات التجارية الاعتيادية.
8 أفلام وحراك واحد
لم يكن من السهل مبدئيًا على المتفرجين الذين كانوا مجبرين على ارتداء الكمامة، مشاهدة ثمانية أفلام تسجيلية في يوم واحد رغم قصر بعضها، وتمكنهم من استراحة ساعة ونصف الساعة سمحت لهم بنزع الكمامة أثناء تناول الغداء في مطعم مجاور فتح فضاءه الخارجي للزبائن في إطار رفع الإجراءات الصحية السائرة في طريق الانفراج الذي سيضمن العودة إلى حياة عادية في حال عدم حدوث تطوّر سلبي يعيدنا إلى نقطة الصفر. لم يكن الأمر سهلًا أيضًا، إذا عرفنا أن النقاش الذي برمج بعد عرض الأفلام لم يكن في مستوى انتظار كاتب هذه السطور، بسبب تحوله إلى ندوة سياسية شبه خالصة عن الحراك، وليس للرد على سؤالين جدليين ومنهجيين يفرضهما عنوان المقام هما: إلى أي حدّ وُفّق مخرجو الأفلام في معالجة الحراك الجزائري سينمائيًا؟ وهل عكسوا فعلًا كل جوانبه المتداخلة بمقاربة فكرية عقلانية وليس بحماسة عاطفية شبه خالصة ومنحازة وغير بريئة كما حدث في أكثر من فيلم؟ للأسف الشديد، ورغم بعض التلميحات الفنية الخاطفة والسريعة لعلاقة الحراك ببعض الأفلام، لم يكن حال الندوة كذلك، وعوض ضمان نسبة معينة من التوازن بين الحراك كتعبير سياسي عن الظلم والتوق إلى الحرية، وبين التناول الفني المقبول الذي يضمن مرور الرسالة، راح معظم المخرجين ينسجون على منوال واحد مظهرين مشاهد حالة ثورية غير مسبوقة جزائريًا وعالميًا فعلًا، لكن في ثوب تسجيل مكرر ومستهلك طغى في معظم الأفلام، الأمر الذي لا يلغي قوة وخصوصية ونجاح بعضها في مقاربة الحراك بشكل إبداعي وفق صاحبه في المسك بطرفي معادلة الالتزام الأيديولوجي والإبداع الفني.
لم يتوقف أمر الصعوبة سيكولوجيًا ووظيفيًا على الأمر المذكور الأول، إذا أضفنا عناصر التكرار والتقاطع والخلفيات الأيديولوجية الطاغية التي تحوّل التظاهرة إلى دعاية سياسية محضة يدفع ثمنها المتفرج غير المتقبّل للالتزام السياسي الذي يضحي أصحابه بالمتعة الفنية وبالمهارات الجمالية، التي أكد عليها الكاتب والمنظر المسرحي الألماني الشهير برتولد بريخت، كشرط حيوي يضمن مرور كل أنواع الاتصال بما فيها المسرح، كما ألح في مجال الإعلام مارشال ماكلوهان صاحب مقولة "الوسيلة هي الرسالة". كما كان منتظرًا، وكما حدث في أغلب الأحيان بباريس الموظفة للديمقراطية على مقاس مصالحها التاريخية والتي لم تتغير كما أثبتت ذلك نهاية ما يسمى عملية "بركان" العسكرية في مالي هذا الأسبوع، لم تكن كل الأفلام موفقة فنيًا رغم إيجابيتها المبدئية كحدث نادر في ظرف صعب اجتماعيًا وفنيًا، وكان التسجيل باسم السينما أقرب إلى الدعاية السياسية المزدوجة المعايير والمقولبة من منطلقات أيديولوجية مستهلكة لا تخدم أصحابها ولا الحراك سياسيًا وفنيًا.
"شظايا حلم".. الأول والأجمل
أول نقطة تسجل لصالح التظاهرة وللمبرمجين، تكمن في فكرة افتتاح التظاهرة بفيلم "شظايا حلم" للمخرجة بهية بن شيخ الفقون. مبدئيًا الفيلم (ساعة وربع) تحفة سينمائية شفافة كشفت بوضوح عن موهبة فنية وفقت صاحبتها في السيطرة على الإيقاع العام للفيلم، وهو الشرط الذي غالبًا ما يؤدي إلى اختلال أي عمل إبداعي ينسحب على كافة أشكال التعبير الفني والأدبي باعتباره قاعدة القواعد. ونجحت في توظيف شبه كامل لكل العناصر الفنية المطلوبة، وفي تمكنها من السيطرة على اللحظات الزائدة بتغيير مجرى المقاربة التسجيلية بمرافقة موسيقية تعبر عن المشهد الجديد. ووقفت المخرجة ببراعة فنية عامة لافتة عند تفاصيل تطال حتى الصمت الناطق بسيكولوجية وسوسيولوجية شخصيات بسيطة غارقة في الهم الجمعي، ومن بينها شخصية نجم احتجاج ورقلة المدينة، التي شكّلت وحدها حراكًا جنينيًا وكافيًا لتعرية سلطة فاقدة للضمير وللكفاءة وللمسؤولية، وما شخصية الشاب الذي طرد من العمل وسجن بتهمة زرع الشغب والإخلال بالأمن العام إلا إحدى شظايا أحلام وطموحات مشروعة ما زالت تجهض حتى كتابة هذه السطور. بغض النظر عن مقاربة الأزمة السياسية الجزائرية "بعقدة" الإسلاميين المقدمين وحدهم ككتلة متجانسة في كل الأحوال بعيدا عن جدلية الواقع الأيديولوجي العربي والعالمي المعقد الذي أفرزهم ووظفهم في الوقت نفسه، وكإقصائيين بطبيعة معتقدهم الديني في تناقض مع العسكر الذين وظفوهم مشتتين كما فعلوا مع الديمقراطيين، وحظوا بتأييد الطرفين المتناقضين الأمر الذي أساء للديمقراطية ماضيًا وحاضرًا وخدم وما زال يخدم السلطة الخبيرة في اختراق الإخوة الأعداء، بغض النظر عن كل ذلك، تبقى مقاربة المخرجة مقبولة ما دامت هذه العقدة قد أصبحت ملازمة لكل أنواع الإبداع الفني والأدبي المقدم من منظور حداثي ونخبوي ضيق ومعطوب في تقديرنا المتواضع، وقول الكاتب والصحافي أرزقي مترف، خلال النقاش الذي أعقب عرض الأفلام، عن وعي أو عن غير وعي أو عن قناعة راسخة: "إن حراك الأفلام أثبت أن الشارع قد تجاوز النخبة"، دليل على أن الحراك لم يذهب ضحية الإسلاميين فقط.
عادل صياد.. رمز ثوري معرب
فيلم بهية بن شيخ الفقون قوي بمضمون الحوارات المتميزة التي أجرتها مع نشطاء وفنانين وكتّاب لا يمثّلون بالضرورة فسيفساء الواقع الثقافي والأيديولوجي الجزائري باستثناء الشاعر عادل صياد، المبدع الذي شرّف لغة الضاد بثورية محسوبة فرنسيًا عادة على أهل الناطقين بلغة فولتير فقط، والتي تعتبر عند بعض كتابها اليساريين لصيقة بإسلاموية رجعية الأمر الذي فندته المخرجة بهية بشخصية تعد عصارة البؤس الذي يمكن أن يطال المثقف غير المدجن. عادل صياد الذي ظهر مشردًا وشارد الذهن في حلة سيكولوجية تراجيدية وفي صورة جنتلمان يئس من مجتمع لا يعرف ثقافة الورود على حد قوله، يكفي وحده ليذكرنا أن فيلم "شظايا حلم" أهم وأجمل فيلم قُدّم عن الظلم والتطرّف الأصليين والمؤديين حتمًا إلى كل أنواع التمرد الأيديولوجي كاستجابة "بافلوفية" شبه شرطية، كما أنه الفيلم الذي أنقذ ماء وجه مثقفين معربين متهمين بالسلبية والتقاعس والتبعية والانتهازية في دوائر فرنكوفيلية تضيق صدورها بكل ما هو عربي في جزائر كانوا يتمنون أن يطغى فيها الحرف اللاتيني. لأن صياد معرب حداثي وليس من الباديسين والنوفمبريين الذين يطعنون في أمثاله رغم أنه لا يجيد اللغة الفرنسية مثلهم، ظهر في شكل مفاجأة سارة أثلجت صدر كاتب هذه السطور، ونفت صحة اعتقاد الكثير من الحاضرين غير المعربين أن مثقفي اللغة العربية غير ديمقراطيين لأن لغتهم هي لغة القرآن الكريم الذي أصبح مرادفًا للإرهاب والتطرف بالضرورة في فرنسا إريك زمور بحسب جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي وأشهر وزراء الثقافة الفرنسيين بعد أندريه مالرو.
ظهور عادل صياد كان صدمة إيجابية صاعقة لأصحاب الذهنيات الفرنكوفيلية المعلبة، وشكّل وحده حراكًا سياسيًا وثقافيًا داخل كل جوانب الحراك الكبير الذي قاربه بعض المخرجين بخلفيات وأفكار الفارض لوصاية استعمارية الجوهر. فيلم بهية بن شيخ أحدث اختراقًا جديرًا بالتنويه بعادل صياد وبشبان مقهورين اجتماعيًا تجاوزوا مشكلة اللغة التي يتصارع حولها مثقفو الصالونات والمعارض والولاءات المشبوهة والازدواجية العرقية والفكرية، وكانت بن شيخ مختلفة إلى حد ما عن مخرجين حاولوا ربط الحراك بمثقفين وبنشطاء معينين دون غيرهم، كما فعل مصطفى كسوس في فيلم "الجزائر حبي" الفرنكو جزائري، ثاني أطول فيلم تسجيلي في تظاهرة القاعة السينمائية المهمشة (52 دقيقة). أخيرًا وليس آخرًا... صوّرت بهية جزائر عميقة ومتنوعة وديمقراطية مثلها شبان ورقلة أو أثينا الجزائر (مدينة تقع جنوب الصحراء) في اجتماع التحضير لمظاهرة أمام مقر "سونطراك" الأقارب والعقارب (أكبر شركة جزائرية وأفريقية متخصصة في المحروقات)، وقول أحدهم: "لا نعيش كما نحب، ولكن نموت كما نحب"، واستشهاد آخر عاطل عن العمل بالعلامة عبد الرحمن الكواكبي في حديثه عن الاستبداد، وأغاني شبان الملاعب ومقاطع من مسرحية "بابور غرق" للمسرحي الكبير سليمان بن عيسى، كلها مرجعيات لشظايا أحلام انفجرت في وجه صناع متلازمات الفساد، على حد تعبير الكاتب مايكل جونستون في كتاب شهير له.
جميلة المشردة: الحراك أحياني
من الأفلام القصيرة اللافتة والمتميزة إنسانيًا وسياسيًا ورمزيًا وليس فنيًا بالضرورة، فيلم "جميلة في زمن الحراك" الفرنكو جزائري (7 دقائق) لعبد الرحمان حرات. جميلة التي وجدت نفسها مشردة بعد وفاة زوجها، وعاشت في العراء بجانب النفايات وفضلات المتسكعين تغني للقطط وللكلاب، اكتشفت حياة ثانية في حراك يطالب أصحابه بحياة كريمة تحفظ كرامة نساء لم يخترن مصيرهن المرفوض أخلاقيًا واجتماعيًا بسبب جنسهن الذي يجب أن يبقى حبيس المطبخ في نظر أعداء من ولدتهم. جميلة التي سرقت أغراضها البائسة وعانت من نظرات الريبة والشبهة، خرجت هي الأخرى إلى الشارع منضمة إلى نساء نخبويات وبسيطات متحجبات وسافرات تأييدًا لحراك شعبي سلمي لم يمت، كما يعتقد أعداء الحرية والمواطنة للجميع بغض النظر عن هوية هذا أو ذاك. فيلم آخر شذّ عن قاعدة التوظيف الأيديولوجي المغرض، يتمثل في "حديث مع حراكي" لفتحي بن مختار. الفيلم الجزائري المحض (22 دقيقة)، إطلالة طريفة على معرض شعارات ومقولات أدبية وفنية وفكرية لمبدعين عاشوا من أجل كرامة الإنسان. فتحي المعرب الذي تحدّث للكاميرا بلغة فرنسية يصعب فهمها، ساهم هو الآخر في كسر الصورة النمطية عن المعرب المحافظ والمدجن، وساهم في حراك شعبه بتصميم شعارات خرج بها إلى الشارع في وهران، ولم يزره الكثير من الناس في محله البائس خوفًا من الملاحقة الأمنية، كما قال. فيلم "الهدف هو الحراك" الفرنكو جزائري (نصف ساعة) هام جدًا من منظور الدور الذي لعبه المصوّرون في التأريخ للحراك الشعبي، أما أفلام "يوتوبيا.. حكاية جزائرية" الجزائري لفتحي صحراوي (7 دقائق)، و"الجزائر... وعود الفجر" الفرنسي لجولي بيرار وصونيا عمران (53 دقيقة)، و"الجزائر ثورة 2. 0" الجزائري لعبد الرحمان حيان، فكانت تسجيلًا تقليديًا لفصول ملحمة حراك تاريخي لعبت فيه سخرية الجزائريين دورًا مرجعيًا في تشخيص مأساة وطنهم التراجيكوميدية.