}

اللغة سكّينًا.. قراءة في أدب آني إرنو

دارين حوماني دارين حوماني 12 أكتوبر 2022
تغطيات اللغة سكّينًا.. قراءة في أدب آني إرنو
إرنو خلال مؤتمر صحافي بباريس لفوزها بنوبل (Getty, 6/10/2022)



في تقديمها لترجمة رواية "المكان" (1983) إلى العربية تكتب الروائية الفرنسية آني إرنو، التي حازت على جائزة نوبل للآداب الأسبوع الماضي، إلى القارئ العربي: "إذا كان ثمة تحرّر عبر الكتابة، فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناس مجهولين في تجربة مشتركة. ولمن يعيش ممزقًا بين ثقافتين ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة وجعله، في النهاية، لا يُنسى". وهكذا كانت آني إرنو تفعل دائمًا، وعبر ثلاث وعشرين رواية، هي لا تكتب فقط حكاياتها الدفينة بقدر ما كانت تحوّل هذه الأشياء المجروحة إلى معنى لنا جميعًا، تُشركنا بها لنشعر أن لكل منا حصة من هذه الجروح، وأن لنا علاقة بها كما لها هي علاقة بأحداثها وحكاياتها. كتاباتها بسيطة، إكلينيكية في دقتها، نوع من الحفر في خرائط حياتها، ومن خلال فعل الكتابة لا تفكّك آني إرنو قلقها فحسب، بل تفكّك قلقنا أيضًا. إنها تحكي عن تجارب خاصة بها وبالكثير منا، تلك المخزية أو ربما الموصومة بالعار، أشياء تشبه الاعتراف الذي لا يمكن أن نحكيه لأي كائن، تفلشه أمام الجميع بجرأة وحرية وقوة، "ما يهم ليس الأشياء التي تحدث، بل ما نفعله بها"، هكذا تُفهمنا إرنو تجاربنا الضاربة في العمق لنكون أمام عالمة إثنولوجيا، كما تقول عن نفسها، وليس حكّاءة فقط.

كتب جان جاك روسو تأملاته وكتب جان بول سارتر كلماته لكن آني إرنو جسّدت أبعادًا أخرى للسيرة الذاتية عُرف بما يسمى التخييل الذاتي، وكان الكاتب الفرنسي سيرج دوبروفسكي أول من استعمل هذا المصطلح عام 1977 في روايته "خيوط". سنتعرّف على أرشيف حياة هذه الكاتبة الاستثنائية، من مكان آخر، سلسلة متوالية من الروايات التي لا تتعدى المئة صفحة لكل رواية. مئة صفحة تراقب عن كثب كلًا منا، تجارب لا نتجرأ على تسجيلها حتى في ذاكرتنا، أن نعود حتى لتفحصها، العلاقات العاطفية، الإجهاض، الاغتصاب، الإحساس بالخزي، الاغتراب عن الأم والأب، الإدمان الجنسي، العادة السرية، والعلاقة مع الآخر.. مذكرات تستنفد كل أحاسيسنا ونحن نقرأها كأننا نقرأ قصاصات ورق من حياة كلّ منا.. نحن أمام مجموعة من المرايا، ننظر إليها لنجد أن هناك أيضًا من يحدّق في وجوهنا.. سيجد القراء أنفسهم في الروايات، أولئك الذين يعانون من نفس الفجوات العاطفية والنفسية والاجتماعية.





المرأة هي بطلة روايات إرنو، تبحث على طريقتها الخاصة في الاختلاف الطبقي والتمييز الاجتماعي، تطالب بحقوق النساء على طريقتها. هي كاتبة نسوية تغذيها الماركسية والوجودية والظاهراتية، وهي تعتبر أم الأدب الاجتماعي المعاصر، تقول إنها "تكتب شيئًا ما بين الأدب وعلم الاجتماع والتاريخ"، و"تستخدم اللغة كسكين". تعكس رواياتها مسارها الاجتماعي وتحكي عن خيانة الطبقية والعار الاجتماعي وكيف أن المراقبة الذاتية والخوف من وصمة العار يمكن أن تخلق مشاعر دائمة من انعدام الأمان النفسي والأمن الاجتماعي.

ضمير المتكلّم

تختار آني إرنو ضمير المتكلم للكتابة، لها القدرة على أن تحكي عن نفسها من مسافة قريبة وبعيدة في آن. ضمير المتكلم يحقّق لنا حقيقة وواقعية الأحداث، لا تخييل، سرد من داخل الأنا، تلك الكتابة الخام من دون أي إضافات، كأنها تنظر إلى صورة قديمة تخصها وتشرّح لنا ندوب الصورة بوضوح جارح، دون أن تختفي أي مساحة من الذاكرة. يصف النقاد الفرنسيون أسلوبها بـ"الكتابة البيضاء"، تلك اللغة التي لا تخون. تقول في روايتها "مذكرات فتاة": "أحاول أن أكون في الداخل، أن أكون هناك في تلك اللحظة بالذات، دون أن أتسرّب إلى ما قبل أو بعد، أن أكون في جوهر اللحظة الصافية". وفي روايتها "الحدث" (2000) تقتبس إرنو قول الكاتبة اليابانية يوكو تسوشيما: "قد لا تكون الذاكرة إلا تحديقًا في الأشياء حتى نهايتها"؛ وفي كل رواية ثمة اقتباس يوصلنا إلى الداخل، تختار في رواية "المكان" لجان جينيه عبارة: "أغامر بتفسير: الكتابة هي الملاذ الأخير لمن خان"، وفي رواية "الاحتلال" ستختار لجان ريس إحدى عباراته التي ستحققها هي من خلال شجاعتها وجرأتها في سرد حياتها الخاصة: "لو امتلكت الشجاعة كي أذهب إلى أقصى ما كنت أشعر به لانتهى بي الأمر باكتشاف حقيقتي الذاتية، حقيقة الكون، حقيقة كل هذه الأشياء التي لا ينتهي بها الأمر بإدهاشنا بأن تسبّب لنا الألم".





إذًا نحن أمام روايات أوتوبيوغرافية وكائنات لا تتنصل من ماضيها، بل تجرّ ذلك الماضي إلينا من خلال يومياتها وملاحظاتها ومذكراتها. وفي كل عمل لها هناك هدف خلف هذه التعرية للماضي، كأن ثمة ما في داخلها، إلحاح ما، للكتابة، الكتابة بالنسبة إليها استكشاف لذاتها ومن خلالها استكشاف للعالم كله، كأنها اختارت الكتابة كفلسفة معاشة. تقول في روايتها "الضياع" (2001): "الكتابة كانت بمثابة نوع من الأخلاق بالنسبة لي. لقد سامحت زوجي على السعي وراء المتعة لأنه لم يكتب. ما الذي يمكنك فعله أيضًا حين لا تكتب. تأكل وتشرب وتمارس الحب". وتقول في روايتها "الحدث": "ما وراء كل الأسباب الاجتماعية والنفسية التي يمكن أن أجدها في كل ما عشته هناك سبب أنا واثقة منه أكثر من أي شيء آخر: الأشياء حدثت لي كي أدرك معناها ولعلّ الهدف الحقيقي في حياتي هو فقط التالي: أن يتحوّل جسدي وأفكاري وحواسيّ إلى كتابة إلى شيء واضح وشامل إلى وجودي الذائب بأكمله في أذهان الآخرين وحياتهم"، ثم نسمعها تقول لنا: "ما الهدف من الكتابة، إن لم يكن الكشف عن الأشياء؟".

روايتها "الحدث" تحكي عن محاولة إجهاض لشابة حملت من حبيبها الذي لم يعد يريد غير التخلص من علاقته بها ومن الجنين، وفي زمن كان ينصّ القانون فيه على أن الإجهاض جريمة يُعاقب عليها المشاركون فيه، الفاعل والأطباء والصيادلة والمرأة التي أجهضت والمحرّضون على الإجهاض. هي ليست سيرة ذاتية فقط، إنها تأريخ لمرحلة من مراحل التغيير الاجتماعي والثقافي في أوروبا، تقول في الرواية: "كانت والدتي تنتمي لجيل ما قبل الحرب، جيل الخطيئة والعار الجنسي وكنت واثقة من أن معتقداتها مقدّسة".. تم تحويل الرواية إلى فيلم بنفس العنوان عام 2021 من إخراج الفرنسية أودري ديوان، وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي في العام نفسه.

عملت المخرجة اللبنانية الفرنسية دانيال عربيد أيضًا على تحويل روايتها "شغف بسيط" (1993) إلى فيلم بنفس العنوان عام 2020. الرواية التي تحكي عن عدد لا يحصى من مشاعر الحب والرغبة والشغف في أسلوب صارخ وقاسٍ يكشف عن الهوس العاطفي والجنسي في علاقة امرأة مع رجل متزوج لمدة عامين، تصوّر إرنو من خلالها ما نشعر به عندما يكون لدينا حياة نعيشها بالكامل من أجل شخص آخر. تقول في روايتها هذه: "يتراءى لي أن على الكتابة أن تميل إلى هذا الأمر، على هذا الانطباع الذي يولده المشهد الجنسي إلى هذا القلق وإلى هذه الدهشة، على تعليق الحكم الأخلاقي". وقد وصف بعض النقاد الفرنسيين إرنو بأنها مؤلفة فاحشة، ذلك الفحش الجنسي الذي يضاف إلى الفحش الاجتماعي "المنشق عن الطبقة"، وأنها تقطع التسلسل الهرمي الأدبي وتكتب عن عمد "ما دون الأدب" من خلال الخوض في أدق تفاصيل هذه الموضوعات.

من الأفلام المنتجة عن روايات لآني إرنو "الأعوام"، "الامرأة الأخرى"، "الحدث"، و"شغف بسيط"



وفي روايتها "الاحتلال" (2002) تحتل ثيمة الغيرة أحداث الرواية، فبعد انفصالها عن زوجها وبرغبة منها ستجد نفسها تشعر بالغيرة حين تعلم بوجود عشيقة له. غيرة قاتلة تعلن بعدها أنها أصبحت محتلة ومملوكة من عشيقة زوجها "في مثل هذه اللحظات، كنت أشعر بكل هذا التوحش البدائي الذي يتصاعد مني"، كأن إرنو تتخذ من المدرسة الوحشية في الفن أسلوبًا لها في الكتابة، بشراستها في وصف أعمق المشاعر وبلغة واضحة دون أن تستثني أي ألم. عام 2008 حوّل المخرجان الفرنسيان باتريك ماريو برنارد وبيير تريفيديك الرواية إلى فيلم بعنوان "الامرأة الأخرى" وتم ترشيحه لعدد من الجوائز وحازت الممثلة الفرنسية دومينيك بلانك على جائزة أفضل دور رئيسي في مهرجان البندقية السينمائي عام 2008.

عام 2014 وثّق المخرج البرازيلي/ الفرنسي نارونا كابلان دو ماسيدو جانبًا من مذكرات آني إرنو في فيلم "عطلة نهاية الأسبوع في المول" مستوحى من رواية "أنظر إلى الأضواء يا حبيبي" (2014)، وتحكي إرنو في الرواية عن زياراتها لأحد مراكز التسوق في الضاحية الباريسية، وتستحضر أول مرة دخلت فيها إلى مركز للتسوق خلال تواجدها في لندن عام 1960. تنظر إرنو إلى مراكز التسوق ليس بكونها مكانًا تجاريًا بل مساحة للتبادل الانساني الجميل، حيث تروي مشاهداتها لكل ما تصادفه. تقول في كتابها: "أن نرى لكي نكتب يعني أن نرى بشكل مختلف، ما أكتبه ليس بحثًا استطلاعيًا، ولا تحريًا منهجيًا، إنما يوميات، ما ينسجم على الأكثر مع مزاجي الذي يميل إلى الالتقاط الانطباعي للأشياء والناس، وللأجواء، كتابة حرة في إبداء الملاحظات والمشاعر، محاولة مني للإمساك بشيء ما من الحياة الدائرة هناك.. بالتأكيد نستطيع كتابة قصص من الحياة من خلال المتاجر الكبرى الشاسعة التي نرتادها، فهي تشكل جزءًا من مشهد الطفولة... المخزن الكبير بالنسبة لكل الناس مكان أليف يتداخل استخدامه مع الحياة، غير أننا لا نقدّر أهميته على أساس علاقتنا بالآخرين وطريقتنا في "صنع المجتمع" مع معاصرينا في القرن الحادي والعشرين".

آني إرنو مع ابنها المخرج ديفيد إرنو وملصق الفيلم "الأعوام الثمانية المذهلة"



خصوصية قرن

تعتبر آني إرنو أن كل أعمالها كانت تمهيدًا لروايتها "الأعوام" (2008)، التي تمثّل السيرة الذاتية ملتحمة بالوعي الجمعي. محطات مختلفة من حياتها منذ المراهقة حتى التقاعد. استخرجت خصوصية القرن العشرين بحروبها المدمرة وبالتطور التكنولوجي ووضعتها في رواية تحمل أبعادًا متعددة تحكي فيها عن انتقالها من الريف إلى العاصمة وعن العشق والاحتكاك الجسدي مع الرجال، والانتقال من الحياة المتواضعة إلى الحياة البرجوازية، عن الحرب العالمية الثانية والحروب الباردة وفرانسوا ميتران ولوينيل جوسبان وآخرين، مركزة على حقبة السبعينيات. عام 2018 اشتغلت المخرجة الإيطالية سارة فغاير على وثائقي عن آني إرنو مستوحى من روايتها "الأعوام" وعنونته بنفس الاسم، وقد تم ترشيحه لعدد من الجوائز العالمية وحاز على جائزة الفيلم الأوروبي عن فئة أفضل فيلم قصير عام 2019.

وهذا العام شاركت آني إرنو مع ابنها ديفيد في إخراج فيلم "الأعوام الثمانية المذهلة" الذي يسرد بكلمات إرنو العقد الأكثر إثارة في حياتها المهنية والشخصية، وكذلك ضمنيًا الجغرافيا السياسية والاضطرابات العالمية، ويؤرشف لصور من حياتها بين العامين 1972 و1981. تحكي إرنو في الفيلم عن 60 عامًا من الكتابة، وعن أماكن ممزقة من الذاكرة، وعن مرور الزمن كأننا أمام شظايا صور من ماضٍ سحيق. فيلم يغذي فينا كل إيماءة من وجه آني إرنو حيث كل إيماءة هي اعتراف حميمي آخر عن تلك الفترة من حياتها قبل انفصالها عن زوجها. وكانت إرنو قد انفصلت بقرار منها عن زوجها عام 1981 بعد ستة عشر عامًا من الزواج وكان لها ابنان.

إسرائيل دولة فصل عنصري

لا شك في أن كل عمل لآني إرنو كان يحمل ثيمة وهدفًا ويجلب معه جدلًا في الأوساط الأدبية لجرأته ومكاشفته للواقع وكيفية مقاربته للوجود الفردي، لكن موقفها حيال فلسطين لربما يكون الأكثر إثارة وجدلًا، فقد أيّدت مرارًا سياسة مقاطعة إسرائيل، وفي عام 2018 وقّعت رسالة مع حوالي 80 فنانًا يعارضون فيها إقامة الموسم الثقافي الإسرائيلي- الفرنسي من قبل الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية. وفي عام 2019 وقّعت على خطاب يدعو شبكة البث الفرنسية المملوكة من الدولة، إلى عدم بث مسابقة الأغنية الأوروبية ("يوروفيجن") التي أقيمت في إسرائيل في ذلك العام. وفي عام 2021، بعد عملية "حارس الأسوار" (العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة)، وقّعت إرنو رسالة أخرى وصفت إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري، وصرّحت: "إن تأطير هذه العملية على أنها حرب بين طرفين متساويين هو أمر خاطئ ومضلل. إسرائيل هي القوة المستعمرة، وفلسطين محتلة".

يُذكر أنه تمت ترجمة ثماني روايات لآني إرنو إلى العربية، بدأت عام 1994 مع رواية "المكان"، ثم تلاها عدد من الترجمات لرواياتها "الحدث"، "الاحتلال"، "البنت الأخرى- لم أخرج من ليلي"، "أنظر إلى الأضواء يا حبيبي"، "شغف بسيط"، "امرأة"، و"مذكرات فتاة".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.