}

في اللغة الكونية كاملة الأوصاف

جمال شحيّد جمال شحيّد 21 فبراير 2023
تغطيات في اللغة الكونية كاملة الأوصاف
إيكو و"البحث عن اللغة الكاملة الأوصاف" في الثقافة الأوروبية

في سلسلة سميّت في التسعينيات من القرن الماضي "كيف نصنع أوروبا"، صدر عام 1994 كتاب هام للكاتب الإيطالي الشهير أومبرتو إيكو بعنوان "البحث عن اللغة الكاملة الأوصاف في الثقافة الأوروبية"، وصدر في آن معًا بالإيطالية، والفرنسية، والألمانية، والإنكليزية، والإسبانية. ويستهله إيكو بعبارة للكاتب الإيطالي فرانشيسكو سوافي/ F. Soave كتبها عام 1774 ويحذّر فيها من التفكير الحالم بلغة كونية. وقدّم الطبعة الفرنسية الباحث جاك لوغوف، وجاء فيها أن أوروبا لن تتحقق من دون التاريخ، وإلا غدت يتيمة وبائسة "لأن الآن ينحدر من الأمس، ولأن الغد يخرج من الماضي" (ص 9).
يقول إيكو في مفتتح كتابه إن "الحلم الوردي بوجود لغة كاملة الأوصاف لم يراود الثقافة الأوروبية وحدها"، بل نجد له جذورًا في التوراة التي تكلمت عن اللغة الكونية الأولى، ثم عن بلبلة الألسن، ونشأة اللغات. ويتوقف إيكو من ثمّ عند المشاريع العديدة التي ظهرت بعد القرن السابع عشر، والتي تحدّد اللغات العالمية والكونية التي انتشرت في أصقاع المعمورة، مما حدا بإيكو إلى أن يتوقف عند اللغات التاريخية الكبرى (العبرية والمصرية والصينية)، وعند اللغات الأرومية (الهندوأوروبية، والسامية، والسنسكريتية، واللغات المناطقية والفئوية).
ولكنه أعار مسألة اللغة حسب التوراة اهتمامًا خاصًا. لقد ورد في سفر "التكوين" أن الله قال: "ليكن نور"، وقال "ليكن جَلَد" [قبّة سماوية]، وقال وقال. "وسمّى الله النور نهارًا، والظلام سمّاه ليلًا، وسمّى الله الجَلَد سماء... وسمّى الله اليبَس أرضًا". والملاحظ أن أفعال القول والتسمية كثيرة، وهي كلمات لغوية بامتياز. ويذكر الإصحاح الثاني من سفر "التكوين" أن الله جبلَ جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء "وأتى بها الإنسانَ ليرى ماذا يسميّها. فكلّ ما سمّاه الإنسان من نفس حية فهو اسمه. فأطلق الإنسان أسماء على جميع البهائم وطيور السماء وجميع وحوش الحقول". وهكذا تكوّن المعجم اللغوي الأول في تاريخ البشرية [المعجم الآدمي]. ويستمر البحث اللغوي في الإصحاح 11: "وكانت الأرض كلها لغة واحدة وكلامًا واحدًا" (1:11)، حتى بنى الآدميون برج بابل الذي أريد منه أن يشمخ برأسه في السماء وينافس الله الخالق، فنزل الرب ليرى البرج الذي أريد له أن يجمع البشرية في صرح واحد يتكلم لغة واحدة. فأثارت هذه المنافسة حفيظة الخالق فبلبل البرج من دون أن يكتمل و"بلبل لغة الأرض كلها... حتى لا يفهم الآدميون لغة بعضهم بعضًا". وهنا تعترضنا صعوبة ذُكرت في الإصحاح العاشر، وتتعلق ببني نوح، إذ يشير النص إلى أن أبناء نوح وذراريهم: يافث وحام وسام، انتشروا في الأرض "كل بحسب لغته" (3:10). والملاحظ أن قصة بابل وردت بعد نوح والطوفان، مما يشير إلى أن خللًا حصل يتعلق ببلبلة الألسن وتعدّد اللغات.
وإذا انتقلنا إلى الأساطير الأولى الخاصة بتعدد اللغات للاحظنا أن الإغريق، على سبيل المثال، كانوا يمايزون بين العرق الهليني الذي يستخدم لغة دقيقة ومكتملة، وبين البرابرة الذين كانوا يرطنون بلغات (لهجات) شعثاء وهلامية. وأصبحت اللغة الإغريقية بعد فتوحات الإسكندر المكدوني هي اللغة السائدة في المناطق المحيطة بحوض البحر المتوسط (بحر الروم، آنذاك). ومع الفتوحات العسكرية الرومانية، أصبحت اللغة اللاتينية هي اللغة السائدة، أو بالأحرى تشاطرت الإغريقية واللاتينية هذه السيادة. فاللغة السائدة koinè آنذاك ـ رغم وجود عدد من اللغات المحلية ـ هي اللغة التي كتب بها أفلاطون، وأرسطو، والمسرحيون، والتي تفرّعت في القرون الوسطى الأوروبية إلى لغات شعبية سرعان ما تحوّلت إلى لغات أوروبا المعاصرة. وخير دليل على هذا التطور الطبيعي هو كتاب "في الفصاحة العامية/ De vulgari eloquentia"، الذي كتبه دانتى أليغييري ما بين 1303 و1305. ومايز دانتي بين اللغات الشعبية وبين اللغة اللاتينية التي بدأت بالانحسار، وعوّل على مستقبل هذه اللغات الشعبية التي أصبحت لغات أوروبا المعاصرة. وللدفاع عن مستقبل هذه اللغات الشعبية التي راهن عليها، كتب ملحمته "الكوميديا الإلهية" باللغة الايطالية. وأراد دانتي أن يقول إن الله أعطى الإنسان موهبة التعبير التي عن طريقها ابتدع الإنسان لغته، أو لغاته: أي أن الله خلق طاقة تعبيرية عند الإنسان والذي بها أحدث اللغات.




ويتوقف إيكو عند الراهب رامون لول، الذي كتب 280 كتابًا بالكتالانية، والعربية، وكرّس لتمازج اللغات كتابًا عنوانه "الفن الكبير/ Ars magna" الذي التقت فيه ثلاث ثقافات: المسيحية والإسلامية والعبرية. ويتكلّم في هذا الكتاب عن اللغة الفلسفية الكاملة الأوصاف التي تصلح تواشجاتها لنقل زبدة الفكر الإنساني.
وينتقل من ثمّ إلى اللغة السحرية. والمعروف عن أومبرتو إيكو أنه يعشق الأجواء الملتبسة والغامضة والطلسمية، وهذا ما يُلتمس في رواياته، ولا سيما رواية "اسم الوردة"، التي شهرته عالميًا. ويرى أن القرن الثامن عشر تميّز بأجوائه الترقبية التي انتشرت فيها كتب تنادي بجمهورية مثالية، كتلك التي سبق أن طرحها الإيطالي توماسو كامبانيلا (1568 ـ 1639) في كتابه "مدينة الشمس"، أو البريطاني توماس مور (1478 ـ 1535) في كتابه "اليوتوبيا"، أو الفرنسي غيوم بوستيل (1510 ـ 1581) الذي أطلق الدراسات القبالية في كتابه "كنز نبوءات العالم"، أو الإيطالي تريانو بوكاليني (1556 ـ 1613) في كتابه "التنظيم السري لأخوية وردة الصليب"، وفيه يطرح الأسس السرّية لهذه الأخوية التي كانت تهدف إلى إنشاء تنظيم يسعى إلى تأهيل أبناء الملوك والأمراء ليحكموا أوروبا وفقًا لبرنامج يشبه برنامج الماسونية. واهتم هذا التنظيم بدراسة الأجواء الخفية التي تستشفّ ملامحها في التعابير الجسدية الحسية التي لا يدركها إلا العارفون. وسعى أنصار هذا التنظيم إلى إدراك اللغة الخفية التي دفعت بآدم إلى إطلاق الأسماء على الحيوانات والكائنات، والتخاطب مع الطيور. واهتم أعضاء التنظيم بمعاني الأعداد والأشكال والحروف وبرمزيتها. وقيل إنهم يمارسون السحر القبالي والتخاطب مع الموتى والملائكة، وكانوا يبتغون التوصل إلى كشف خفايا الكون عبر لوائح الحروف والأرقام والأعداد التي من شأنها أن تفسر علاقة الكواكب والنجوم بالأرض وبالبشر. كان أعضاء وردة الصليب يريدون الوصول إلى اللغة الأولى التي خاطب به آدم الله واستخدمها في تسمية الحيوانات والكائنات. وكان الهدف من ذلك الكشف عن اللغة الكلية الكاملة الأوصاف. والواضح أن هذه اللغة كانت مشوبة بأجواء غنوصية وتنجيمية وترميزية.

أومبرتو إيكو، الكاتب والسيميائي الإيطالي في ميلان/ إيطاليا (أبريل/ نيسان 2000/Getty)


وفي خضم الأفكار الثورية التي أطلقتها ثورة 1789، راح بعضهم يبحث عن لغة أوروبية جديدة، لغة مبسّطة يتخاطب بها العلماء الأوروبيون، فتكون خلاصة لجميع لغات أوروبا، وتهدف إلى خلق جو عائلي وودي ينشر الأنوار والأخوّة بين جميع شعوب القارة المنتفضة. فانطلقت أول موسوعة في أوروبا، وهي موسوعة ديدرو ودالنبير، لتكون أول مشروع يهدف إلى خلق ثقافة أوروبية متكاملة تجمع العلوم والمعارف والأفكار والنظريات السائدة في أرجاء أوروبا. وأعقبت الموسوعةَ مشاريع تهدف إلى ابتكار لغة موحّدة، لغة أوروبية تحلّ محلّ اللاتينية العجوز التي صارت طلسمية لثمانين في المئة من سكان أوروبا. ويذكر إيكو عددًا من مطلقي هذه المشاريع، ومنهم جواشيم فيغيه (1703 ـ 1781)، الذي حاول تبسيط النحو في اللغات الأوروبية المعربة: إضافة gi في حالة المضاف إليه، وpo في حالة المفعول فيه، وتوحيد شكل النعوت في صيغة المذكر والمؤنث، وتقليص التصريفات الفعلية، وإلغاء الاستثناءات. ومنهم أيضًا جان ديلورميل، صاحب كتاب "مشروع لغة كونية" (1795)، وأيضًا زالكيد هورفيتز، صاحب كتاب "التدوين، أو فن التراسل عبر القاموس في جميع اللغات وحتى في تلك التي تفتقر إلى حروف الهجاء" (1800). وتزامنت هذه المشاريع مع حملات نابليون الذي أراد توحيد أوروبا بالقوة؛ وبالتالي لِمَ لا تكون لهذه القارة لغة واحدة تفرض الإخاء والوئام بين جميع سكانها؟ وأطلق السويسري جان بول دو ريا مشروعًا يقضي بكتابة جميع لغات العالم كما تلفظ (1787)، وهو كناية عن كتابة صوتية تم اعتمادها في القرن العشرين وتوحيدها عالميًا واعتمادها في المعاجم العلمية المحترمة. وانبرى الكونت أنطوان دي ريڤارول في كتابه "في كونية اللغة الفرنسية" (1784) قائلًا: أصبحت اللغة الفرنسية الآن اللغة العالمية الأكثر انتشارًا، فلا حاجة بالتالي إلى جميع هذه المشاريع، لأن الفرنسية تفي بالغرض. فهي لغة سلسة ومنظمة وعقلانية ومنطقية. وفي بداية القرن التاسع عشر رأى الفرنسي آن بيير جاك دو فيم أن لغة الموسيقى هي اللغة الكونية (1806) لأنها نقل عن لغة الملائكة، وتصيب الشعور affect البشري في الصميم. وعام 1817 سار على نهجه الباحث الفرنسي فرانسوا سودر، فناغم بين العلامات الموسيقية وحروف الهجاء. وتوالت مشاريع اللغة الكونية والعالمية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وذهب بعض الباحثين إلى التفكير في لغة مشتركة بين كوكبنا وباقي الكواكب والمجرات، كأننا انتقلنا إلى مجال الخيال العلمي، وإلى بدايات أبجدية "مورس"، مع الهولندي هانس فروديتال: تحويل الحروف إلى ظواهر كهرطيسية. وراح الحوار بين الآلة والإنسان يتطور في مشاريع الذكاء الصناعي الذي راح يتطور مع برتراند راسيل، وجوزف لودفيغ فتغنشتاين، ورودولف كارناب.




وراحت فكرة اللغة الدولية الكونية تشق طريقها أكثر فأكثر مع اختراع الهاتف واللاسلكي والتلغراف، ممّا طوّر التجارة العالمية، ونمّى الأبحاث العلمية. وأعاد الكاهن الألماني جوهان مارتان شليير (1831 ـ 1912) النظر في مشاريع اللغات الكونية الـ38 التي ظهرت في القرن التاسع عشر، فطرح مشروعًا لغويًا يعزز الإخاء والوئام بين الشعوب، فأنشأ لغة مكوّنة من 28 حرفًا، ويتمتع كل حرف بلفظ وحيد، وكانت هذه اللغة مشتقة من اللغة الإنكليزية، وتحمل بعض الخصائص: صيغة المؤنث تشتق دائمًا من المذكر، جميع الصفات تنتهي في ik، الكلمات الدالة على فكرة زمنية تبدأ بـ del، النبر في المقطع ما قبل الأخير من الكلمة...
وفي عام 1887 طرح الدكتور الليتواني ليجزر لودفيغ زامنهوف مشروعًا رائدًا طوّر لغة كونية جديدة سميّت بالاسبرانتو (نسبة إلى دكتورو اسبرانتو أي الدكتور المفعم بالأمل). وكانت ليتوانيا آنذاك تابعة لبولونيا الخاضعة بدورها للوصاية الروسية. وكانت هذه المنطقة من العالم تعجّ باللغات، وتعاني بطش القياصرة الروس، فوُلدت لغة الاسبرانتو لتكون لغة عالمية تنشر الإخاء والوئام بين البشر، وبخاصة بين سكان أوروبا السلافية، ثم الغربية [حلم الثورة الفرنسية]. فاهتمت بها الجمعيات الأكاديمية واللغوية، وعقد حولها عدد من المؤتمرات. وأيدها الكاتب الروسي ليو تولستوي، مما أثار حفيظة القيصر الروسي، وساندها الألسني البريطاني بودوان، والفيلسوف المشهور راسل، واللغوي التشيكي رودلف كارناب، الذي أشاد بمزايا هذه اللغة وبمرونتها وبساطة بناها. ويشهد على نجاحها تأسيس "جمعية الاسبرانتو العالمية" المنتشرة في كبرى المدن الأوروبية، وظهور أكثر من مئة مجلة تنتمي إلى الاسبرانتو، ونشر عدد من الكتب العالمية مترجمة إلى الاسبرانتو، كالتوراة، وحكايات أندرسون. وعام 1905، أصدر زامنهوف الكتاب المؤسس للاسبرانتو، وهو Fundamento de Esperanto. وصنّف فيه المفردات المتقاربة في مختلف اللغات الأوروبية: roza, rose, rosa ... وحبّذ اللغات المشتقة مباشرة من اللغة اللاتينية، ثم اللغات الجرمانية والسلافية، مما ساعد في تقبّل هذه اللغة غير المستهجنة، وخفف وطء الغرابة اللغوية: akto فِعل، alumeto كبريت، dome بيت، fumo دخان... وتستفيد الاسبرانتو كثيرًا من سوابق ولواحق الكلمات، كما هو شائع في اللغات المشتقة من اللاتينية. وتسهل تصريف الأفعال، إذ تكتفي بالمصدر vid-i رأى، vid-as يرى، vid-is رأيت، vid-os سأرى، vid-us قد رأى، vid-u رَ أو أنظرْ. ويفهم الناطق بإحدى اللغات الأوروبية قسمًا كبيرًا من لغة الاسبرانتو، مثلًا la birdo flugas en la gardenon راح الطائر يطير في الحديقة.
قال بعضهم إن اللغة الفلامنكية هي أسهل لغات العالم؛ ورأى آخرون أن اللغة الإنكليزية حظيت بانتشار عالمي كبير بسبب رقعة الاستعمار الإنكليزي الهائلة، وبسبب التقدم التقني للولايات المتحدة. ولو أن هتلر انتصر في الحرب العالمية الثانية لكانت الألمانية هي اللغة السائدة في العالم. ورأى دستوت دو تراسي في كتابه "عناصر أيديولوجية" (1803) أن العالم لو تبنى بأجمعه لغة واحدة لتشعبّت وتذرّرت بسرعة إلى لهجات مختلفة وألسنة متباينة (ذكره إيكو ص 375). فبرتغالية البرتغال مختلفة عن برتغالية البرازيل، بحيث تصدر لنفس الكتاب ترجمتان: واحدة برتغالية، وأخرى برازيلية. ولكن وسائل الاتصال الحديثة تساهم في تقليص التباينات اللغوية، كما في الفرنسية الكندية، والفرنسية الفرنسية.
فرضت اللغة اللاتينية نفسها في العصر الوسيط لأسباب سياسية وجامعية وكنسية، وانتشرت اللغة السواحلية كثيرًا في أفريقيا لأسباب تجارية واستعمارية. ويسأل إيكو قائلًا: هل تستطيع منظمة الأمم المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، أن يفرضا لغة بعينها؟ ويجيب: لم يحصل هذا في التاريخ حتى الآن. ولكن وسائل الاتصال الحديثة، وانتشار السياحة الجماعية، وازدياد العلاقات التجارية والعلمية بين الدول، دفعت بالإنكليزية لتكون اللغة الأكثر انتشارًا في العالم المعاصر. وفي الآن نفسه، نلاحظ أن جميع الدول تحافظ على كياناتها وحدودها من خلال الحماية الجمركية والجيش النظامي وفرض الراية الوطنية واللغة الوطنية. ومع ذلك، لا يسعنا إنكار التوسع والتغلغل اللغوي الذي نشأ بسبب الهجرة والتسلل، كما يحصل في كاليفورنيا، التي صارت عمليًا تتكلم لغتين: الإنكليزية والإسبانية. وتلعب الترجمة دورًا فاعلًا في تمكين لغة من اللغات وفي نشرها على مستوى العالم. قال أحدهم: "لا يمكن أن يوجد شاعر عالمي بلغاري".




لذا نرى كثيرًا من كتّاب الشعوب الصغيرة يلجأون إلى اللغات الكبرى التي تستطيع إشهارهم (تودوروف، أدونيس، أمين معلوف، الطاهر بنجلون، يونيسكو، كونديرا، سلمان رشدي...).
وفي خاتمة كتابه، يعود أومبرتو إيكو إلى مسألة اللغة الآدمية الواحدة، وإلى التعدد اللغوي البابلي. ويرى في مسألة برج بابل أسطورة فاتنة ولا تخضع للتحليل العلمي، لأن تكوّن اللغات ومسيرتها خاضعة لظروف شتى. قال لويس الرابع عشر: "أنا الدولة"، ويرى بعضهم أن الدولة هي اللغة. وعندما تضعف الدول وتنهار تتعرض لغاتها للاندثار؛ وهذا ما حصل للمأربية، والسبئية، والآرامية، واليونانية القديمة، واللاتينية، والسنسكريتية، والمصرية القديمة... في عالمنا اليوم حوالي ستة آلاف لغة، وعندما تموت إحداها يفقد العالم حضارة وتراثًا وفولكلورًا وفنونًا... ترعرعت في أوساط هذه اللغة. والشاعر الإيطالي دانتي كان متقدمًا على عصره عندما كسر التقليد الكنسي اللاتيني وكتب تحفته "الكوميديا الإلهية" باللغة الشعبية: إيطالية القرن الرابع عشر. هذا ليقول إن التعدد اللغوي هو القانون الطبيعي في نشأة وازدهار واحتضار اللغات. فاللغات الطبيعية كاملة الأوصاف لأنها متعددة، "لأن الحقيقة متعددة، ولأن الكذب يرتبط باعتبارها واحدة ونهائية" (ص 388 من كتاب إيكو).

***

في هذا الكتاب الثري بمعلوماته، كما في سائر كتب أومبرتو إيكو، يطرح أبعاد حلم راود البشرية منذ قرون للوصول إلى لغة كونية كاملة الأوصاف تبلور ذات يوم في الاسبرانتو. ولكنه يبقى حلمًا جميلًا، على الرغم من أن بعض تجلياته تستشف في مشاريع الذكاء الاصطناعي وتجارب الترجمة الآلية، إذ يقتضي إنشاء وحدة سياسية ولغوية عالمية، فأين نحن الآن من ذلك؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.