}

ذكرى رحيل سيد التشويق هيتشكوك.. السينما من النافذة الخلفية

وائل سعيد 10 مايو 2022


ذات يوم، ذهب طفل صغير في الرابعة أو الخامسة من عمره إلى مخفر الشرطة بخطاب إلى أحد الضباط، وما إن انتهى الضابط من قراءته حتى أمر بحبس الطفل داخل زنزانة! لم تزد مدة الحبس عن دقائق معدودات بعدها أفرج عنه وتم إبلاغه بترهيب "هذا هو ما نفعله مع الأولاد الأشقياء!". لم يكن ذلك الطفل سوى المخرج العالمي ألفريد هيتشكوك المولود بلندن في الثالث عشر من أغسطس/ آب 1899، والذي رحل عن عالمنا في التاسع والعشرين من أبريل/ نيسان 1980 وكانت الرسالة التي حملها لسجنه قد كتبها والده للضابط كعقاب على سوء تصرفاته.

وحيد بمصاحبة السمنة المُفرطة

في كتابه المميز "السينما حسب هيتشكوك 1966" يتأكد المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو من سيد التشويق عن صحة حادثة نقطة الشرطة، فيؤكد هتشكوك الواقعة ويضيف إليها أن والدته مارست هي الأخرى أساليب قاسية من التقويم الطفولي، فقد كانت تجبره على الوقوف لساعات عند حافة السرير كنوع من العقاب، انعكس ذلك الحدث في أحد مشاهد فيلمه الأشهر"Psycho سايكو 1960". يقول هيتشكوك: "كان والداي كاثوليكيين صارمين جدًا، ولم أجد في طفولتي رفيقًا سوى السمنة المُفرطة".

صورة "الأم المُرعبة" صاحبت هيتشكوك في عدد من أفلامه وهو مصطلح أطلقه عالم النفس الألماني كارل يونغ لوصف النقيض للنموذج الأصلي للأمومة، فهي أم قادرة علي التهام أبنائها بشكل أو بآخر أو إلحاق الضرر بهم على أقل تقدير، ويمكن تتبع ذلك في أفلام مثل "ظلال من الشك 1943" حين فضلت نورما ارتباطها بأخيها على مشاعرها لزوجها وأبنائها، في "سيء السمعة 1946" تغار مدام سباستيان من أي امرأة تُثير إعجاب ابنها، ونكتشف في نهاية فيلم "مارني 1964" أن الأم كانت مومسًا قديمة زرعت في ابنتها فكرة احتقار الجسد، مما جعل نفورًا من الجنس يترسخ داخلها. 

شكلت تجربة السجن بدايات ميلاد الخوف لديه، وللخوف في حياة هيتشكوك محطات عديدة صاحبتها انتقالات عدة لأسرته من مكان لمكان. ذات مرة أسر لتوم سنايدر، فنان الرسوم المتحركة، أن هذه الحادثة تركت لديه خوفًا دائمًا من رجال الشرطة... "أُصدقك القول، أنا خائف بشدة من أي شيء يتعلق بالقانون، حتى أني لا أقود سيارتي كي لا أتورط في ارتكاب مخالفة". ساهمت أيضًا الجهات التي التحق بها للتعليم في ترسيخ منهجية الخوف؛ فقد تلقى معظم تعليمه وسط أجواء المدارس اليسوعية حيث كان الكهنة يستخدمون عصا مطاطية صلبة لردع الطلاب ودائمًا ما كان يحدث ذلك في نهاية اليوم الدراسي؛ يجلس الأولاد في صفوف منتظرين من سيكون عليه الدور في العقاب. يؤكد هيتشكوك أن هذا المكان شهد تطور إحساسه بالخوف، وبحسب كاتب سيرته الذاتية دونالد سبوتو كان هيتشكوك متأخرًا بعام دراسي، الأمر الذي جعل تاريخ تسجيل ميلاده المُثبت في سجلات المدرسة يزيد عامًا عن التاريخ الحقيقي.


عاش هيتشكوك بين عائلة كبيرة، عمل والده في تجارة البقالة والأسماك مثل جده وكان العم جون هيتشكوك يمتلك منزلًا فيكتوريًا مكونًا من خمس غرف للنوم ويعمل فيه طباخ وخادمة بالإضافة إلى سائق وبستاني. في كل صيف اعتاد العم جون علي استئجار منزل يطل على شاطئ البحر في كليفتونفيل يدعو إليه كل أفراد العائلة. هناك تعرف هيتشكوك الطفل على المفاهيم الطبقية التي أدركها في أثناء مشاهدته لاختلافات جذرية تُميز السياح الأجانب عن السكان المحليين.

هيتشكوك وتروفو في أثناء الحوار بينهما



لعبة القط والفأر

بدأ هيتشكوك حياته العملية في العشرين من عمره، بكتابة العناوين الفرعية وجمل حوار الأفلام الصامتة. ذات مرة قرأ في صحيفة أن شركة سينمائية أميركية- "باراماونت"- تعتزم افتتاح فرع جديد لها بلندن وستبني هناك استديوهاتها الخاصة، وصل هيتشكوك في الشركة لمنصب رئيس قسم العناوين وكان يعمل معه أميركيان. يقول: "كان من الممكن أيامها تغيير معنى السيناريو تمامًا من خلال هذه العناوين". في هذه الفترة أيضًا تفتح وعيه على تعلم المونتاج وكتابة السيناريو من داخل المطبخ السينمائي وعمل مساعد مخرج لعدد من السنوات، وسرعان ما قدم أول أفلامه "حديقة المسرات 1925"، وهو فيلم صامت لا يحمل من أجواء هيتشكوك أي شيء.

بعد ذلك بعامين عُرض فيلمه "النزيل 1927" وفيه بداية الظهور للعوالم الهيتشوكية، حيث يُتهم أحد الأبرياء بجريمة قتل ويحاول الفرار لإثبات براءته. لتصبح لعبة القط والفأر التيمة الأساسية في سينما هيتشكوك، حيث لا بد من وجود مُطاردة وقناص وضحية ومسرح للجريمة، لا سيما وأن "أفلام الجريمة تتيح للمتفرج أن يُحقق رغبتين لا تجتمعان بشكل منطقي، الرغبة في الدخول إلى عالم إجرامي يتحاشى المتفرج أن يتحمل مشاقه في الحياة الحقيقية، والرغبة في الخروج من هذا العالم دون عواقب وخيمة؛ توماس لايتش، موسوعة السينما، ترجمة أحمد يوسف ".

من هنا يُنظر لهيتشكوك على أنه أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ السينما، في حياته المهنية الممتدة لستة عقود أخرج أكثر من 50 فيلمًا لا يزال الكثير منها يُشاهد ويُدرس على نطاق واسع حتى يومنا هذا، وقد خلق هيتشكوك لنفسه شخصية لا تقل سحرًا عن شخصيات أفلامه؛ فقد كان كثير الظهور في هذه الأفلام إما بالتقديم أو بالتعليق أحيانًا؛ وربما يكون هيشتكوك أول من اخترع فكرة ظهور المخرج في العمل وهو ما يمكن تفسيره على حالتين: الأولى إدماج المخرج ضمن بقية شخصيات الحكاية، والثانية هي احتفاؤه وتوقيعه كصاحب - أوحد- للعمل. أما على مستوى المقابلات التلفزيونية والصحافية فقد حرص هيتشكوك على إجراء العديد منها جعلته مشهورًا ومعروفًا كنجم مثل ممثليه ووضعت اسمه كعلامة تجارية.  

رُشحت أفلامه عشرات المرات لجوائز الأوسكار، رغم ذلك فلم يحصد جائزة الإخراج ولو لمرة في تاريخ المهرجان، ولم يمنع ذلك من أن تصنف مجموعة من أفلامه ضمن أعظم أفلام السينما في العالم، بداية من "النافذة الخلفية 1954"، "الدوار 1958"، ثم "شمالًا إلى الشمال الغربي 1959" وتحفته الخالدة "سايكو 1960".

انقسمت الآراء حول أفلام هيتشكوك إلى فريقين: الفريق الأول وجد أنها مجرد توليفة تعمل بغرض الربح وتخاطب أحلام ورغبات الجمهور على عدة مستويات يأتي في مقدمتها عاملًا الإبهار والتشويق، أما الفريق الآخر فتعامل مع هذه المعادلة بالقدر الذي استطاعت تحقيقه من مستهدفها في الانتشار والتواجد؛ حيث وزعت هذه الأفلام توزيعًا مثاليًا على مستوى العالم بمختلف ثقافاته وجنسياته وبالتالي حققت إيرادات طائلة في اختبار شباك التذاكر. وفي العموم حظيت تجربته ككل بالتقدير النقدي والجماهيري وبحفاوة كانت سببًا قويًا في تبرئتها من السمت التجاري.





يقول تروفو في كتابه: "أثناء تواجدي في نيويورك عام 1962 لعرض فيلمي - جول وجيم- لاحظت أن الجميع يسألني نفس السؤال وهو.. لماذا يتعامل نقاد مجلة كراسات السينما مع هيتشكوك بمثل هذه الجدية؟ لا شك في أنه ثري ومشهور لكن أفلامه بلا مضمون!"، كان النقد الأميركي آنذاك من أعنف النقد الموجه لأفلام هيتشكوك، حتى أن أحد الصحافيين سخر من إعجاب تروفو بفيلم "النافذة الخلفية" قائلًا: "إنك تحب الفيلم لأنك غريب عن نيويورك، لا تعرف شيئًا عن قُراها"، فما كان من عاشق هيتشكوك سوى التأكيد على أن "النافذة الخلفية ليس عن قُرى نيويورك، بل هو عن السينما التي أعرفها".

آكل قلوب البشر

لم يكن بغريب قيام الفنان الكبير أنتوني هوبكينز بتجسيد شخصية هيتشكوك في فيلم بنفس الاسم عام 2012 إخراج ساشا جيرفاسي، فكلا الرجلين يتحرك في منطقة رُعبه الخاصة؛ فبينما يتغذى هينيبال على أمخاخ ضحاياه بعد تشويحها على نار هادئة، يستطعم السيد هيتشكوك إحساس الرُعب في قلوب مُشاهديه وخصوصًا أصحاب القلوب الخفيفة، على نفس النار الهادئة ولكن عن طريق التشويق والإثارة وفترات متقطعة من حبس الأنفاس.

في عام 1982 نشر كاتب السيناريو الأميركي ديفيد فريمان مذكرات مطولة عن "الأيام الأخيرة في حياة هيتشكوك" تتضمن بعض الكواليس في الشهور الأخيرة لسيد التشويق، أثناء ذلك عملًا على مشروع لم يكتمل بعنوان "ليلة قصيرة" كان سيصبح الفيلم الرابع والخمسين في مسيرة هيتشكوك، يستند الفيلم إلى رواية بنفس العنوان من تأليف رونالد كيركبرايد، في إطار تشويقي رومانسي ويحتفي بعوالم الجاسوسية. خُطط لبطولة الفيلم عدة أسماء من بينها كلينت ستوود وإد لاوتر وشون كونري، ومر السيناريو بمراحل عديدة من التعديلات. ذات مرة اقترح هيتشكوك على فريمان إعادة المعالجة حتى يتمكن من تصويره على خشبة المسرح وطلب منه التفكير في ذلك.

لم يُفكر ديفيد في الأمر كثيرًا، ففي التاسع والعشرين من أبريل/ نيسان 1980 كان على الجانب الآخر من المدينة، يتمشى في منطقة باراماونت وسط رياح حارة وجافة و"شريرة" تأتي من الصحراء... "أوقفتني صديقة لم أرها منذ فترة وقالت إنها سمعت للتو في الراديو أن هيتش مات في منزله في أثناء نومه". استدعى ديفيد شريطًا من الذكريات كشريط السينما، وفي الجنازة الرسمية الكاثوليكية لهيتشكوك، بحث من حوله عن النعش ولم يكن موجودًا... "لقد تمكن من ترتيب حرق جثته قبل الوفاة، لم يكن يرغب في أن يكون مكشوفًا هناك أمام أعين الجميع، غير قادر على تحويل تركيزهم عنه".  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.