}

والكوت و"البلشون الأبيض".. مؤلّف بحريّ عن العمر والفقدان المتناسل

دارين حوماني دارين حوماني 25 أكتوبر 2022



في وصفه للتطوّر التجاري في موطنه جزيرة سانت لوسيا، وهي مستعمرة بريطانية قديمة تقع ضمن جزر الهند الغربية على أطراف الأطلسي، يقول الشاعر الكاريبي ديريك والكوت (1930-2017): "شاهدتُ الفدّان المشؤوم حيث سيُبنى فندق فخم آخر لا يدخله الناس العاديون/ وسيُثرى صنّاع تاريخنا الجدد/ من دون شعور بالذنب وهم في الحقيقة من سيربح من خطة تحويل الجزيرة إلى مركز تسوّق../ هذه المستعمرات الجديدة قرب البحر/ مجرّد سلسلة لربط الأسوار والعلامات في هذا الانحطاط الجديد/ مع ذلك شعرتُ بحرية كبيرة وأنا أكتب تحت الأكاسيا". هذا الوصف للعالم الجديد واستحضار زمن الاستعمار والعبودية وهذه الرغبة بالعزلة في هذا العالم مع الشعور بالتاريخ وبالزمن مضافًا إليها شعور الشاعر بالشيخوخة والفناء سنقرأها في كتاب والكوت الشعري "البلشون الأبيض" الصادر عام 2010 والذي نال في عام 2011 جائزة إليوت للشعر بوصفه "جاء آسرًا وخاليًا من الخطأ تقنيًا، ومن نظم إلهام شاعر عظيم"، كما صرّحت لجنة الجائزة. ووالكوت أكثر من أي شاعر معاصر آخر، كان يحقق رؤية الشاعر تي. أس. إليوت للشعر وأصواته الثلاثة الغنائية، والسردية أو الملحمية، والدرامية. في عام 2015 نقل الشاعر العراقي إسكندر غريب هذه المجموعة الشعرية إلى لغة الضاد عن دار نشر تكوين بسورية، وهو يعيد إصداره الآن (2022) عن دار لازورد بالعراق، وقد ضمّن المترجم الكتاب مختارات شعرية أخرى للشاعر بعنوان "هنا يكمن الفراغ".

كان والكوت كل تلك الأصوات الإليوتية منذ ديوانه الشعري الأول وهو في التاسعة عشر من عمره حيث ساعدته أمه (المدرّسة) أليكس مارلين بإعطائه مئتي دولار لطباعة أول ديوان شعر له بعنوان "25 قصيدة"، وسيوزّعه بيده على رفاق الشارع والحي والمدرسة بعد أن كان قد نشر أولى قصائده المؤلفة من أربعة وأربعين سطرًا وهو في الرابعة عشرة من عمره في صحيفة محلية "صوت سانت لوسيا". وقد عُرف عن هذه القصيدة أنها ذات نَفَس ميلتوني تدعو إلى معرفة الله عن طريق الطبيعة وليس عن طريق الكنيسة، وقد أغضبت القصيدة أحد القساوسة فكتب ردًا شعريًا إلى ذات الصحيفة يصف فيها قصيدة والكوت بأنها تجديف ميثودي. وكان والد والكوت رسامًا لكنه توفي قبل أن يبلغ الابن العام الواحد، وقد زرعت أمه في نفسه حب والده كقدوة له في الحياة والفن والشعر، فبدأ في وقت مبكر برسم المناظر الطبيعية في الجزيرة بألوان مائية وقد تولّدت موهبته الشعرية هناك، ومن جزيرته هذه ارتحل إلى بلاد كثيرة لكنه لم يأبَ إلا أن يعود ويموت فيها عام 2017 بعد أن أمضى سبعين عامًا وأكثر مخلصًا للشعر والمسرح والفن ولضفاف جزيرته.

الكتاب كما صدر بالإنكليزية وآخر كتب والكوت: "صباح بارامين" (بالاشتراك مع الرسام بيتر دويغ)



يعدّ هذا الكتاب الحزين كما أحب أن أسمّيه نقطة انطلاق رائعة للتعرّف على شعر ديريك والكوت. فلم يُترجم إلا القليل من شعره رغم أنه أصدر أربعة وعشرين كتابًا في الشعر، كما أنه حاز جائزة نوبل للآداب عام 1992، ويعتبر النقّاد أن كتابه الشعري المسرحي "أوميروس" الذي أصدره عام 1990 كان الدافع الأبرز لاختياره لجائزة نوبل، يقول فيه "وبما أنني صاحب قضية/ فسأشارك أعدائي جمال العالم/ على الرغم من أن جشعهم/ يدمّر براءة جزيرتي الآدمية".. وكانت جائزة نوبل قد وصفت هذا العمل بأنه "عمل شاعري ذو إشراق كبير، مدعوم برؤية تاريخية، نتيجة التزام متعدّد الثقافات". والكتاب هو قصيدة ملحمية تعيد تصوير "الأوديسة الإغريقية" لتكون "أوديسة سانت لوسيا" وتكون حرب طروادة معركة صيادين وعمال موانئ ومزارعين من جزر البحر الكاريبي، وقد ترجمه للعربية الكاتب ممدوح عدوان عام 2015 بعنوان "عودة عوليس".

كان شعر والكوت بمتناول النقد والاهتمام الأدبي العالمي منذ ديوانه الشعري "في ليل أخضر: قصائد 1948-1960" الذي صدر عام 1962، فأثناء عمله كأستاذ وناقد أدبي في جزيرة ترينيداد الكاريبية، واصل والكوت كتابة الشعر، وفي النهاية قام بتجميع هذه القصائد التي تحتفي بجمال المناظر الطبيعية في جزر البحر الكاريبي وبثقافتها وتاريخها وندوبها لا سيما في سياق الاستعمار الفرنسي ثم البريطاني، ونُشرت هذه المقتطفات في كتابه هذا، وكان الكتاب طفرة والكوت الأساسية في عالم الأدب. وطوال حياته الشعرية والمسرحية عاد والكوت إلى نفس موضوعات اللغة والهوية والمكان والصراع العنصري والسياسي. ففي عام 1970 عُرضت مسرحيته "حلم على جبل القرد" التي تحكي عن بلاده في ظل الاستعمار، وفازت بجائزة أوبي Obie Award بنيويورك في تلك السنة عن فئة "أفضل مسرحية أجنبية"، وقد وصفت صحيفة "نيويوركر" المسرحية بأنها "قصيدة في شكل درامي". وفي السنة التالية، حاز والكوت على وسام الإمبراطورية البريطانية عن هذا العمل. تعالج مسرحيات والكوت، التي بلغت ثمانين مسرحية، جوانب من تجربة الهند الغربية، وغالبًا ما تتعامل مع الآثار الاجتماعية والسياسية والمعرفية لما بعد الاستعمار وتستند إلى أنواع مختلفة مثل الحكايات والرموز الشعبية. وقد شارك والكوت مع شقيقه التوأم في تأسيس ورشة "مسرح ترينيداد" في عام 1950. وعام 1981، خلال تدريسه في جامعة بوسطن الأميركية، أسّس "مسرح الكتّاب المسرحيين" وفي تلك السنة، حصل على زمالة مؤسسة ماك آرثر في الولايات المتحدة. وقد درّس والكوت الأدب في جامعة بوسطن لأكثر من عقدين، كما درّس في عدد من الجامعات الأميركية والبريطانية. وإضافة إلى الجوائز المذكورة فقد نال والكوت عددًا من الجوائز الأخرى، وكان يقول دائمًا "إن قدر الشعر أن يحب العالم رغمًا عن التاريخ".



كتب والكوت باللغة الإنكليزية والتي تعدّ لغة المستعمِر، لكنه لم يعتبر نفسه إلا كاتبًا كاريبيًا وكان يقول: "اللغة الإنكليزية هي ملكية المخيلة، إنها ملكية اللغة ذاتها". وعند وفاة والكوت عام 2017 كتب البروفسور الجامعي والناقد الكندي جورج إليوت كلارك: "إن والكوت كان له تأثير لا يقاس على الكتّاب من جيله، وخاصة أولئك الذين يستكشفون إنهاء الاستعمار. كان ديريك والكوت أول شاعر إنكليزي من أصل غير بريطاني يعيد صياغة اللغة الإنكليزية بلغته بطريقة غير مستعمرة. بعبارة أخرى، أخذ اللغة الإمبريالية والقمعية السابقة التي فُرضت على الشعوب السوداء والحمراء والصفراء والبنية من جميع أنحاء الكوكب عبر الإمبراطورية البريطانية واستخدم تلك اللغة بشكل أفضل من الإمبرياليين والمضطهدِين أنفسهم... كان شاعرًا "أرسطيًا" جدًا. كتب الشعر الغنائي والمسرحيات الكوميدية والمأساوية، وجادل، كما أرسطو، بأن على أعظم الشعراء أن يكتبوا الشعر الملحمي الذي كتبه مع "أوميروس". لقد كان رمزًا لجميع كتاب الإنكليز واللغات الأخرى الذين قاموا بإنهاء الاستعمار، وشقّ الطريق لنا جميعًا".



وكتب نائب رئيس جامعة جزر الهند الغربية، السير هيلاري بيكلز "عَكَس مشروع والكوت الأدبي بالكامل فهمًا غير عادي لتاريخ العالم، والرأسمالية الغربية والاستعباد الأفريقي، والإبادة الجماعية المحلية، واستعمار آسيا، وكيف أدّت هذه القوى التاريخية إلى إنشاء ثقافة كاريبية فريدة من نوعها هي، بكل معنى الكلمة، أول ثقافة متكاملة، "ثقافة الحداثة العالمية"، وخطابه عن الكاريبي أخذ العالم الأدبي في رحلة من رحلات كولومبوس الأطلسية وإجرام نيّته وتوجّهه إلى روعة ثورات التنوير الكاريبية التي أدت إلى حضارة الحداثة الغربية".

كان ديريك نتاجًا لعالم عميق، عالم كاريبي موجوع من تاريخه الاستعماري؛ يتبدّى لنا هذا العالم في كتبه ومنها "الخليج" (1969) حيث يعبّر والكوت فيه عن مشاعره في ظل العزلة الشخصية، والعالق بين توجهه الثقافي الأوروبي والثقافات الشعبية السوداء في موطنه الكاريبي. كتابه "حياة أخرى" (1973) هو سيرة ذاتية شعرية، أما مجموعته الشعرية "الهبة" (1997) فمعظم قصائدها عن منزل والكوت الكاريبي ووفاة والدته. ويستكشف كتابه الشعري "الضال" (2004) الطبيعة والهوية والمنفى بين أوروبا وأميركا الشمالية. وفي كتبه الأخرى، يستخدم والكوت أسلوبًا أكثر توترًا لفحص التقسيمات الثقافية العميقة للّغة والعرق في منطقة البحر الكاريبي. ويستكشف وضعه ككاتب أسمر في أميركا أصبح بعيدًا بشكل متزايد عن موطنه الكاريبي. كانت لغة ديريك الإنكليزية ملحمية، يحكي عن شعبه، والبحر، الذاكرة، أفراح وأهوال الحب الجسدي، المنزل، العائلة، نساء السوق السوداء المحاطين بجميع أنواع الألوان، وأشجار النخيل، وكانت هذه هي موضوعاته.

ديريك والكوت بالقرب من منزله في سانت لوسيا (Getty Images)



أدب ما بعد الكولونيالية

الشيخوخة هي الموضوع المركزي في كتابه "البلشون الأبيض"، وشعور الشاعر باقتراب النهاية. والبلشون الأبيض هو طائر شبيه بمالك الحزين يعيش قرب مياه البحار، يحضر في الديوان بأكثر من مكان، والشاعر يشبّه نفسه بالبلشون في عدد من القصائد.. يشكّل شعر والكوت جزءًا أساسيًا من أدب ما بعد الكولونيالية، وعلى الرغم من أنه كتاب شخصي لكنه في الوقت نفسه يحمل نقدًا واضحًا للاستعمار مشفوعًا بنوع من التسامح. هو كتاب رؤيوي وسيرة ذاتية جماعية بشكل مكثّف على عدّة مستويات، وداعه الخاص، أصدقاؤه القدامى والشعراء الذين رحلوا، الاستعمار، التطوير التجاري في سانت لوسيا، والطبيعة، والبحر، كأنه يقيس الحياة والموت، ما قبل وما تبقّى لما بعد، بهدوء شاعر يكتب في الثمانين من عمره. ثمة حميمية، وثمة حزن ينفذ إليك وأنت تقرأ كلماته التي تشبه وداع الحياة، كأنها شاهدة على حقيقة الموت؛ "أناقة تلك البلشونات.. في فصل المطر، في ذلك السلام/ الذي هو أبعد من الرغبات وأبعد من الحسرات/ التي قد أصل إليها في النهاية/ .. ستكون هناك بعد أن يمرّ ظلي بكل خطاياه/ عبر أجمّة النسيان الخضراء..". ثم يقول: "بتأنٍ تتساقط أوراق الغابة/ الصفراء الشاحبة تسبق الخضراء- هكذا هي نهايتي/ قريبًا سيحلّ موسم الجفاف/ وستصدأ التلال..".

ويستعيد الشاعر أصدقاءه الذين رحلوا في أكثر من قصيدة بنَفَس حزين. نحن مع رثائه هذا مهتمون بأصدقائه أيضًا، ونحزن معه عليهم، كأنه يحمل سرير مرض كل منهم ويقف بينهم يغلّف الموت بكثير من الرغبة بالحياة "بعض الأصدقاء على قلة ما تبقى منهم، ماتوا/ لكن البلشونات تتبخر في المطر/ كما لو أن لا شيء مميتًا يمكن أن يحيط بهم../ أحيانًا تختفي التلال نفسها ببطء الأصدقاء/ لكنني أكثر سعادة الآن لأنهم يعودون مثل ذكرى أو صلاة".. ويقول في قصيدة أخرى: "هل ترى تلك الأمواج المتكسّرة../ عندما رحلَت كما رحل أصدقائي الآخرون/ ليس إلى تايلاندا أو روسيا/ بل إلى حيث يذهب الأصدقاء الأعزاء مع اختلاف معتقداتهم/ لقد غادروا مرايا الرمل مثل سرب نوارس.. أو مثل بلشون يغادر أشرعة تتهيأ للرحيل/ أنزل إلى البحر من طريق آخر.. حاملًا شيئًا للقراءة:/ الريح هادئة والظلال تتسابق كالأسى/ أفتح كتبهم فأرى صورهم البعيدة تقترب وتصل دائمًا وأصواتهم تُسمع في صفحة غائمة مثل الأمواج المتكسرة في رأسي". ويقول أيضًا: "ما فقدته هو الإيمان في السماء عندما يموت الأصدقاء الأعزاء".. ولا ينسى أن يدافع عن أصدقائه السود في عالم أبيض يرى أنه لا يمكن لأسود أن يشكّل خطوة إلى الأمام في قصيدة "قبل أن يموت الجميع"، يقول فيها "لقد رحل بعض أفضل الأصدقاء/...الذين أبقوا طويلًا شعلة التفاني ثابتة ضد الرياح/ لقد فعلوا الصواب في الردّ على من ينتقصهم من المثقفين الزاعمين أنه لا يمكن للمرء أن يكون أسود وممثلًا.." ثم يختم في نفس القصيدة بالعودة إلى هذا الفقد الكبير: "يجب أن أضيء منزل رأسي باليراعات والنجوم/ يجب أن أصنع حيّزًا لمزار قبل أن يموت الجميع".. ويحفل الكتاب بالقصائد التي يحتفي فيها بأصدقائه الذين رحلوا، وكأن هذا الشاعر الثمانيني لا يتوقف عن العدّ، عدّ الموت ومن تبّقى وكل مرّة يشكّل الحزن هامشًا أساسيًا ويضرب الموت بعرض الحائط غاضبًا منه، ففي قصيدة يهتز لها القلب لصديقه أوليفر جاكمان يقول "هذا ما يفعله الآخرون، لا نحن، يموتون/ كل ما تبقّى.. يموت/ قمر سيرتفع الليلة في المكان نفسه بمورن كوكو/ فيصيبني حزن مطبق/ فحتى أنت يمكن أن تكون جزءًا من هذا الفقدان المتناسل/ الذي يدور يوميًا كظلّ متجدد/.. وكلما كان الموت مفاجئًا يتعمق الحب/.. كان موتك كصداقتنا بداية تتجدد".

صناعة العزلة والحزن العميق متأملًا بالعمر والأخطاء والأصدقاء والوطن وزوجاته الثلاث اللاتي عاملهن بسوء كما يعترف في كتابه، والمرأة التي أحبّها ثم تقابلا بعد ستين عامًا على كرسيّين متحركين، هو ما يفعله والكوت في هذا الكتاب، وكأن شخوصه يتبادلون ميكروفون النداءات غير المسموعة للموت بين بعضهم البعض، وهو نفسه سيمسك بهذا الميكروفون قريبًا وهو يصف نفسه بالعجوز في عدد من القصائد رغم اعتزازه في إحدى القصائد "بضوء الثمانين الغامض"، يقول "سأقول لك بما تفكر: شيخ طاعن مثلك لا يمكن أن يهزه مثل هذه المرأة الرشيقة لكن رأسك يحفّ بها..." ويقول في قصيدة أخرى "رجل عجوز في عالم معتم، الفرح سمته الوحيدة.. أشاهدهم يراكمون أخطائي التي تتكرّر باطّراد مثل موج البحر.." وفي مكان آخر "شاعر عجوز مع أفكار بيضاء وأنتِ عاهرتي/ ستموتين وسيبقى نصف اسمك فقط/ وعندئذ لن يمكنكِ التحكم بنومي.." و"الحزن الذي شعرتُ به كان من صنعي تمامًا/ كنتُ مصممًا أن أجد النقاء في التعفّن..". وفي أمستردام حيث أصول أمه الهولندية يريد الشاعر أن يتقبّل ضغينة عدوه "لأرسم وأكتب جيدًا في ما يمكن أن يكون عامي الأخير"..

ويأخذنا الشاعر إلى إيطاليا وفيها يكتب عن باولا التي "تتمدد في البياض كرخامة شعثاء، كإلهة قديمة أسعدت زيارتها القصيرة الأرض" وعن غيوسيب التي تجوّل معها "في غرفة برهبة تليق بمثل هذا الألم.." لنصير معهما تمامًا في هذه الغرفة كأننا نشاهد مقطعًا فيلميًا في طرف غائم، نوع من القصّ الحزين، حيث لا يسقط من الذكرى ومن هذا الحنين أي شيء، نجتاز في الضوء الخافت معهما "كتبًا مجلّدة في ملف جنائزي" وهما يتحادثان "يبدو أنك تكرهين الكثرة: منعزلة وبعيدة.." وهي تجيب: "لماذا يشعرون بأن الحب أسى كبير/ ألم تنطلق العصافير في فرح حول هذا البيت/ برغم أن الكثير من الحزانى سيحجّ إليه غدًا"..


من كتب الشاعر كما صدرت بالإنكليزية (حياة أخرى، عنب البحر، أوميروس، الخليج)



يكتب والكوت أن أوروبا هي "طقس الشعر، هذا موطنها الحقيقي"، ولكنه في مكان آخر يشير إلى الشاعر الإنكليزي جوزيف كونراد على أنه ذلك الشرير لتصويره للفراغ في سانت لوسيا في قصيدته "هنا يكمن الفراغ". يقول: هنا يكمن ما يسمّيه ذلك اللعين "الفراغ"/.. الفراغ كلمة تنطبق على مدننا الطنانة البائسة/.. هذا الشعر جزء من هذا الفراغ كوادي سانتا كروز ببركته الصادقة/ كصدق لعنة ذلك الشرير".. ويؤكد الشاعر أن شعره يعتمد على الإلهام الذي تمنحه له هذه البقعة الجغرافية فيقول عن جزيرته الصغيرة التي يحيط بها البحر من كل الجهات "هذا المكان الصغير لا ينتج شيئًا سوى الجمال"، فالشاعر يذكر البحر أكثر من خمسين مرة في الديوان وكأننا أمام مؤلّف شعري بحري بالكامل.. وفي عدد من القصائد سيحكي والكوت عن أوروبا، عن سيرتها الذاتية كسلسلة من المعارك والأوحال وعن لونها الأحمر على خريطة الصف "فجأة لم تكن ثمة إمبراطورية/ انتصاراتها قبض ريح، ممالكها موحلة.." وشبح الإمبراطورية "ينسلّ إلى الشوارع كمؤشر كتاب في رواية من القرن التاسع عشر فيفرّ مذعورًا من الآخرين كسلطعون يتقهقر.. شهرته الآن أكبر من إمبراطوريته من ضميرها الذي يحترق ببطء.. يمشي كثيرًا عندما يعود إليه الإحساس بالذنب..".

الحرب الباردة والغبار النووي والحروب الخاسرة والحنين كلها في نيويورك، إحدى أجمل وأعمق قصائد الديوان وعنونها "في البلدة": ".. في هذا الفراغ المرعب الذي يسمى نيويورك. أمسكت سماعة مكبّر الصوت محذّرًا مرارًا وتكرارًا البقية الباقية من الناس بأن العالم كان على وشك الانتهاء في صباح ذلك اليوم في الشارع السادس أو السابع.. إذا احترقنا فسيكون ذلك على الأقل في نيويورك".. يجمع والكوت في هذه القصيدة كل سيناريوهات الحزن من العالم كله واصفًا نفسه بالبلشون العجوز: "بنيويورك كل واحد يؤدي دورًا في مسرحية هزلية/ أنا في رواية من روايات أميركا اللاتينية يكون فيها البلشون العجوز مرتعشًا من حزن خفي/ من أسى يرويه سرًا إلى أن يتضح على وجهه/ فالتجاعيد التي تعترضه تؤكد روايته عن خجله العميق/ .. إنها مجرّد قصة لا تؤثر في قلب أحد/ .. إنها قصص ندم باهتة في مذكرات رجل عجوز../ من أزال الآلة الكاتبة عن مكتبي/ فأنا مثل موسيقي بلا بيانو/ في فراغ مقبل كربيع ساطع وغريب/ أنا مليء بالقصائد تمامًا وكذا سلة المهملات بسلكها الأسود../ تنحدر الباخرة الضخمة.. تبحر بلا وعي كأنها سنوات متراكمة/ ليس عندي سبب لأغفر لها لما فعلتُه لنفسي..".

الخوف من "ابتعاد الشعر"

ويخاف الشاعر من أن يبتعد الشعر عنه وكأنه يعيد تبويب أيام عمره وقصائدها مع شك يتزايد إلى درجة الرعب بأن ربيعه قد مضى، "إذا كان ذلك صحيحًا أن موهبتي قد ذبلت وأن قليلًا هو ما تبقى منها.. فإذًا لا يوجد شيء أعمله سوى التخلي عن الشعر كما نتخلى عن امرأة نحبها لأننا لا نريد الإساءة إليها.. لذلك اذهب إلى حافة المنحدر.. وكن ممتنًا لأنك كتبتَ بشكل جيد في هذا المكان ودع القصائد الممزقة تبحر بعيدًا مثل سرب بلشونات بيضاء في تنهّد طويل وأخير للانعتاق". وفي مكان آخر يسهر على موهبته الشعرية لا يريدها أن تفلت منه كأنه يُخفض رأسه لأسى تلك اللحظات مشبّهًا موهبته بالمرأة التي تتخلى عن رجل عجوز "ما زلتُ لا أصدّق الطريقة التي تخلّت فيها موهبتي عني كما تتخلى امرأة عن رجل يكبرها كثيرًا.. كل هذا حدث عندما أدرتُ رأسي لثانية واحدة فقط عن الصفحة. فلم أتمكن أن أدرك إما بسبب الموهبة أو موت ما شُغفتُ به".

"أطير مثل بلشون رمادي إلى أماكن مهجورة"، هو والكوت، شاعر العزلة، والبلشون الذي مضى فوق البحر متخليًا عن الحياة إلى مكانه المهجور بعد سبع سنوات من هذا الكتاب والذي كان يتوقع فيه موته في أقرب وقت، ولكنه وفي عام 2016، قبل عام من رحيله، عاد وأصدر آخر كتبه الشعرية "صباح بارامين" الذي يعدّ أحد أبرز الكتب التي تجمع بين الفن والشعر، فقد تعاون فيه والكوت مع الفنان بيتر دويغ (من جزيرة ترينيداد) بعد صداقة طويلة الأمد وتقارب إبداعي عميق فأنتجا معًا كتابًا يتكوّن من خمسين لوحة وقصيدة، يكتب فيها والكوت قصيدة عن كل لوحة من لوحات دويغ. يسافران فيه سويًا عبر المناظر الطبيعية على شواطئ البحر الكاريبي التي تغمرها الشمس إلى الحالات الجسدية والنفسية لحياتيهما من الفرح والمحبة إلى الشيخوخة والحداد، وينخرطان في حوار مؤثر حول الإرث الاستعماري لمنطقة البحر الكاريبي والوطن والانتماء والفن في استكشاف مؤثر للصداقة والتأمل يأخذ شكل اللغة المشتركة للحب.. لوحات تأخذ شكل النداء وقصائد تأخذ شكل الاستجابة في ردود مضيئة، هي احتفالات منتصرة على الموت، وعلى آلام الحياة.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.