}

وول سوينكا: نيجيريا وسراديب الموت

إسكندر حبش إسكندر حبش 4 ديسمبر 2023
تغطيات وول سوينكا: نيجيريا وسراديب الموت
وول سوينكا والترجمة الفرنسية لروايته (Getty)

(1)
"حوليات بلاد أسعد الناس في العالم"، عنوان الرواية الصادرة حديثًا (في ترجمة فرنسية، منشورات "لو سوي") للكاتب النيجيري وول سوينكا (الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1986، والتي كانت تُمنح لأول مرة لكاتب أفريقي، قبل نجيب محفوظ)، وهي تُشكل الرواية الثالثة في مسيرته الأدبية (والذي قال الناشر على غلافها "الرواية الكبيرة التي طال انتظارها..."). هذه المسيرة التي اكتشفها كثيرون منّا بعد نيله نوبل، إذ نُقل عدد من كتبه إلى العربية، ووجدت مكانها في مكتبتنا العربية، طاردة بذلك غربته عنّا؛ نذكر منها: "المفسرون" (ترجمة سعدي يوسف، منشورات المدى)، "مات الرجل" (ترجمة راتب شعبو، منشورات التكوين)، "آكيه، سنوات الطفولة" (ترجمة سمير عبد ربه، مكتبة مدبولي)، "موسم الفوضى"، (ترجمة عبد الكريم ناصيف، من دون ذكر اسم دار نشر)، "مذكرات سجين" (ترجمة نسيم مجلي، المركز القومي للترجمة، مصر)، "مجانين واختصاصيون" (سلسلة المسرح العالمي، الكويت)، "حصاد كونجي" (ترجمة نسيم مجلي، المجلس الأعلى للثقافة، مصر).


(2)

لنذهب، بداية، ونستعيد ما قالته إحدى المجلات الفرنسية ("تيليرما") في وصفها لهذه الرواية، على أنها "كانت تُشكل يومها قنبلة موقوتة"، بسبب موضوعاتها، التي بدت خارج "المألوف، وخارج سياق الأدب النيجيري" في تلك الفترة. لكن قبل أن ننزع فتيل هذه القنبلة، قد يكون من المفيد أن نذكر، بأن عمل سوينكا الأدبي ـ كما كتاباته ـ بقي مرتبطًا، طيلة حياته، وبشكل جوهري بالتزامه السياسي. من هنا، لا تشذ "حوليات بلاد أسعد الناس في العالم" عن هذا السياق، وهي تقع في قلبه، لا بعيدًا عنه.
فلو عدنا قليلًا إلى الوراء، إلى بدايات سوينكا، لمحاولة رسم هذا الارتباط، نجد أنه أسس خلال سنواته الجامعية الأولى، عام 1954، في إبادان، مع رفاقه، جماعة أخوية لمكافحة الفساد، بحثًا عن العدالة، وكانت الأولى من نوعها في نيجيريا، مع العلم أنه في الوقت عينه، بدأ في مسيرته الأدبية الموازية التي تضمنت كتابات من مختلف الأنواع، مؤكدًا فيها التزامه، الذي بدأ بالتصاعد أكثر فأكثر؛ لكن علينا الانتباه إلى فكرة أساسية في كلّ ما كتبه وقام به، لم تكن تدخلاته ومشاركته في أحداث بلاده السياسية تقترح علينا سعيًا (ولو فاشلًا) من أجل تحقيق السعادة على هذه الأرض، كما أنها لا تكتفي بالانتقادات اللاذعة الموجهة لقادة بلاده، بل تجبرنا في الواقع على الهبوط إلى الجحيم. بهذا المعنى، يأتي أدب سوينكا كي يأخذنا إلى سراديب الموتى النيجيرية؛ من هنا يبدو الكاتب وكأنه ساحر قاسي، ذو ضحكة يائسة، يعمل على تشريح أحشاء البشرية، فوق طاولة التشريح، من أجل أن يكشف شرورها وأمراضها المستعصية.


(3)

صحيح أن سوينكا أعلن مرة، طواعية وفي فترة البدايات، بأنه لم يفكر أبدًا بأن "يجعل من الرواية مهنته" ـ لأنه شاعر، وكاتب قصة قصيرة، وكاتب مسرحي، ومخرج، وكاتب مقالات، وكاتب نصوص... ـ إلا أنه في واقع الأمر، اعتمد على جميع هذه الأنواع الأدبية المتنوعة لخلق شكل متعدد الأبعاد لروايته. كان يرى أن نيجيريا هي بمثابة مرآة متصدعة يمكن أن تنعكس فيها البلدان الناشئة المماثلة. هي بلد يحتجزه تجار الدين، وهو في طريقه إلى أن يصبح دولة دينية، حيث يتراكم المال، ويتنقل بين المعلمين والدجالين والسياسيين الفاسدين والمواطنين الجبناء. تزداد في بلاده أيضًا القذارة والفوضى، حيث "ينهمك" المال لتغطية الجرائم الدموية التي تكون حقيقية أحيانًا، وطورًا خيالية. يتشابك فيها الواقع السياسي المعقد "مع العناصر البائسة". يموت فيها الرجال مقتولين، والنساء أيضًا، بعد أن يتعرضن للاغتصاب. ليتم بعد ذلك طرح أعضائهم للبيع عضوًا وراء آخر. عند هذه النقطة، تبدأ دورة السوق الحقيقية التي تتبع قانون العرض والطلب. الشعب النيجيري في حالة يرثى لها. شعب مشوه الأعضاء، منهوب، مُباع.


(4)

تتشابك، في روايات سوينكا، الأحداث السياسية الحقيقية مع حبكة القصة المثيرة (وأستعمل العبارة هنا بمعنى ثريللر/ Thriller). تتجاور الشخصيات الحقيقية مع الشخصيات الروائية. فعلى سبيل المثال، بابا دافينا، المعلم الدجال، هو نسخة خلابة ومثيرة للشفقة من الأب الإلهي (Father Divine). أما صامويل دو، الرقيب السابق الذي أصبح رئيسًا لليبيريا، والمبادر إلى الحرب الأهلية، فشخصية حقيقية، بينما يمكن لشخصية جودي أن تكون قادرة بمفردها على تجسيد عصابة من السياسيين الفاسدين والمجرمين. بينما تجتاز أشباح النساء والفتيات المغتصبات في بوكو حرام وتتجول بين صفحات الكتاب. أما شخصيات القاصرين الذين يتعرضون للإيذاء والبيع والحرق وهم أحياء بذريعة دينية، تبدو بدورها شخصيات حقيقية أحيانًا، ومفبركة في أحيان أخرى من قبل بعض المتعصبين. أما النوع الأخير من الشخصيات التي نراها في رواية سوينكا، فهي تلك التي جاءت للبحث عن نوع غريب من أنواع الروحانيات لتقع في شباك الأعمال الروحية أيضًا.




في ندوة أقيمت في "بيت الشعر" في باريس، أخيرًا، للحديث عن الكتاب (يمكن قراءة تلخيص مصغر عنها على موقع البيت)، كشف وول سوينكا كيف أثر عليه التزامه السياسي، والتزام أصدقائه المقربين والأعزاء، في إبداع ثنائي هما الدكتور مينكا، والمهندس دويول. من هنا نفهم هاتين الشخصيتين في الكتاب، وهما اثنان من "الساموراي"، غالبًا ما يكونان منفردين في ساحة المعركة التي تتجاوز حدود البلاد، وتكشف عن الشبكات الدولية لسياسة الحرب العالمية. في الواقع، تبدأ الرواية مع استعدادات دويول لتولي منصب مرموق في الأمم المتحدة، لكن يبدو أن الطغمة الحاكمة (ومساعديها من أناس المجتمع المتمكنين) مصممون على إيقافه. وإذا كان الدكتور مينكا، والمهندس دويول، لا يعرفان السبب، فإنهما أيضًا لا يعرفان مدى قرب العدو وشراسته.


(5)

لدعمه حركة استقلال بيافرا، اعتقل وول سوينكا، وسجن من عام 1967 إلى عام 1969، خلال الحرب الأهلية، من قبل المجلس العسكري الذي كان على رأس السلطة في نيجيريا. ومن خلف القضبان اخترع قلمه الخاص وحبره (كما نقرأ في كتابه "مذكرات سجين"). في روايته التي نحن في صددها، نسمع صرير هذا القلم المصنوع يدويًا، ونشم رائحة الدم، وتراب حبره. إن تصنيع الموت، ونهب الجثث بعد الاغتيال الذي نواجهه في الرواية، يذكرنا بأن المرحلة الأخيرة من الرأسمالية هي الفاشية. والاثنان في حالة من التعفن الأقصى، لذا فهما يحتاجان لبعضهما بعضًا. فعندما لا يتبقى شيء، أو لا شيء تقريبًا، لاستغلال البشر الأحياء، تبدأ آلة الإبادة الجماعية، وتقلب أسنانها من فصل إلى آخر، وتسحق الأرواح، وتستعيد أجزاء الجسم. تبدأ بإصبع قدم هنا، وأذن هناك. ثم تأتي الجرأة كاملة. الكبد، والطحال، والساق والذراع، والأعضاء التناسلية، وأثداء الإناث ـ الجثث الرائعة، والرأس لاحقًا. أولًا، للطقوس الروحية السرية، التي يستخدمها المعلمون والشامان المشعوذون الذين يعدون بجلب المطر والطقس الجيد إلى القرية وفي حياة الزوجين، "لتقويم الساحات الكسولة وكذلك اقتصاد البلاد". لم تعد قطع اللحم البشري مجرد ألعاب للعشائر السرية، بل يتم تقديمها في وجبات العشاء الاجتماعية وفي المطاعم الفاخرة. المرحلة الأخيرة من هذه الآلية المروعة هي السوق عبر الإنترنت للأعضاء البشرية والمشهد العام على وسائل التواصل الاجتماعي الذي يصاحبه.
من يستطيع علاج شرّ هذا القرن؟ من يستطيع أن يشفي شخصًا مبتلى لدرجة أنه يائس؟ الدكتور مينكا، أو الكاتب سوينكا، غير قابلين للشفاء.




هل وول سوينكا مناهض للرأسمالية كشخص، وككاتب، بطبيعة الحال؟ هل هو مع الحركة النسوية؟ بغض النظر عن الفكاهة، إذا لم يكن سوينكا كذلك، فمن المغري والممكن تمامًا أن نجعل قراءة روايته نسوية ومناهضة للرأسمالية، وحتى مناهضة للدين. لا يمكن أبدًا فصل أعماله الأدبية عن المسائل السياسية الكبرى في عصره. إنه لا يتردد في اللكمات، فهو يستوعب ويكشف التعقيدات المتعرجة للقضايا الحضارية. عنيد، عنيف، موهوب (بطبيعة الحال)، ليصف لنا نيجيريا، كبلد "متخيل" ـ فالوقائع التي ينقلها لا تجعل منها أبدًا بلدًا حقيقيًا.


(6)

تخدم كتابات سوينكا، التي تغذيها ثقافات متعددة، غرضها في حدّ ذاتها. هكذا نفهم صورة النمل المتكررة، التي تمثل استعارة للإنسان، يتم التعبير عنها بطرق عدة: ينعكس النمل المحارب في مصطلح "ميرميدونز" (يرتبط هنا بأولئك الذين يقتلون باسم دينهم). بينما يتحول عش النمل المأمول على أرض جديدة إلى تلال دفن للمهاجرين. تعبر صورة النمل جميع الثقافات، من الأساطير اليونانية والنيجيرية إلى النصوص التوراتية والقرآنية، إلى علم الاجتماع المعاصر (نفكر في "النمل الأوروبي" كتاب الباحث الفرنسي آلان تاريوس). نحن صغار جدًا، ولكن مع غرغرينا التعصب، يصبح البقاء على قيد الحياة أكثر صعوبة. فتخريب المجتمعات البشرية، وحرق الكتب، وحرمان الأجساد من الحرية والعقول من النوافذ المفتوحة على العالم، ليس هو بالتأكيد الطريق الذي يجب اتباعه.


(7)

ثمة "فارس" (Farce) أدبي مليء بالمكائد الهائلة والاتهام اللاذع ضد فساد النخب، "حوليات بلاد أسعد الناس في العالم"، رواية عظيمة، ببساطة، تُمثل كل عوالم وول سوينكا، ولا نبالغ لو قلنا إنه أحد عمالقة الأدب في العالم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.