"جبران خليل جبران يعود إلى نيويورك بعد مئة عام" Kahlil Gibran returns to New York after 100 years هو عنوان المعرض الذي افتُتح الأسبوع الفائت في مقر الأمم المتحدة في نيويورك تحت رعاية البعثة الدائمة للبنان لدى الأمم المتحدة وجامعة البلمند في لبنان ومتحف جبران خليل جبران في لبنان وبالتعاون مع الاتحاد الثقافي اللبناني العالمي- المجلس الأميركي، ويضم المعرض 30 قطعة لجبران (1883-1931) منها 23 لوحة تشكيلية ودفاتر وأدوات رسم تخصه ومخطوطات ووثائق. وكان المعرض مقررًا في عام 2020 وتم تأجيله بسبب وباء كورونا، ثم تقرّر إقامته بمناسبة مئوية كتابه "النبي" (1923)، أحد أشهر الكتب وأكثرها مبيعًا حول العالم.
تم نقل اللوحات والقطع الخاصة لهذا المعرض من متحف جبران خليل جبران في منطقة بشري في لبنان، مسقط رأسه. ومن ضمن اللوحات 12 لوحة من كتاب "النبي"، ومجموعة أخرى رسمها جبران من وحي وادي قاديشا والطبيعة الجميلة لبلدته بشري. كما يتضمن المعرض لوحات للنساء اللاتي تركن أثرًا في حياته، أبرزهن ماري هاسكل، المرأة التي أحبها والتي كانت الداعم الأول له ويعود الدور الأكبر لها في مسيرته الإبداعية، وصديقته شارلوت تيلر، وغيرهما. كما سنجد سبع مخطوطات من بين أكثر مقتنيات متحفه قيمة، من بينها البروفة الأولى لكتابه "النبي" وعليها تعديلات بخط يده قبل أن يرسلها للنشر النهائي.
عُرف جبران بأنه "الشاعر" أكثر من كونه "كاتبًا" على الرغم من أن كتاباته الشعرية أقل بكثير من كتاباته النثرية. وقد اتسمت كتاباته النثرية بالحداثة، ما دفع أدونيس للتوقف عنده في كتابه "الثابت والمتحول"، معتبرًا إياه المؤسس للحداثة ورائدًا أول في التعبير عنها، وحيث يعنون أدونيس فصله "جبران خليل جبران أو الرؤيا/ الحداثة"، ويرى أن اللهجة التي يتكلم بها جبران في معظم كتاباته هي لهجة النبي، أي أن الأمر لا يقتصر على كتابه "النبي". ثم يقول: "الجبرانية، هي جوهريًا، نبوة إنسانية. وجبران بهذا المعنى، يطرح نفسه نبيًا للحياة الإنسانية بوجهيها الطبيعي والغيبي، ولكن دون تبليغ رسالة إلهية معينة... ويصح، في هذا الضوء، أن نسمي جبران كاتبًا رؤيويًا". وفي حديثه عن كتابه "المجنون" يقول جبران عن بطل كتابه: "إنه بعيد ومختلف... إنه ينتشلني، وأود أن أرتفع بحياتي إلى مستواه". ويرى أدونيس أن جبران بوصفه كاتبًا رائيًا حين يتقمص شخص المجنون، فإنه يتقمص شخصًا ينطق باسمه، شأنه شأن "النبي" و"التائه" فهؤلاء وجوه متعددة لحقيقة واحدة: جبران الرائي.
ولم يُعرف جبران أيضًا بأنه فنان بقدر ما عُرف شاعرًا، رغم أن نتاجه الفني سبق نتاجه الأدبي، ويعود الفضل لماري هاسكل بالتعريف عنه ككاتب، ففي عام 1905 ستتكفل هاسكل بنشر أول كتبه، حيث لم يكن جبران معروفًا ككاتب أو كشاعر قبل ذلك، وستكون محررة لكتاباته حتى آخر أيام حياته.
بدأت موهبة الرسم عند جبران مبكرًا عندما كان لا يزال طفلًا يكره الذهاب إلى المدرسة ويعبّر عن ذلك بالرسم على جدران المنزل برسومات غير مفهومة قبل أن يتعلم الكتابة. في أميركا لاحظت إحدى المعلمات موهبته وأوصلته بأحد أساتذة الرسم. وعند وفاته كان قد ترك أكثر من 700 عمل فني، منها ما أعيد إلى متحفه في لبنان، ومنها ما بقي في أميركا، وكانت صديقته ماري هاسكل قد جمعت أكثر من ثمانين عملًا وتم الاحتفاظ بها في متحف "تيلفير" Telfair بولاية جورجيا الأميركية يُفتح للعامة من وقت لآخر للتعرّف على أعماله.
"أنا أرسم، أو أتعلم كيف أرسم. سوف يستغرق مني وقتًا طويلًا للرسم كما أريد، ولكن من الجميل أن نشعر بنمو رؤية المرء للأشياء"- كتب جبران خليل جبران هذه الكلمات لماري هاسكل في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1908 خلال إقامته في باريس. التقى هاسكل وجبران في 10 أيار/ مايو 1904 خلال أول معرض له في "استوديوهات هاركورت" Harcourt Studios في بوسطن بأميركا حيث كان يقيم. كان جبران يبلغ من العمر أحد وعشرين عامًا فيما كانت هاسكل في الحادية والثلاثين من عمرها. أعجبت هاسكل بأعماله، وسرعان ما عرضت عليه السفر إلى باريس لدراسة الرسم براتب 75 دولارًا في الشهر، وكان هذا المبلغ يعدّ راتبًا مرتفعًا في ذلك الوقت.
في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1904 دمّر حريق استوديوهات هاركورت وأُتلفت أعمال جبران بالكامل ما سبّب صدمة كبيرة له ولأصدقائه حتى أنه اضطر إلى مواساتهم لأنهم كانوا مستائين من خسارته؛ يكتب إلى صديقته الشاعرة المسرحية الأميركية جوزيفين بيبودي (1874-1922): "نعم عزيزتي، ضاعت سنوات عمل الحب، لا تحزني، لأنه لا بدّ أن يكون هناك سبب جميل غير معروف وراء كل ذلك"، وعلى يسار الرسالة رسم جبران رسمًا للدخان يتصاعد من يد ومن فحم لتتكون سحابة في الصورة.
وافق جبران على عرض ماري هاسكل لاحقًا وسافر إلى فرنسا لدراسة الرسم في أكاديمية جوليان Académie Julian، وقبل وقت قصير من مغادرته في شباط/ فبراير 1908، سيصف جبران هاسكل في رسالة لصديقه أمين غريّب: "إنها ملاكي الذي يقودني نحو مستقبل باهر ويمهّد لي الطريق إلى النجاح الفكري والمالي". وبقيت علاقة الحب الكبيرة بينهما غامضة متحدية التصنيف، حيث تزوجت هاسكل عام 1926 من جاكوب مينيس فيما استمرت على علاقة قوية مع جبران كما استمرت بتقديم كل نفوذها على جميع الأصعدة لتعزيز أعماله الإبداعية. قبل وفاته سيعهد جبران لهاسكل بكل أعماله الفنية، ويكتب: "كل ما هو في محترفي من رسوم وصور أوصي به بعد مماتي لمسز ماري هاسكل مينيس... لكني أرغب إليها إن أرادت أن ترسل بعض هذه الأعمال إلى بلدتي".
في باريس تعرّف جبران على النحات الفرنسي أوغست رودان (1840-1917)، يقول رودان عنه "حين يرسم يبدو حالمًا صوفيًا، شبه إنجيلي، ويستخدم الألوان المائية الخفيفة، ويتفوق في مطّ الأجساد النسائية، والمظاهر الشجية والتكوينات المتشابهة مع الإغراق بالسيميترية والإيقاع المتدفق والأجساد المجدولة، والتأنق الدائم". وقد اصطحبه رودان إلى لندن للتعرف على أعمال الرسام والشاعر الإنكليزي ويليام بليك (1757-1827) والتي وقع جبران تحت تأثيرها، وظهر ذلك التأثر في أعماله لاحقًا.
يقسّم المؤرخ الفني ألفونسو ميرندا ماركيز Alfonso Miranda Márquez المراحل الفنية التي مرّ بها نتاج جبران خليل جبران الفني كما يلي:
1893-1907: استخدام أقلام الفحم والرصاص، وتتضمن أجسادًا عارية.
1908-1914: أعمال زيتية نفّذها خلال إقامته في باريس، معظم أعماله هذه متأثرة بالمدرسة الرمزية.
1914-1918: هجر الزيت وعاد لاستخدام الفحم مرة أخرى، تغلب هنا البورتريهات ويظهر تأثير ليوناردو دافنشي في هذه الأعمال.
1923-1931: وهي المرحلة الإبداعية النهائية، ألوان كثيفة وداكنة وذات جودة دراماتيكية.
تصوّف بليك وشخصياته الممدودة جنبًا إلى جنب مع اللون، والعمارة الجسدية في أعمال كاريير، والكآبة والأشكال المقطوعة في أعمال مارتن مدين لها، كما يقول جبران، وأعماله خليط من هؤلاء مضيفًا إليها من روحه |
يعكس فن جبران، مثل كل كتاباته، تأثير حركات القرن التاسع عشر الفنية، العناصر الكلاسيكية في المدرسة الرمزية، واللغة البصرية للمدرسة الرومانسية الإنكليزية. يتجلى افتتانه بالمواضيع الروحية. أعطى جبران أهمية لظهور ما وراء الأشكال أكثر من الأشكال نفسها. الخطوط تبدو عابرة كأنها تتلاشى. يقول جبران عن فنه: "إذا كنت أرسم جبلًا على هيئة العديد من الأشكال البشرية أو رسمت شلالًا على شكل أجسام ساقطة، فذلك لأنني أرى العديد من الكائنات الحية في الجبل، وفي الشلال تيار من تعجيل الحياة". ويذكر في رسالة موجهة إلى صديقه فيليكس فارس عام 1930 أنه تأثر فنيًا بثلاثة، ويليام بليك، والرسام الفرنسي أوجين كاريير (1849-1906)، والرسام الفرنسي هنري مارتن (1860-1943). تصوّف بليك وشخصياته الممدودة جنبًا إلى جنب مع اللون، والعمارة الجسدية في أعمال كاريير، والكآبة والأشكال المقطوعة في أعمال مارتن مدين لها، كما يقول جبران، وأعماله خليط من هؤلاء مضيفًا إليها من روحه.
للمرأة موقع مهم في حياة جبران، وكان في الواقع من الدعاة الأوائل لتحررها ومساواتها مع الرجل. ويسيطر الوجود الأنثوي على الكون المرئي لجبران، سنرى من هذه الأعمال في المعرض الحالي، كأنها وجوه مجهولة بنظرات الحنين إلى الماضي، الوقت أبدي في وجوه نسائه. الأجساد التي صوّرها جبران تبدو كأنها هاربة من اللوحة، ثمة أرواح ذكورية وأنثوية، أجساد عارية ضبابية. بعض رسوماته عن النساء تشبه إلى حد كبير لوحة "امرأة متكئة على طاولة" (1893) لكاريير. وتكشف أعماله عن تأثره بدافنشي، الخطوط العريضة المظللة، والعرض الدقيق للعيون الهادئة والمليئة بالرغبة. واستخدم جبران الرموز للتعبير عن حالته المزاجية وعواطفه. يقول المؤرخ ماركيز عن أعمال جبران: "هناك رغبة في إنشاء لوحة لا تخضع للواقع، حيث يكون لكل رمز تجسيده الخاص. لا توجد قراءة واحدة: يمكن للعمل أن يثير مجموعة متنوعة من المقارنات. هنا أكثر من أي وقت مضى، العمل مفتوح، كما عبّر عنه أمبرتو إيكو، وأصالته لا تكمن في تقنيته بل في محتواه".
يسمّي أدونيس اتجاه فن جبران بـ "الواقعية الصوفية"، يقول: "الواقعية لأنه يبدأ بالواقع، يلاحظه وينتقده، والصوفية، لأنه يشير فيما ينتقد الأشياء المرئية أو المعلومة، إلى الأشياء غير المرئية أو المجهولة ويدلّ عليها. وفي هذا الصدد أفضّل كلمة صوفية على ما يرادفها في الغرب، أعني السوريالية... وعن هذا يعبّر جبران مقارنًا بينه وبين صديقه النحات يوسف الحويك: ’صديقي يبحث في الطبيعة أما أنا فأحاول أن أجد ذاتي من خلال الطبيعة. الفن بالنسبة إليّ أبعد من الأشياء التي نراها أو نسمعها... الشيء الآخر الأبعد في الإنسان، الشيء الذي لا نفهمه، والذي نسعى لأن نجد شكلًا يعبّر عنه ولم نجده حتى الآن‘".
أراد جبران أن يتجاوز العالم المادي اليومي الذي نعيش فيه مستخدمًا الكلمات والصور التي قد تلهم وترتقي بعقول وقلوب البشر. ويشكل كتاب "النبي" الذي يحتفي به المعرض الحالي عصارة تجاربه. وتدور قصة "النبي" حول "المصطفى" والذي سيشارك أهل مدينة أورفيليس بحكمته عشية عودته إلى وطنه بعد 12 عامًا من المنفى من خلال سلسلة من العبارات الشعرية/ النثرية تناول فيها موضوعات مثل الحب والزواج والأطفال والعمل والفرح والحزن والحرية والصداقة والشرائع والخير والشر وغيرها الكثير، والتي كانت بمثابة تذكير قوي للترابط بين جميع جوانب الحياة والحاجة إلى التوازن والتفاهم والرحمة. ورغم أن الكتاب لا يتجاوز الـ20000 كلمة ويقع ضمن فئة أدبية فريدة، إذ أنه ليس شعرًا خالصًا ولا فلسفة خالصة، ولكن سنجد فيه الانعكاسات الفلسفية والروحية والأدبية من نيتشه إلى ويتمان وبليك والتصوف والبوذية والهندوسية والكتب المقدسة. ويُحكى عن التشابه أو التقليد بين "النبي" و"هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه في الأفكار والصور، حيث كان بطل نيتشه كاهنًا وثنيًا فيما كان اسم بطل جبران مستقى من أحد صفات النبي محمد "المصطفى"، وتطرّق الكتابان لنفس الموضوعات الإنسانية، لكن يظهر الاختلاف جليًا من حيث اللغة، فاللغة النيتشوية شديدة الرمزية فيما تتسم لغة جبران في "النبي" بالوضوح. ونُشر الكتاب لأول مرة في أيلول/ سبتمر 1923 بتكلفة 2.25 دولارًا، وبيعت منه 1300 نسخة في الشهر الأول لإصداره، وتُرجم إلى 115 لغة، وبيعت منه أكثر من 10 ملايين نسخة حتى الآن، وألهم الكتاب العديد من الكتّاب والشعراء، وصار يُقرأ في الكنائس، واقتبس الأخوان رحباني عددًا من الأغاني من كتاب "النبي" لتقدّمها فيروز وتعرّف العالم على نبي جبران بغنائية متفردة، ومن هذه الأغاني "المحبة" و"سفينتي بانتظاري". وفي عام 2014 تم إنتاج فيلم يحمل اسم "النبي" The Prophet، سيناريو وإخراج روجير ألترس، وتمثيل ليام نيسون وسلمى حايك. وكان الكتاب قد نُشر في الفترة الذي ارتفع فيها حنين جبران لوطنه وبلدته خلال إقامته في أميركا. ويؤكد النقّاد أن جبران كان يتقمص "النبي" في كتابه و"أورفيليس" هي أميركا، وشخصية "المطرة" هي ماري هاسكل في الحقيقة، وهي شخصية عرّافة في أحد الهياكل وتؤمن بالنبي. وعن ذلك سيكتب جبران في إحدى رسائله إلى هاسكل عام 1929: "الطموح الجوهري للشرقي العظيم أن يكون نبيًا، في حين أن طموح الروسي أن يكون قديسًا، والألماني أن يكون فاتحًا، والفرنسي أن يكون فنانًا كبيرًا، والإنكليزي أن يكون شاعرًا كبيرًا".
يُذكر أنه في عام 2018 تم تنظيم معرض بعنوان "جبران: دليل لأزماننا" في صالة "سوثيباي"Sotheby's في لندن في الذكرى الـ95 لنشر كتابه "النبي"، وضمّ المعرض عددًا من لوحاته ورسائل بخط يده ومقتنيات جبرانية.
مراجع:
أدونيس، "الثابت والمتحول"، الجزء الرابع.
https://www.kahlilgibran.com/71-gibran-s-lost-portfolio-in-the-harcourt-studios-building-fire.html
http://gibrankgibran.org/eng/revision-teorica/gibran-de-oleo-y-papel/