}

ما أهمية العنف السياسي من وجهة نظر فالتر بنيامين؟

موسى مِي هوبس 5 ديسمبر 2023
ترجمات ما أهمية العنف السياسي من وجهة نظر فالتر بنيامين؟
فالتر بنيامين

ترجمة: سارة حبيب

 

يصف فالتر بنيامين العنف على أنه ضار وإشكالي، لكن العنف الإلهي الذي يبرّره بدلًا من ذلك ليس من دون مصاعب

 

يُعرَف مقال "نقد العنف" لفالتر بنيامين بكونه نصًّا شائكًا، يستند إلى تصنيف معقد للعنف ونظرة موسّعة على الأسطورة، اللاهوت، والعمل المنظم. وليس ذلك النص بأي حال من الأحوال تحليلًا مباشرًا لتبرير العنف في سياقات مختلفة (رغم أن له مضامين تشمل كل شيء من الدفاع عن النفس إلى الثورة)، كما أنه لا يدافع بشكل مباشر عن استخدام العنف أو يرفضه بشكل مباشر (رغم أنه يدين "ضرر" معظم ما نميزه بوصفه عنفًا). بالأحرى، يسعى "نقد العنف" لإظهار الوظائف الأساسية للعنف، والطرق التي يكون بها العنف - والتهديد به- أساسيين لتسيير عمل القانون والدولة. من جهة أخرى، يطرح بنيامين أيضًا، في الفقرات الأخيرة من المقال، إمكانية وجود نوع آخر من العنف يتفادى بنقائه وسلطته المطلقة أخطاءَ القوة العادية وضررها: العنف الإلهي.

عن القانون، الوسائل، الغايات، ووظيفة العنف عند فالتر بنيامين

يبدأ فالتر بنيامين تحليله بفهمٍ يبدو مألوفًا جدًا للعنف وتبريره. فمن ناحية، ثمة الغايات؛ أهداف ونتائج لأفعالنا. ومن الناحية الأخرى ثمة الوسائل؛ الأفعال التي بواسطتها نسعى إلى الغايات، ونعيش حيواتنا. وبما أن الغايات هي نتائج الوسائل، فإن تبرير الاثنين يبدو مرتبطًا، إذ يعتمد تبرير الأولى على تبرير الأخرى. بالتالي، يميّز بنيامين بين القانون الطبيعي -الذي يُحدَّد فيه أولًا إن كانت الغايات عادلة أو غير عادلة، وتكون أي وسائل مبررة طالما تحقق غايات عادلة- والقانون الوضعي الذي فيه يُحكَم فيه أولًا على الوسائل بوصفها قانونية أو غير قانونية، ثم يُحكَم على نتائجها كعادلة أو غير عادلة وفقًا لقانونية الوسائل.

بصورة رئيسية، فالتر بنيامين مهتم بالأخير، بما أن القانون الوضعي يصف النظام القانوني الفعلي لمعظم المجتمعات البشرية الحالية، بينما يربط القانون الطبيعي بحالة الطبيعة؛ حيّز عنيف سابق للحضارة. في الواقع، يرى بنيامين أن معظم القانون بالشكل الذي نعرفه منشغلٌ بأن يقمع الغايات الطبيعية، إذ أن تلك الغايات يمكن أن يُسعى إليها بالعنف، وبأن يضع مكانها غاياتها القانونية البديلة. لذلك، يحدد بنيامين موضوع "نقد العنف" بمجال الوسائل، مناقِشًا أن عمى القانون الطبيعي عن الوسائل يغفل الطابع المحدّد للعنف وأهميته المحددة. وبما أن العنف، بالنسبة إلى بنيامين، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتسيير الدولة والقانون (وكذلك بدمارهما المحتمل)، فإنه يستدعي إمعان نظر شامل وتفصيلي فيه بوصفه وسيلة.

يبدو القانون الوضعي أولّ الأمر منشغلًا بتنظيم العنف من خلال جعله غير قانوني، غير أن كلًّا من دافعِ هذا القمع وأساسه يشكّلان عنفًا في حد ذاتهما. ولا يقتصر الأمر على أن القانون يستبدل بالغايات الطبيعية الغاياتَ القانونية لأن الغايات الطبيعية يمكن أن تقوّض الدولة، إذ يشير بنيامين إلى أن هذا سيظل يفسح مجالًا للسعي العنيف إلى غايات قانونية.

بالأحرى، يهدف القانون إلى نيلِ الاحتكار على استخدام العنف، مشيرًا إلى أن العنف ينتِج عدم الاستقرار من تلقاء نفسه؛ إنه يتعارض مع وجود الدول والقوانين. لكن العنف في الواقع ضروري لتأسيس القانون في حد ذاته وللحفاظ عليه. بالتالي، تقمع الدولة القائمة تعابيرَ العنف غير القانونية خوفًا من أن يُستحوذ عليها ليس من قبل الفوضى، بل من قبل قانون جديد.




العنف الصانع للقانون والعنف الحافظ للقانون

القوانين، المعاهدات، الحدود، الدولة، السلم؛ كل هذه، حسب زعم فالتر بنيامين، تستند إلى أساس من العنف والتهديد بالعنف. والسلطة، سواء أكانت سياسية أو عسكرية، لا تحقق النصر بالقضاء على الطرف الذي تواجهه، بل بنيلِ الحق بتأسيس القواعد، القواعد التي بعد ذلك تحتفظ السلطة بحقها بأن تصونها باستخدام العنف والتهديد به. تصف الحالة الأولى وظيفة العنف المتمثلة بصنع القانون، والثانية وظيفته بالحفاظ على القانون.

هكذا، يعتقد بنيامين أن نقاشات دعاة السلم عادة ضد التجنيد الإجباري، الحرب، وحتى العنف بالعموم، تبقى ضيقة الأفق للغاية. ففي آخر الأمر، ليس العنف أساسيًا للقانون فحسب، بل إنه ينزع أيضًا لأن يُنتِج القانون وينتج عنه؛ ذلك بمقدار ما تعجز الدولة عن فرض قوانينها أو الحفاظ عليها من دون اللجوء إلى القمع العنيف للمغتصبين ومنتهكي القانون، وبمقدار ما أنّ استخدام العنف القانوني هو ما يحدّد الدولة.

لذلك، يناقش بنيامين، على نقد العنف أن ينسجم مع نقدٍ للدولة ووظيفتها المتمثلة بإصدار القانون، لا أن يحصر نفسه فحسب في نقد الحرب التي ليست إلا تعبيرًا عن عمل القانون العادي. فعلى عكس أشكال الاتفاقيات غير العنيفة التي قد تتم بين الأفراد، تقوم الحرب والدبلوماسية على اتفاقياتٍ تضع شروطًا على استخدام العنف (خرق المعاهدات، التعدي على الحدود، وما إلى ذلك)؛ تلك الاتفاقيات قائمة كليًا على العنف.

إن انتقاد بنيامين للعنف وللدولة والقوانين التي تعتمد على العنف مراوغ. فرغم أنه يشير مرارًا إلى "الطبيعة الإشكالية" للعنف القانوني، من الصعب الإشارة إلى فقرة محددة تصف المشاكل التي تنجم عن هذا العنف. ويبدو أن الإجابة، كما سنرى، هي بصورة رئيسية إجابة لاهوتية.

مع هذا، ثمة إشارة أكثرُ مباشرة للمشاكل التي تعقب العنف القانوني. إن وظيفتيّ العنف، حسب قول بنيامين، تتذبذبان جدليًا وفقًا لديناميكية يقوم فيها العنف الحافظ للقانون - الذي يصون القوانين التي تأسست من خلال العنف الصانع للقانون- تدريجيًا بإضعاف تلك السلطة الأولى "من خلال قمعِ العنف المضاد المعادي"، ممهِدًا الطريق بالتالي لعنف جديد صانع للقانون. لكن، في مؤسسة الشرطة ينتفي هذا التمييز. فبدلًا من الاكتفاء بصون قوانين الدولة، يمثّل "قانون" الشرطة بالنسبة إلى بنيامين:

"... المرحلة التي لا يعود فيها بوسع الدولة، سواء بسبب العجز أو بسبب الروابط المتأصلة ضمن أي نظام قانوني، أن تضمن من خلال النظام القانوني الغايات التجريبية التي ترغب بالحصول عليها بأي ثمن". فالتر بنيامين، "نقد العنف" (1921).

بالتالي، ما ينتج عن انتفاءِ التمييز هذا هو مؤسسة غير مقيّدة بجدلية العنف الصانع للقانون والعنف الحافظ للقانون، ولهذا تصبح قادرة على التوسع، الوحشية، وممارسة الرقابة على نطاق فريد. يكتب بنيامين: إن "سلطتها عديمة الشكل، مثل وجودها غير الملموس أبدًا، واسع الانتشار، والشبحي، في حياة الدول المتحضرة".

الإضراب السياسي والإضراب البروليتاري العام

يميّز بنيامين بين نوعين رئيسيين من إضرابات العمال، وهو تقسيم ينسبه إلى المنظّر السياسي جورج سوريل. يطرح التمييز مسألة الثورة، والعنف الثوري، الذين يبدو تبريرهما الشيء الأكثر وضوحًا وإثارة للجدل من بين المواضيع التي لامسها سؤال بنيامين الرئيسي. يصفُ "الإضراب السياسي" النوعَ المألوف واليوميّ من الإضراب عن العمل: يترك العاملون في شركة محددة، أو ضمن قطاع صناعة معينة، عملَهم، ويوافقون على متابعة العمل عندما تُلبَّى مطالبهم (يُدرج بنيامين في هذه الفئة أيضًا الثورة الألمانية "المُجهَضة" عام 1918). وهذه المطالب - التي تتمحور عادة حول ظروف أفضل، ساعات عمل أفضل أو أجور أفضل- يُؤمَل أن تُمنَح، جزئيًا أو كليًا، من قبل المالكين والمدراء.

يشّكل هذا بالنسبة إلى بنيامين فعلًا عنيفًا بلا شك، طالما أنه ينطوي على تهديد بدمار الشركة، ويسعى بهذا التهديد إلى تحقيق غايات العمال الطبيعية. بالتالي، هو محدد وجديد بوصفه شكلًا قانونيًا من العنف يتجاوز احتكار الدولة.

يعزو بنيامين هذا الإذعان المفاجئ إلى عاملين يوضّحان طبيعة القانون. أولًا، أن الإضعاف التدريجي للعنف الحافظ للقانون، الموصوف سابقًا، يعني أن القانون يفقد الثقة بقدرته على قمع مغتصبي الحقوق والملكيات بالقوة، ولذلك يمنح الحق بالإضراب بداعي الضرورة الماسّة. ثانيًا، يفضّل القانون (وسيتبين من جديد صلة هذا بأفكار بنيامين الختامية حول العنف الإلهي) أن يمتص العنف المضاد، وبالتالي يحتفظ بقبضته الخانقة القانونية على العنف، تلك التي يعتمد عليها فيما بعد في حالة الإضراب العام.

في الإضراب العام، لا يمتنع العمال عبر قطاعات الصناعة المختلفة عن العمل بغية تحقيق مطالب محددة يريدون أن يمنحها لهم مدراؤهم الحاليون، إنما يفعلون ذلك بنيّة قلب طبيعة العمل والسلطة بوجه عام. وذلك الإضراب هو بالأحرى مدمِّر للقانون. يعد الإضراب البروليتاري العام باستئناف "عمل متغير كليًا" فحسب: أشكالُ عمل وحياة لا يمكن منحها من قبل أرباب العمل الحاليين، وبالتالي لا تحتوي على أي مطالب ابتزازية.

بمناقشته الإضراب البروليتاري العام، يُظهر بنيامين أيضًا المضامين الأكثر جذرية لفقرات المقالة الافتتاحية. فهو يعتمد على فصل تام لا بين تبرير الوسائل والغايات فحسب، بل كذلك بين طابع الوسائل وطابع الغايات. هكذا، يؤيد بنيامين الإضراب البروليتاري العام بوصفه غير عنيف - حتى لو كانت نتائجه تتضمن عنفًا واسع الانتشار- لأنه يتألف من غايات نقية، وطابعه لا يتأثر بنتائجه.

من جهة أخرى، الإضراب السياسي عنيف بالتأكيد لأنه يتضمن ابتزازًا: الوعد بأن العمل سيستمر ما أن تلبَّى مطالب المُضرِبين. بكلمات أخرى، يُعرَّف الإضراب السياسي بعنف صانع للقانون، حتى لو بقي ذلك العنف افتراضيًا: تهديد متضمن في فعل الابتزاز. في المقابل، الإضراب البروليتاري العام، أو ابتداء الثورة الحقّة، هو "وسيلة نقية"، غير مكترث بالغايات أو النتائج.

كذلك، وفي حين أن الإضراب السياسي يفرض قوانين جديدة - أجورًا جديدة أو ظروفَ عمل جديدة- وبذلك يوطّد سلطة الدولة المانحة للقانون، فإن الإضراب البروليتاري العام، بالنسبة إلى بنيامين، فوضوي قطعًا، غير مكترث بالتلاعب بأذرعِ سلطةِ صناعة القانون، بل بتدميرها كليًّا. وهذا الطابع المدمِّر للقانون الذي يتسم به الإضراب العام، إلى جانب حالته كوسيلة نقية، يوجّهنا باتجاه العنف الإلهي الذي يختم به بنيامين مقالته.

ردًا على مقالة بنيامين، يطرح جاك دريدا سؤالًا مُحيِّرًا: إذا كانت الإبادة الكاملة هي ما يميّز العنف الإلهي (النوع الوحيد من العنف الذي يبدو أن بنيامين يبرّره)، كم من أفعال يمكن أن نشيد بها عن غير قصد؟ 


الأسطوري والإلهي

مع كلّ ذلك، لا يعتقد بنيامين أنه يمكن الاستغناء عن العنف كليًا، أو أنه يجب ذلك. فعلى الرغم من أن القسم الأكبر من "نقد العنف" يتعلق بالعنف الشرعوي (المتسم باتباع حرفيّ للقانون)، وبصراعاته المستمرة مع السلطة ومع التهديد، وبإدانة هذا العنف باعتباره ضارًّا وإشكاليًا، محكومًا عليه بانعدام قابلية الحل إلى ما لا نهاية وبحلقة من الإضعاف والانقلابات العنيفة، فثمة نوع آخر من العنف أيضًا. وهذا النوع الآخر محوري، بما أن بنيامين يعتقد بأن بعض العنف ضروري بشكل عام من أجل حلّ المشاكل وبشكل خاص من أجل التغيير السياسي. يكتب بنيامين:

"بما أنه، من ناحية أخرى، كل حلّ ممكن لمشاكل البشر، ناهيك عن التحرر من قيود جميع شروط الوجود التاريخية العالمية السائدة حتى اليوم، يظلّ مستحيلًا إذا تم استبعاد العنف كليًا من حيث المبدأ، فإن السؤال الذي يُطرَح هنا بالضرورة هو حول وجود أنواع عنف أخرى غير الأنواع التي تصورتها النظرية القانونية" (فالتر بنيامين، "نقد العنف"، 1921).

العنف الذي يضعه بنيامين قبالة العنف الأسطوري (الذي تظهر بنيته الأساسية في قوة صناعة القانون وقوة الحفاظ على القانون) هو العنف الإلهي: عنف لا ينطوي على إراقة دماء، مطلق، وآخر تمامًا.

نقاء العنف الإلهي الذي يلوح في الأفق، كما يصبح واضحًا في المقاطع الختامية للمقالة، هو ما يشكّل أساس إدانة بنيامين للعنف القانوني والعنف الأسطوري (مع كون الاثنين "متطابقين جوهريًا"). إن ضرر العنف القانوني، الذنب والدموية فيه، تجد نقائضها في قوة الله المطلقة. لكن، لا يجب أن يؤول هذا العنف على أنه عنيف بالاسم فحسب، فالعنف الإلهي (الذي يوضحه بنيامين من خلال قصة حكم الله على اللاويين) أكثر إبادة كليّة من العنف الأسطوري، وهو يضرب من دون سابق إنذار ولا يترك أي أثر. في هذه الإبادة، يرى بنيامين التكفير عن الذنب، والتسامي عن "مجرد الحياة": العنف الإلهي قبل كل شيء أكثر نظافة وقوة من العنف الذي نعرفه.

المشكلة، بالطبع، هي أن هذا العنف مختلف تمامًا لدرجة أننا قد لا نتعرف إليه حيث نجده. والأسوأ من ذلك، يحذّر بنيامين من أن العنف القانوني، حيثما يجد حدودَ الإلهي، سيحاول أن يدمج العنف الإلهي ويلوثه بالذنب، التهديد، والدم. لكن ثمة مشكلة أخرى: إذا خرجنا من الأسس اللاهوتية لتفكير بنيامين، لا يبدو العنف الإلهي - ربما- أقلّ استحقاقًا للإدانة من العنف القانوني.

ردًا على مقالة بنيامين، يطرح جاك دريدا سؤالًا مُحيِّرًا: إذا كانت الإبادة الكاملة هي ما يميّز العنف الإلهي (النوع الوحيد من العنف الذي يبدو أن بنيامين يبرّره)، كم من أفعال يمكن أن نشيد بها عن غير قصد؟ ألم تكن المحرقة، يسأل دريدا - وفق هذا التعريف- مثالًا نموذجيًا عن العنف الإلهي؟ إن عدم قابلية تمييز هذا العنف الجديد، سمته شبه الملغِزة، مرعبة في إمكانيتها بقدر ما هو مهرب مريح من وثاقِ العنف القانوني.

موسى مِي هوبس: كاتب ومحرر. خريج جامعة كامبريدج، قسم تاريخ الفن مع التركيز على الفلسفة. تركّز كتاباته على علم الجمال، فلسفة الفن، النقد السينمائي، فلسفة اللغة، وغيرها.

رابط النص الأصلي:

https://www.thecollector.com/walter-benjamin-importance-political-violence/

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.