}

في ألمانيا بعد 7 أكتوبر: تعميق اغتراب الكلمة

دارا عبدالله دارا عبدالله 26 أكتوبر 2023
تغطيات في ألمانيا بعد 7 أكتوبر: تعميق اغتراب الكلمة
جامعة هومبولدت أصدرت بيانًا دانت فيه "الإرهاب ضد إسرائيل"!


عمومًا من الصعب جدًا سحق مشاعر الاغتراب في أوروبا. الاغتراب أوّلًا هو أنّ تكون في مكان، اللغة السائدة فيه ليست لغتك الأمّ. لغة النقاش السياسي والإنتاج الفلسفي والثقافة العامّة ليست لغة أحلامك. الاغتراب الأعمق هو الاغتراب اللغوي. وجودك منقوص، وكفاءتك الكليّة لنقل المعنى كسيحة. أنتَ لا تفكّر فقط، بل تفكّر وتترجم ما تفكّر فيه. نصفك ضائعٌ بالترجمة. اللاجئ، هو كلمة انتزعت من معجمٍ وزُرِعَت في معجم آخر. والكلمة في معجمٍ آخر، ملعونة بوصمة الغريب، وبارزة بروز دبّ قطبي أبيض في صحراء صفراء حارّة.
في كتابه Language of Art ("لغة الفن")، يتعمّق الفيلسوف الأميركي، نيلسون غودمان، في وضعيّة الكلمة المهاجرة. اللغة عند غودمان مصفوفاتٌ، وكلّ مصفوفة تجمع قائمة من الكلمات، فيها صفةٌ واحدة على الأقل. مصفوفة الكلمات هي الشيء الرابط بينها. مصفوفة الألوان فيها كلمات مثل: أحمر، أزرق...، ومصفوفة المشاعر تجمع كلماتٍ مثل: حزين وسعيد. اللغة بنية معقّدة مؤلّفة من مصفوفاتٍ متقاطعة. الاستعارة تنشأ لما تهاجر كلمة (أحمر) من مصفوفةٍ إلى مصفوفة (المشاعر) أخرى، لتتولّد استعارة: "حزنٌ أحمر". في أيّ استعارة ضمن اللغة كلمة لاجئة. الاستعارة تتطلُّب توتر الكلمة في منفاها، لأنَّه بمجرّد انتماء الكلمة إلى المصفوفة، تفقد الكلمة المهاجرة قوّة إحقاق التوتّر مع محيطها. الاستعارة هي اغتراب الكلمة.
منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحاليّ، صباح السبت، لما استعارة صورة المنطاد الذي يحلّق فوق جدار الأبارتهايد حرّكت المشاعر، زاد اغتراب الكلمة في القاموس. على الكلمة الآن إما أنّ تذوب في المصفوفة بصمت، أو أن تعود إلى قاموسها الأصلي. الحدّة غير مسبوقة، لأنَّ الخطاب العام في ألمانيا مستثارٌ ومشحون بالملحميّة. وكأنّ ملحميّة صورة التحليق فرضت بعدًا ملحميًّا على أيّ خطاب معادٍ لها. فُتِحَت ملفّات معاداة الساميّة وتوسَّعت حدودها لتشمل أشياء مضحكةً مثل كلمة فلسطين ولباس الكوفيّة. جامعة هومبولدت التي درَّس فيها هيغل ودرس فيها ماركس (والتي لم توظّف الكاتب وعالم الاجتماع جورج زيميل، لجذوره اليهودية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين)، أصدرت بيانًا دانت فيه "الإرهاب ضد إسرائيل". لم تذكر الجامعة أي تفصيل، لا سياق زماني أو مكاني، ولم تحدد تاريخ الهجوم أو لحظة وقوعه. كمؤسّسة مخلصة للمثاليّة الألمانيّة، اكتفت بموقفٍ تجريديّ متعالٍ مؤلّف من قطبين: إرهاب وإسرائيل.
في الخطاب الألمانيّ بعد الحرب العالمية الثانية محظوران سياسيّان مُصاغان على شكل إنكارين ممنوعين: ممنوعٌ إنكار الهولوكوست، وممنوع إنكار حق إسرائيل (وليس اليهود) في الوجود. الإنكاران من طبيعتَيْن مُختلفتَيْن، الجملة الأولى تشير إلى حادثة تاريخيّة موثّقة بالأدلة والأرقام والشهادات والصروح الناجية، والجملة الثانية من طبيعة سياسيّة جدليّة. فلسفيًا، هنالك "خطأ في التصنيف" Error in Category. الجملة الأولى لا تُقاوَم، في حين أنّ الثانية تُقاوَم إذا ما كانت استعمارًا استيطانيًّا.  هذا "الخطأ في التصنيف"، هو جوهر التناقض مع الخطاب الألماني، وهو مقصود، ويمدّ الواقعة السياسية الاستعماريّة بشرعيّة الشيء الذي لا يجب أن يُقاوم، كشرعية صحّة وقوع المجزرة في التاريخ الفعليّ. والشرعيّة المبنيّة على سردية المجزرة في الماضي، لمّا تُهدَّد في الحاضر، تقوم هي نفسها بمجزرة. استخدام اللغة الدمويّة التجريديّة من قبل المسؤولين الإسرائيليين برهانٌ على البعد الإبادي للحظة، استعارات مثل: "أطفال النور وأطفال الظلام" و"رمي في البحر" و"حفر في الذاكرة".

ثمة تناقض بين المثالية الألمانيَّة والصهيونيّة السياسيّة، في "فلسفة الحق" لهيغل العقل المجرّد للدولة خالٍ تمامًا من الادعاءات الأنثروبولوجية واللاهوت الديني والعناصر الهوياتيّة


الغريب هو أنّ ثمة تناقضًا بين المثالية الألمانيَّة والصهيونيّة السياسيّة. في "فلسفة الحق" لهيغل، العقل المجرّد للدولة خالٍ تمامًا من الادعاءات الأنثروبولوجية واللاهوت الديني والعناصر الهوياتيّة.  الفرد السياسي عند هيغل هو الفرد المجرّد من "صفاته النوعية"، وليس الفرد الغارق في حفريات في القدس بحثًا عن مكتشفات أثريَّة لدعم فرضيّة الأسبقيّة الزمنيّة (هوس الإعلام الإسرائيلي بالمكتشفات الأثرية والتفسير السياسي لها مضحك). اليمين الغربي أيضًا يستخدم الأسبقيّة الزمنيّة للطعن بالوجود الحديث للمهاجرين. ولقطع الطرق أمام هذا النسق في التفكير، الأسبقيّة الزمنيّة ليست شرطًا لتوزيع الحقوق السياسيّة: الحق فوق الزمن، وخصوصًا حقّ التحرّر من الاحتلال.
إسرائيل متناقضة مع الليبرالية الأميركية أيضًا، بحسب الليبراليّة الكلاسيكيّة وممثلها جون رولز. رولز في كتابه "نظرية في العدالة" يضعُ تجربة تخيّليّة اسمها "حجاب الجهل". خلف "حجاب الجهل" لا يعرف الفرد "صفاته النوعية"، كطبقته ودينه ولونه وطوله وجنسه ومهنته وإمكاناته الجسديّة والعقليّة. الفرد محروم تمامًا من كلّ أشكال المعرفة التي يمكّن أن تؤثّر على انحيازه. الهدف من "حجاب الجهل" هو اشتقاق مبادئ عدالة غير متأثرة بـ "اعتباطات الطبيعة" و"صدف التاريخ" كما يسميها رولز، والتي ليس للمرء يدٌ فيها. الأخلاق السياسية يجب أن تهمل تأثير الاعتباط. أن تكون أبيض أو أسود، ليس أمرًا قمتَ باختياره. "مبادئ العدالة" التي سيختارها المرء خلف حجاب الجهل لن تصكّ قانون قوميّة يقول بأنّ اليهوديّة هي الشرط اللازم والكافي (علاقة تكافؤ رياضيّة) للمواطنة. خلف "حجاب الجهل" لا تعرف دينك. الديمقراطية العنصرية هي المصير الحتمي لمشروع الصهيونية السياسية. أصلًا، جملة "إسرائيل ديمقراطية" مُدينة ومحرجة أكثر من "إسرائيل شموليّة". بهذا المعنى، نزعات مثل "أهل غزّة حيوانات بشريّة" ليست نزعات فردية أوليغارشيّة، بل نقلٌ لروح سائدة في المجتمع. لو كانت إسرائيل شموليّة، لصحّت فرضية الفصل بين "الحكومة" و"الناس"، كما يحاول بعض التشويش أحيانًا.



أكثر نقاشٍ جذريّ في ألمانيا الآن يُحمّل رئيس الحكومة الإسرائيلية ب. نتنياهو المسؤوليّة، دون أي حديث عن ملامح البنية بشكل عام، ومعالجتها بالأدوات المناسبة: استعمار استيطاني تمددي، وشعب واقع تحت الاحتلال. بدأت أميركا كاستعمار، ولكنها أقل شيء شهدت حربًا أهليّة على موضوع العبوديَّة. بنية إسرائيل منذ 1948 تزداد تعفنًا وتكلّسًا، والأمل بمقاربات داخليّة فيها نقد ذاتي جذري وإعادة تعريف للذات، هو: صفر تقريبًا. الأمل بتيار داخلي نازع للاستعمار ينقد الخلط بين اللاهوت السياسي والديني هو: صفر تقريبًا.
في وجه هذا، التضامن الجذري مع فلسطين غير مسبوق. التضامن الآن هو جذري لأنّه مبني على فهم متّصل لطبيعة الأمر. المتضامنون هم مجموعات وأفراد وحركات بديلة ومواطنون من أصول مهاجرين وناشطون ومثقفون وأكاديميون، وأيضًا المهاجرون بعد عام 2011 (السوريون خاصة). النصائح حول تكتيكات الردود على أسئلة مثل "هل تدين قتل المدنيين؟"، سؤال المرحلة الشائع، لافتة. يُطرَح السؤال مجتثًّا من سياقه، ويُعزل عن التاريخ، ويهدف لخلق تناقض إنسانوي. الصراع دقيق: طارحو السؤال كمدخل للنقاش غالبًا لا يدينون الاحتلال، ولكن من يرفضونه كمدخل للنقاش لا يؤيّدون بالضرورة قتل المدنيين. بمعنى آخر: من الصعب الوقوف على منصة واحدة لإدانة قتل المدنيين بدون بناء الثقة والمرور بمنصة إدانة الاحتلال كجريمة مزمنة. بعد 7 أكتوبر، مدخلُ النقاش هو أساسيّ لإمكانية استكماله.
أعيش في ألمانيا منذ أكثر من عشر سنوات. لمّا حصلت على جنسيّتها، أبديت استعدادًا كاملًا للتخلّي عن جوازي السوري، ليس إحساسًا بالانتماء، وإنما رغبةً في قطع أي احتمال عودة قسريّة إلى مزرعة الأسد. رفضت الموظّفة الطلب، وأبقوا معي الجواز. الجواز محفوظ في الخزانة كلغم، كبطاقة عودةٍ قسريّة إلى الكابوس، والنسر مفرود الجناحين على غلاف اللغم يحدّق بجاهزيّة المفترس.
على غلاف جريدة "دير شبيغل" الألمانية أعطى المستشار الألماني تصريحًا بأنّنا "يجب أن نبدأ بالترحيل على نطاق واسع"، النخبة السياسيّة هي في مستوى لم أره من التشدد. لهذا، يأتيني إحساس باستثناء اللحظة. الدولة الآن في "حالة استثناء"، كما يقول كارل شميت، ودولة الاستثناء سريعةٌ جدًا في قراراتها، وممكن جدًا أن يمرّ القرار من البرلمان إلى المحكمة الدستورية العليا بلمح البصر، كما حصل في كورونا.
سنخيفكَ بما فعلًا يخيفك، من اللغم في خزانتك.
"تصحيحنا" أيديولوجيًا مستحيل، وإعادتنا سيجعل لغتكم ميّتة، مصفوفاتٍ خالية من أيّ استعارة.

*كاتب سوري. عضو هيئة تحرير "ضفة ثالثة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.