أبراهام ملتسر يهودي ألماني، وإسرائيلي أيضًا، مناوئ للصهيونية، ولهذا اتُهم مرارًا بأنه معادٍ لليهود، ونُعت كالعادة بأنه "يهودي كاره لنفسه"، وهي التهمة الشائعة والجاهزة لإلصاقها بأمثاله من اليهود العقلاء وهم كُثُر في هذا العالم. ويحق لأبراهام ملتسر أن يزهوَ بأن اسمه التحق بقائمة اليهود المعادين للصهيونية التي تضم أعلامًا بارزين أمثال ميخائيل فارشافسكي ونوعم تشومسكي وإيلان بابه وآفي شلايم ويعقوب رابكين وإيلان هليفي وأوري ديفيس وجلعاد عتسمون، علاوة على كُتّاب وناشطين وصحافيين من طراز سيمون صبّار وعميرة هس وإيلا شوحط وحتى جدعون ليفي ونورمان فنكلشتين.
وأبراهام ملتسر مولود في سمرقند في عام 1945، وكانت الوكالة اليهودية نقلته مع عائلته إلى إسرائيل التي وصل إليها في 11/5/1948، أي قبل أربعة أيام من إعلان دافيد بن غوريون قيام هذه الدولة الكولونيالية. لكن والديه سرعان ما عادا إلى ألمانيا لأنهما لم يتحملا العيش في إسرائيل. ووالداه ألمانيان يهوديان سلما من الإبادة النازية لأنهما غادرا ألمانيا مبكرًا إلى الاتحاد السوفياتي، وأقاما في سمرقند، عاصمة جمهورية أوزبكستان، طوال عهد النازية. ومع أن أبراهام ملتسر أُرغم على الخدمة في الجيش الاسرائيلي، فإنه وافق على ذلك كي لا يضطر إلى قطع صلته بذلك البلد لأن جدته التي يحبها ظلت تعيش فيه بعد عودته مع والديه إلى ألمانيا في عام 1960. وفي ألمانيا ترعرع هذا الفتى، وصار أحد النُقّاد اليساريين اللامعين للصهيونية وسياسات إسرائيل، وأحد المناهضين للاحتلال الإسرائيلي وللاستيطان اليهودي.
كرنفال اللاسامية
في عام 2017 أصدر أبراهام ملتسر كتابًا بالألمانية عنوانه "صنع معاداة السامية أو تحريم نقد اسرائيل"، ثم صدر بالعنوان ذاته عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عام 2022 (ترجمة سميّة خضر). وفي هذا الكتاب يروي المؤلف سيرته، وكيف صار يهوديًا في ألمانيا مع أنه لم يشعر يومًا بالانتماء إلى اليهودية في إسرائيل التي عاش فيها شطرًا من حياته، والتي لا يعتبرها وطنه في أي حال. وفي الكتاب الذي بين أيدينا يجهر الكاتب بأنه معادٍ للصهيونية، ولا يتوانى عن نقض الدعايات التي يذيعها وينشرها مركز سيمون فيزنتال، ولا يتردد في المحاماة عن حنة أرندت وتيودور ليسنغ وهاينريش هاينه وآخرين بمن فيهم من اعتنق المسيحية (هاينه) أو انتحر (أوتو فايننغر) لنقدهم اليهودية بشدة، وكذلك الدفاع الحار عن غونتر غراس حائز جائزة نوبل، والمتحول إلى المسيحية، والذي تعرض لهجوم قاسٍ من اليهود الصهيونيين بعد أن نشر في عام 2012 قصيدة عبر فيها عن خوفه من أن تلجأ إسرائيل إلى استعمال القنبلة النووية ضد إيران. وفي هذا السياق يروي الكاتب نكتة عن يهودي اعتنق الكاثوليكية، وبعد فترة قصيرة تحول إلى البروتستانتية. وعندما سُئل عن هذا الأمر أجاب: كي أقول حين يسألني أي شخص عما كنتُ قبل تحولي إلى البروتستانتية إنني كنتُ كاثوليكيًا.
كتاب "صُنع معاداة السامية" هو خلاصة الخبرة الطويلة للكاتب في نقد "معاداة السامية"؛ فقد صرف أربعين عامًا في النضال ضد سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وفي التظاهر بلا كلل ضدها، وفي الكتابة المناهضة لها، ونشر الكتب عنها، وإلقاء المحاضرات الناقدة لبنيتها الفاشية. ونال أبراهام ملتسر شهرة في ألمانيا إبان مشاركته في تظاهرات سبعينيات القرن المنصرم إلى جانب اليساري يوشكا فيشر وإلى جانب دانيال كوهين بنديت الذي برز كأحد قادة ربيع باريس عام 1968.
يقول ملتسر إن فكرة معاداة السامية صارت أضحوكة، بل كرنفالًا سنويًا تنظمه جماعة من البلهاء (ص 64). وفي تفكيكه لأصول تلك الفكرة يشير إلى أن هناك شعوبًا اضطُهدت أكثر من اليهود وأُبيدت تمامًا، وأن تاريخ ظهور مصطلح معاداة السامية يعود إلى عام 1865، وهو بذلك يدحض انتساب المصطلح إلى الصحافي الألماني فيلهلم مار كما هو شائع. ومن الضروري الإشارة في هذا المجال إلى أن مصطلح "معاداة السامية" لا يعني البتة معاداة "الشعوب السامية" التي كان المستشرق اليهودي النمساوي أوغست فون شلوتزر قد استخدمه أول مرة في عام 1781 ليشير إلى مجموعة اللغات والجماعات التي تشترك في جذر لغوي أو إثني واحد. إن مصطلح "معاداة السامية" أو "اللاسامية" أو "كراهية اليهود" يعني دلاليًا معاداة اليهود بالتحديد وليس معاداة العرب مثلًا مع أنهم ساميون بحسب التقسيم الخرافي وغير العلمي للشعوب القديمة. واللاسامية أو كراهية اليهود اتجاه تاريخي وفكري وسياسي نشأ في أوروبا في العصور الوسطى عندما تفاقمت الكراهية لليهود باعتبارهم فئة ضالة مسؤولة بالوراثة عن موت المسيح، والمتشبثة في الوقت نفسه بنكران مجيئه وقيامته. أما اللاسامية الحديثة فقد نشأت في ألمانيا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر جراء تدفق اليهود من روسيا إلى ألمانيا، وظهور طبقة متوسطة يهودية ربوية منافسة للطبقات الوسطى الأوروبية النامية (راجع: صقر أبو فخر: الحركة الوطنية الفلسطينية: من النضال المسلح إلى دولة منزوعة السلاح: بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003، ص 71).
مصطلح "معاداة السامية" لا يعني البتة معاداة "الشعوب السامية" التي كان المستشرق اليهودي النمساوي أوغست فون شلوتزر قد استخدمه أول مرة في عام 1781 |
صناعة اللاسامية
يؤكد أبراهام ملتسر أن الصهيونية تتوافق مع معاداة السامية في فكرة تهجير جميع اليهود إلى فلسطين، ويضيف: "إننا نشهد اليوم ارتباطًا وثيق الصلة بين معاداة السامية والصهيونية" (ص 86). وقد حملت الصهيونية، منذ نشأتها، طبائع عنصرية وكولونيالية، وكانت غايتها سرقة أرض الفلسطينيين وطردهم منها (ص 131). وبهذا المعنى تحولت "اللاسامية" إلى صناعة مثل صناعة الهولوكوست التي برعت المؤسسات الصهيونية، مثل مركز سيمون فيزنتال، في ترويج بضائعها ومنتجاتها. غير أن المؤلف يعلن بوضوح أنه يرفض احتكار اليهود وإسرائيل للهولوكوست. صحيح أن اليهود في أوروبا دفعوا ثمنًا هائلًا في معمعان الإبادة النازية بحسب رأينا، إلا أن من غير المقبول، بل من المرفوض قطعيًا، أن تحتكر إسرائيل الإبادة التي طاولت اليهود بالدرجة الأولى، لكنها طاولت أيضًا البولنديين والشيوعيين والغجر. وفوق ذلك، يعتقد الكاتب أن من غير المنطقي استغلال الهولوكوست لأغراض سياسية (ص 82). وفي جانب آخر لاحظ المؤلف أن هناك ظاهرة ناشئة هي "الفيلوسامية" أي حب اليهود والتعاطف معهم وإظهار المودة لهم. لكن هذه الظاهرة إنما نشأت في سياق اللاسامية نفسها (ص 65)، وهي ما برحت تقتات على مشاعر الذنب تجاه اليهود، وعلى الرغبة في التكفير عن ذلك الذنب.
وجدير بالذكر هنا هو قوله إن أي انتقاد لإسرائيل وسياستها صار يُعد نوعًا من معاداة السامية حتى لو جاء من اليهود أنفسهم. ويتساءل: هل إن انتقاد قمع اليهود لشعب آخر هو حقًا عداء لليهود؟ (ص 107). ومهما يكن الجواب فإنه يُقر بأن العالم الغربي، بعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوست، منح اليهود الناجين من المحرقة أرض فلسطين هدية لهم لاسترضائهم وللتكفير عن أخطائه التي ارتكبها بحقهم. وهكذا أسس اليهود الصهيونيون دولة لهم على حساب الشعب الفلسطيني الموجود هناك في الأصل (ص 105). وحري بنا هنا أن نشير إلى أن المؤلف لم يقصّر في تفنيد إحدى الخرافات المؤسسة لدولة إسرائيل وهي الزعم الصهيوني أن الفلسطينيين لم يُطردوا من أراضيهم، بل غادروها طواعية (ص 106). وبناء على ذلك يستنتج أن "من البدهي ألا يحب الفلسطينيون الإسرائيليين بسبب ما فعله اليهود، ومازالوا يفعلونه إلى اليوم بهم" (ص 76)، وأن اسرائيل "تتحول شيئًا فشيئًا إلى بلد يسوده مجتمع فاشي قومي ديني" (ص 119).
الحاج أمين الحسيني والنازية مجددًا
نقيضًا للآراء المتسرعة والمعيبة لبعض الكُتّاب العرب ممن امتهنوا "صيد الفضائح"، وبرعوا في تسويق بضائعهم في أوروبا، فإن هذا الكاتب المنصف يكشف زيف الادعاءات المريبة في شأن حلف الحاج أمين الحسيني والنازية فيقول: "إن الحديث عن وجود تحالف مزعوم بين مفتي القدس محمد أمين الحسيني والنازيين ليس أكثر من بروباغندا كاذبة، لأن النازيين لم يكونوا مهتمين بالمصالح الفلسطينية، كما أن العلاقة بين المفتي وهتلر بقيت علاقة باردة وقصيرة الأمد" (ص 128). ويضيف: "إن قائد القوات الألمانية الخاصة [إس إس] هاينريش هملر كان قد أمر منذ وقت طويل، قبل مجيء الحاج أمين الحسيني إلى برلين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1941، بإنشاء معسكرات الاعتقال في أوشفيتز، وكان نحو 30 ألف يهودي قد قُتلوا في بابي يار في أوكرانيا" (ص 63). لنتذكر أن في ليلة الكريستال (كريستال ناخت) الموافقة لِـ 9/11/1938 قُتل عشرات اليهود، واعتُقل ما لا يقل عن ثلاثين ألفًا منهم، وأتلف الغاضبون الألمان المتعصبون سبعة آلاف محل تجاري، ودمروا أربعمئة كنيس، علاوة على نهب المنازل الخاصة. آنذاك كان الحاج أمين الحسيني خاضعًا للإقامة الجبرية في بلدة زوق مكايل في لبنان.
وأن إعلان هتلر أمام الرايخستاغ (البرلمان)عزمه على إبادة اليهود جرى في 30/1/1939، أي قبل أن يلجأ المفتي إلى ألمانيا بسنتين. والحل النهائي للمسألة اليهودية، أي الإبادة، اتخذ في 20/1/1942 في مؤتمر فانزي حين لم يكن الحاج أمين قد قرّ واستقر تمامًا في ألمانيا. ويقول أبراهام ملتسر في هذا الميدان إن بنيامين نتنياهو ادعى أمام المؤتمر الصهيوني السابع والثلاثين في القدس (21/10/2015) بوقاحة وجدية أن هتلر كان يرغب في ترحيل اليهود ليس أكثر، لكن مفتي القدس محمد أمين الحسيني هو الذي أقنعه بحرق اليهود. ويضيف: إن نتنياهو يحرّف، بطريقة وقحة وغبية، الحقائق التاريخية المعروفة لخدمة أجندته السياسية كي يسيء إلى الفلسطينيين تاريخيًا وأخلاقيًا (ص63)؛ وهذا بالضبط ما يفعله كثير من الباحثين العرب في استعراض للحماقة لا مثيل له. ويتصدر تلك الحماقة يساريون متحولون ويساريون مفلترون ويساريون "مهروقون" دأبوا، بين الفينة والأخرى، على عرض آرائهم في هذا الشأن، فيأتي كلامهم مثل الثوم المسلوق بالبيض المخفوق، وكأن آراءهم هي الصواب والأمر الذي لا يُعاب.
وقصارى الكلام، بعد قراءة هذا الكتاب المهم، أن كتابات بعض "الباحثين" العرب في هذا الحقل التاريخي تشبه مقص الإسكافي: "لا ينفتح إلا على النجاسة"، فيما كتابات كثير من الباحثين الغربيين، بمن فيهم اليهود العقلاء، تجعلنا نرفع القبعة لهم.