}

"في اليقين" عند فتغنشتاين: هل علينا أن نكون متشككين؟

موسى مِي هوبس 22 فبراير 2024
ترجمات "في اليقين" عند فتغنشتاين: هل علينا أن نكون متشككين؟
فتغنشتاين

ترجمة: سارة حبيب

 

أمضى فتغنشتاين سنواته الأخيرة منكبًّا على أسئلة من قبيل: ما معنى أن نكون متيقنين من شيء ما، ما هي الأشياء التي يمكن لنا الشك بها، ومن أين يأتي يقيننا؟


ملخص

  • كان كتاب فتغنشتاين "في اليقين" ردًا على مقالات جورج إدوارد مور التي سعت لتحديد القضايا التي لا تقبل الشك.
  • تفحص فتغنشتاين فكرة أن قضايا معينة هي بمثابة قاعدة أو أساس لعبارات أخرى تجريبية. وشبّه هذه العبارات الأساسية بقاع نهر يجب أن يظل ثابتًا لكي يجري النهر.
  • بالنسبة إلى فتغنشتاين، اليقين الذي نشعر به إزاء بعض القضايا ينجم عن اندماجها العميق في أنشطتنا اليومية أو ما يسميه "أشكال الحياة".


جزء هام من عمل فتغنشتاين الذي نُشِر بعد وفاته مخصّصٌ لأفكار تتعلق باليقين، بالأشياء التي نبدو متيقنين منها، وكيف تتفاعل هذه الأشياء مع المعرفة والشكوكية. وقد جُمِع جزء كبير من هذه الأفكار في كتاب حمل عنوان "في اليقين" (1969)، وهو نص حلزوني مليء بالأمثلة، الشك بالذات، والإرشادات المتضاربة، اشتُغِل عليه حتى الأيام الأخيرة من حياة فتغنشتاين وتُرِك غير مكتمل بلا ريب. مع هذا، حتى في حالته غير المكتملة، يطرح كتاب "في اليقين" مشاكل جدية تخص فلسفة اللغة، الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) بوجه عام، والشكوكية على وجه الخصوص.


عن حدود الشكوكية عند فتغنشتاين ومور

من المعروف أن لودفيغ فتغنشتاين نشر كتابًا واحدًا فقط خلال حياته هو "أطروحة فلسفية منطقية" أو "التراكتاتوس" (1921). وكل ما عدا ذلك ممّ يُدرَس اليوم على أنه من أعماله نُشر بعد وفاته، بما في ذلك كتاب "في اليقين".

الملاحظات التي تشكّل "في اليقين" هي رد على مقالات جورج إدوارد مور "دفاعًا عن الفهم الشائع" (1925) و"دليل على عالم خارجي" (1939). في هاتين المقالتين، يحاول مور إثبات وجود مجموعة من القضايا التي تتجاوز نطاق الشكوكية؛ باختصار، مجموعة من الأشياء التي ليست تحصيلًا حاصلًا، لكننا مع ذلك لا نستطيع أن نشك بها. فبالنسبة إلى مور، لا يمكننا الشك بأننا نعرف تلك القضايا. لكن فتغنشتاين يعامل هذه "القضايا المورية" على نحو مختلف تمامًا، ويسعى لإثباتها كفئة قائمة بذاتها، فئة هي في آخر المطاف غير إبستمولوجية (غير معرفية).

المثال الأشهر الذي تعطيه مقالة "دليل على عالم خارجي" هو "هذه يد"، لكن مور يعطي أمثلة أخرى كثيرة، منها: "الأرض موجودة منذ وقت طويل قبل ولادتي" و"لم أكن يومًا بعيدًا عن سطح الأرض".

إن فتغنشتاين مأخوذ بهذه القضايا لأنها مختلفة جدًا بنيويًا عن نوع الأشياء التي يتحدث الفلاسفة عادة عن كونها منيعة ضد الشك. فالقضايا المورية ليست مطلقًا من نوع الأشياء التي كانت لتقنع ديكارت، لكنها مع هذا - حسب اعتقاد فتغنشتاين- تكشف حدود الشكوكية.

"في اليقين" (1969)، وهو نص حلزوني مليء بالأمثلة، الشك بالذات، والإرشادات المتضاربة، اشتُغِل عليه حتى الأيام الأخيرة من حياة فتغنشتاين وتُرِك غير مكتمل


قضايا
مفصلية وأطر لغوية

من بين الأشياء التي تنافي البداهة جدًا في الطريقة التي يتحدث بها فتغنشتاين عن القضايا المورية هو طرحه لاحتمال أنه بمرور الوقت، وفي سياقات مختلفة، يمكن أن تنتقل القضية ذاتها بين اليقين واللايقين.

في الواقع، الكثير من الأمثلة التي أعطاها كلٌّ من مور وفتغنشتاين كانت أحيانًا ملاحظات تجريبية مبدئية، بعيدة عن اليقين، وبحاجة إلى تحقق وتفحص موسعين. كون الماء يغلي عند الدرجة 100°C (عند 1 ضغط جوي) قد يكون اليوم واحدًا من تلك الأشياء التي عليّ ببساطة أن أعرفها لكي أتقصى العالم بشكل أعم، لكنها، في مرحلة ما، كانت رصدًا أو اكتشافًا.

لهذا السبب، تبدو القضايا المورية مثل قضايا تجريبية لكنها تفشل في أن تتصرف كواحدة. ولإثبات ذلك، يحيد فتغنشتاين عن وجهة نظر مور التي تعامل هذه القضايا على أنها لا تزال في أساسها تجريبية، وإن تكن مثبتة بشكل عام. بدلًا من ذلك، تصبح هذه القضايا عند فتغنشتاين أرضية أو قاعدة لقضايا تجريبية فعلية، ولكل أنواع النشاط اللغوي الآخر. يستخدم فتغنشتاين نفسه تشبيه قاع النهر: ليس قاع النهر ثابتًا تمامًا، وهو بالعموم مؤلف ممّ كان يومًا يجري في النهر ذاته، لكنه يجب أن يظل في مكانه لكي يجري النهر.

ما يصفه فتغنشتاين هنا هو عملية تثفّل للقضايا، يصبح بواسطتها ما كان يومًا قضايا تجريبية أمرًا مفروغًا منه، ويصبح مشاركًا في الأطر التي نستخدمها لأغراض أخرى، أو لنتقصى مشاهدات جديدة. كذلك، ليس هذا التثفل دائمًا مرتبطًا بمرور الزمن. ثمة قضايا يجب عليها في سياق ما، أو إطار ما، أن تظلّ ثابتة لكي تعمل بقية اللعبة اللغوية (تعبير يعود إلى فتغنشتاين). لكنها في سياق آخر عرضة للشك أو التحقق، حتى لو بدا أن مرجع تلك القضية لا يتغير.

لكن، ما لا يمكن أن يحدث هو أن ينشأ سياق ما أو لعبة لغوية ما تكون فيهما كل القضايا أو كل معتقدات المتحدثين عرضة لشك ذي مغزى دفعة واحدة. فهذه القضايا هي مثل "مفصلات" لبقية اللغة؛ نقاط يجب أن تبقى ثابتة لكي تتحرك حولها أشياء أخرى.

رغم أن أيًا من الأسئلة التي ينبري فتغنشتاين للإجابة عنها لا يُحسم فعلًا مع نهاية "في اليقين"، فكرة أن بعض القضايا "يُتمسك بها كثابتة" من قبل الآخرين خلال النشاط اللغوي هي فكرة تستمر بالظهور. يكتب فتغنشتاين: "يتعلم الطفل أن يعتقد بمجموعة كبيرة من الأشياء. بمعنى آخر، يتعلم أن يتصرف وفق هذه المعتقدات. تدريجيًا، يتشكّل نظام مؤلف ممّ يُعتَقد به، وفي ذلك النظام تبقى بعض الأشياء ثابتة لا تتزعزع ويكون بعضها بصورة أو بأخرى عرضة للتغير. وما يبقى ثابتًا يبقى كذلك، لا لأنه واضح أو مُقنع في جوهره؛ إنه بالأحرى يثبت من خلال ما يوجد حوله".


أشكالُ حياة

بقدر ما يبدو هذا التوصيف للقضايا المورية وحالتها الإبستمولوجية معقولًا، لا تزال ثمة حاجة إلى تفسير سبب اكتساب قضايا معينة، دونًا عن غيرها، صفةَ اليقين هذه في سياق معين.

يفكر فتغنشتاين في عدد من الأجوبة الممكنة لهذا السؤال، أحدها هو أن يقيننا ببعض هذه القضايا ينجم عن اندماجها في نشاطنا، أو فيما يسميه "شكل حياة" ("في اليقين"، فقرة 358). اختُيرت هذه العبارة في كثير من الأحيان ضمن التعليق العلمي على كتاب "في اليقين"؛ على وجه الخصوص في كتابة أفروم سترول عن فتغنشتاين، لكنها - مثل الكثير من محتوى "في اليقين"- تطرح من الأسئلة أكثر ممّ تجيب.

بقوله "أشكال حياة" يشير فتغنشتاين إلى الطرق التي تبدو بها القضايا المورية غير إبستمولوجية، خلافًا لتقييم مور لها. فعلى العكس من مور، لا يعتقد فتغنشتاين أننا "نعرف" أشياء مثل "الأرض قديمة جدًا"؛ بالأحرى علاقتنا بها هي نوع من يقين غير إبستمولوجي، أو ربما ما قبل إبستمولوجي.

بالنسبة إلى فتغنشتاين، تجريد كل أشكال التأكد أو الاعتماد السلوكي واختزالها إلى معرفة هو زلة فلسفية جوهرية. في الفقرة 477 من "في اليقين" يسأل فتغنشتاين: "لماذا على اللعبة اللغوية أن تستند إلى نوع ما من المعرفة"؟ لماذا لا يكون اليقين شيئًا في حد ذاته؟ لكن فتغنشتاين يجد صعوبة في قول أكثر من ذلك. إنه يصف عملية مساءلة أفكار مور على أنها شبيهة برؤية شيء بوضوح من بعيد جدًا، ثم الاقتراب ورؤية الصورة ضبابية ومشوِّشة. مع نهاية "في اليقين"، يبقى فتغنشتاين بعيدًا عن أي أفكار جامدة؛ هذه الفئة الخاصة غير الإبستمولوجية التي تميّز اليقين.

إننا واثقون من القضايا المورية بقدر ما نحن واثقون من أن بوسعنا الاتكال على أن الأشياء في محيطنا ستتصرف بطرق معينة قبل أن تكون لدينا معرفة واعية بها أو بخصائصها. يعتقد مور أن هذا التأكد هو نتيجة مجموعة كبيرة من الأدلة التجريبية، لكن فتغنشتاين يعتقد بفكرة أنه شيء آخر تمامًا، شيء يوصف أحيانًا من حيث السياق والثقافة، لكنه في الفقرة 359 من "في اليقين" يوصف على أنه "شيء حيواني".

لكن، في موضع آخر، يرفض فتغنشتاين فكرة أن القضايا المورية هي بطريقة ما فطرية في البشر كما في الحيوانات. بالأحرى، يرجع بشكل متكرر إلى فكرة أن هذه القضايا تصبح ثابتة من خلال الألعاب والنشاطات التي تُستخدَم لأجلها؛ أنها بطريقة ما يقينية على نحو مشروط، لكنها يقينية رغم ذلك. يكتب فتغنشتاين: "لقد وصلت إلى قاع قناعاتي. وربما يقول المرء تقريبًا إن هذه الجدران التأسيسية يحملها البيت بأكمله" ("في اليقين"، فقرة 248).

كان كتاب فتغنشتاين "في اليقين" ردًا على مقالات جورج إدوارد مور التي سعت لتحديد القضايا التي لا تقبل الشك


الشك النفسي والشك المنطقي

من المهم التأكيد على أن نوع الأشياء التي يتحدث عنها فتغنشتاين باعتبارها مفروغًا منها ليست، بالنسبة إليه، من اختصاص التقييدات النفسية. وعلى حد تعبير أندي هاملتون في الدليل الذي وضعه لكتاب "في اليقين":

"بالنسبة إلى فتغنشتاين، كون الشيء 'معفى من الشك' في حالة القضايا المورية، ليس ظاهرة نفسية مثل شخص عاجز عن الشك ببراءة ابنه. إنه مسألة منطق، بالمعنى الواسع عند فتغنشتاين، لا مسألة علم نفس". (أندي هاملتون، "فتغنشتاين وفي اليقين"، 2014).

لكن، كون فتغنشتاين ينظر إلى الشك وحدوده بهذه الطريقة هو في حد ذاته نتيجة لنقده للشكوكية. هذا النقد، الذي يظهر في عدة أوجه خلال "في اليقين"، أساسي له كنص ومتوقف على فكرة أن الشكوكية هي غالبًا غير منطقية.

بقوله "غير منطقية"، يقصد فتغنشتاين عادة أن تعابير الشك الواضح هي إما عرضة لأن تجعل كل شيء آخر ينهار معها، بما في ذلك إطار تعبيرها ذاته (ما يجعلها مُبطِلة لذاتها)، أو أنها ببساطة عديمة المعنى.  

واحد من الأشياء التي تجعل فكرة حدود الشك النفسي مقابل الشك المنطقي معقدة للغاية هو أن هذا النقد الأخير يستند إلى فكرة أن الشك ذا المعنى يكمن في تخيل حالةِ للأشياء منافية للواقع، والتخيل على الأقل يبدو مثل نشاط نفسي. في حقيقة الأمر، قد نتساءل فيما إذا كانت حدود المخيلة هي بالضبط ما يمنع الوالدين من الشك ببراءة ابنهما.

إضافة إلى ذلك، ثمة أوقات تبدو فيها مقاربة فتغنشتاين وصفية نفسيًا، ساعية لأن تدعم اليقين من خلال ملاحظةِ حقيقةِ أننا نؤدي أفعالًا من دون الشك بالحقائق الجسدية التي تعتمد أفعالنا عليها.

عندما يعطي فتغنشتاين مثالَ "لماذا لا أقنع نفسي بأن لدي قدمين عندما أريد أن أنهض عن كرسي؟ ليس ثمة سبب. أنا ببساطة لا أفعل ذلك. هذه هي الطريقة التي أتصرف بها". ("في اليقين"، فقرة 148)، فإن كوني لا أشك بقدمي ليست وظيفة المنطق. بوسعنا بسهولة تخيل شخص بُترت قدماه مؤخرًا وهو حاجة لأن يسأل نفسه مثل ذلك السؤال بالتحديد؛ ما يُؤكَد عليه هنا بلا ريب هو نوع من العادة النفسية.

على ما يبدو، ما يعنيه فتغنشتاين بالطبيعة المنطقية لليقين فيما يتعلق بالقضايا المورية هو أن هذه القضايا تعمل كشيء شبيه بالقواعد في لعبة لغوية معينة. وفق هذا الرأي، عندما "نخالف" القواعد، فإننا فحسب ندخل لعبة لغوية مختلفة، لعبة لا تكون فيها القضية التي نشك بها قضيةً مفصلية.

وفق هذا الرأي، يتضح أكثر كيف أن القضايا المورية والأشياء التي نعتمد على اليقين فيها لأجل تلك القضايا قد تكون معتمدة واحدتها على الأخرى. إذا كانت القضايا هي بمثابة قواعد لأنواع معينة من المحادثة أو النشاط، يمكننا ألا نعرفها ومع ذلك نكون متأكدين من أنها القواعد الخاصة باللعبة الحالية.

إن هذا التصور للغة يقلّل جذريًا من سلطة الشكوكية، قاصرًا نشاطها على نوع معين من الألعاب اللغوية، بينما نكون في كل مكان آخر واثقين بالفعل من الأشياء التي نشعر بأننا واثقون منها. بالنسبة إلى فتغنشتاين، لا يقتصر الأمر على أننا لا نشك بشكل اعتيادي بأشياء مثل وجود الكرسي هناك، أو حقيقة أن اسمي يشير إليّ؛ بل أننا لا نستطيع - بشكل اعتيادي- أن نشك بهذه الأشياء. إن مسار الحياة، واستخدامنا للغة (وتفاعلاتنا غير اللغوية مع المحيط)، يعتمد على يقين القضايا التي لن نفكر قط حتى بالإفصاح عنها، أو بالشك بها في عقلنا.


(*) موسى مِي هوبس: كاتب ومحرر. خريج جامعة كامبريدج، قسم تاريخ الفن مع التركيز على الفلسفة. تركّز كتاباته على علم الجمال، فلسفة الفن، النقد السينمائي، فلسفة اللغة، وغيرها.

رابط النص الأصلي:

https://www.thecollector.com/ludwig-wittgenstein-on-certainty

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.