}

المدينة المثالية كما رآها ابن رشد

ترجمات المدينة المثالية كما رآها ابن رشد
ابن رشد (Getty)
صدر مؤخرًا باللغة الإسبانية كتاب "ابن رشد: سيرة فكرية"، وهو كتاب يتناول سيرة أحد أبرز المفكرين العرب على مرّ التاريخ، ابن رشد، المُلقب كذلك بـ أرسطو العرب.
وفي استعراض لحياة فكرية ملأى بالمجد والألم، يحلل المستعرب والمؤرخ الإسباني خوان أنطونيو باتشيكو، المتخصص في التاريخ والدراسات الإسلامية، أعمال ابن رشد وعلاقتها بأرسطو وأفلاطون من ناحية، والفارابي والكندي من ناحية أخرى، ويربط هذه الأعمال بصعود إمبراطورية الموحدين، التي كانت بالنسبة لابن رشد الأمل الكبير في تأسيس مدينة مثالية.
هنا مجتزأ من الكتاب يتناول شكل المدينة التي تمنّى ابن رشد أن تتحقق في زمنه؛ مدينة، كما أفلاطون، يحكمها الفلاسفة.

[ترجمة: أحمد عبد اللطيف]

مدينة ابن رشد بحسب أفلاطون

يضم الفيلسوف القرطبي العلوم السياسية في منطقة العلوم العملية. كما أشار أرسطو، السياسة هي علم عملي هدفه هو الصالح العام والحكم الرشيد للمدينة. القصة التي تدور أحداثها منذ وفاة أفلاطون إلى نضج تلميذه، إذ أتيحت الفرصة للسلطة اليونانية لتجربة أنظمة سياسية أكثر تنوعًا. كان على أرسطو، معلم الإسكندر الأكبر، أن يربي تلميذه على مبادئ السياسة الواقعية لـ هرمياس، وعلى مفهوم اتحاد جميع اليونانيين. في الكتاب السابع من "سياسة"، يقول: "إذا اندمج العرق الهيليني في دولة واحدة، سيهيمن على العالم". مع ذلك، لم يتطلع نموذجه الكوزمبوليتاني إلى الحد الذي حققه الإسكندر في محاولته لتوحيد الإغريق والفرس، وهو اندماج كان يراه عبثًا. كما أن زمن ابن رشد التاريخي لم يكن زمن الفارابي نفسه، لأنه، كما نعلم، مرت حياته بين الانحطاط المرابطي ومجد الإمبراطورية الموحدية.
اعتقد أرسطو أن الإنسان ليس كائنًا منعزلًا وفريدًا، لكنه فرد ينتمي إلى نوع متكاثر بشكل لا نهائي من كائنات متطابقة، لكنها متنوعة، ومن أجل تحقيق أغراضها، تتشكل في مجتمع، وهذا التجمع الاجتماعي أو السياسي هو أيضًا كيان يتوافق معه. على هذا النحو، فالخير المناسب هو التطور المثالي لطبيعته. قال أرسطو إن الإنسان حيوان سياسي، أي في طبيعة الإنسان ذاته ثمة ميل فطري لتحقيق كماله الخاص، ولا يمكن تحقيق ذلك في العزلة، ولكن في التجمع مع أقرانه، من أبسط أشكال التجمع، مثل الأسرة، إلى أكثرها تعقيدًا، أي المدينة.
دليل أرسطو لإظهار هذا الدافع الاجتماعي في الإنسان هو أنه قد وُهِب ملكة الكلام، ويجب فهم ذلك ليس فقط بالمعنى المحدد في مصطلح الشعارات، ولكن أيضًا في تواصله مع الآخرين، في الحوارات. وبالتالي، فإن المجتمع السياسي هو مجتمع يعبره المنطق، وكله يتكون من أجزاء غير متجانسة تكون وحدتها من النظام وتشير إلى نهاية مشتركة.
وفقًا لابن رشد، رغم أن العلوم السياسية علم عملي، إلا أنها يجب أن تهتم بجوانب: المفاهيم، المدينة ككل، والمدينة الخاصة كمجموعة من العناصر غير المتجانسة والفردية. وبالطريقة نفسها التي يعمل فيها الطب، كما يقول، يجب فهم علم السياسة: الجزء النظري أولًا والجزء العملي ثانيًا. لهذا السبب، ستدرس السياسة أولًا العادات المكتسبة والأفعال الإرادية والسلوك البشري بشكل عام، ثم ستنتقل إلى النظر في الطريقة التي تثبت بها هذه العادات في الروح وكيف يمكن تنسيقها مع تلك المقابلة لأقرانها: "الجزء الأول من "الفن السياسي" وارد في كتاب أرسطو بعنوان "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، والثاني في "سياسة" وكذلك في كتاب أفلاطون "الجمهورية". أما "سياسة" أرسطو فلم تصل بعد إلى يدي".
في الجزء الأول من التعليق، يلتزم ابن رشد بما ذكره أفلاطون، وبالتالي يخبرنا بأن العلاقة بين جميع الفضائل التي تؤدي إلى كمال الإنسان في المجتمع هي نفسها علاقة ملكات الروح في ما بينها، كون العدالة ما توجه وتنسق الصفات الأخرى. وفقًا لفيلسوف قرطبة، يدرك أفلاطون أن العدالة تتكوّن من طريق مستقيم يسعى كل مواطن على طوله إلى نشاط يميل إليه بطبيعته. هذا غير ممكن ما لم تخضع أجزاء الدولة لأوامر العلم المفكر (العقل)، والذي يحملها إلى أعلى درجة من التميز. لهذا السبب يجب أن يكون الحاكم فيلسوفًا.




ابن رشد، في أغلب تعليقه على "الجمهورية" الأفلاطونية، لا يكشف عن آرائه، ولا تظهر اعتراضات واضحة على تلك التي وضعها الفيلسوف اليوناني في عمله: يقول أفلاطون، يشير أفلاطون، إنها مقدمات لأفكار المفكر الهيليني، ويبدو أن ابن رشد يريد أن يحافظ على مسافة معقمة من دون إلزام نفسه بأي من مناهج الكتاب. ومع ذلك، يبدو بعد قراءة التعليق، ووفقًا لبعض أجزاء منه، أن ابن رشد يتجنب أو يغفل التصديق على بعض الحجج التي يشرحها أفلاطون بوضوح وبشكل مكثف في عمله السياسي.
أحد أوجه الاعتراض الضمني، وليس الواضح، هو رفض يتعلق بالأساطير. تحتوي "الجمهورية"، كما نعلم، على الأسطورة التفسيرية الأكثر سهولة لشرح العالم المثالي وعلاقته بنسخته أو العالم المادي: ما يسمى بأسطورة الكهف. في الفصل العاشر من العمل اليوناني، باعتباره تتويجًا للكتاب بأكمله، ترتبط أسطورة إير، وتشير إلى عالم الغيب وتظهر محاكمة النفوس المدانة، وفقًا لتفسيرات أسطورية تظهر في حوارات أفلاطونية أخرى، في هاويات أرضية تمر من خلالها خمسة أنهار عظيمة: تارتاروس، المحيط، أشيرون، بيريفليجيتون وكوكيتوس. تقدم أسطورة إير أرواحًا عندما تعود إلى الأرض بعد أن أمضت ألف عام، لتختار لنفسها نوع الحياة التي تريدها في تناسخها، تختار أمام "باركاس" الذي يربط خيط وجودها على مغزل الضرورة، ويعبر الكون بأسره. نية أفلاطون، بهذه الأسطورة، هي رفع المسؤولية عن الإله في ما يخص مصير الإنسان. إذ المصير، كما تقول الأسطورة، هو عمل كل روح في لحظة عودتها إلى الحياة الأرضية.

أرسطو (Getty)

يستنسخ ابن رشد أطراف الأسطورة من دون التعليق عليها، لأن السرد الأسطوري لا يقوم على أي نهج عقلاني، رغم أنه يدرك القيمة التي تمتلكها الروايات الأسطورية لأفلاطون كوسيلة للتعبير والمثال. في ما يتعلق بالخلود والبراهين التي قدمها الفيلسوف اليوناني في الكتاب العاشر من عمله، ويقوم على الحاجة إلى المكافأة في العالم الآخر، لا يدلي ابن رشد بأي تعليقات، الشيء نفسه حول مقاطع أخرى من "الجمهورية" تظهر فيها مسألة الخلود.
تستند الحجة الأفلاطونية إلى سؤال يظهر في الحوار: "هل تعتقد أنه من المقبول أن يأتي كائن خالد لمثل هذا الوقت القصير وليس إلى الأبد؟"، ليأتي الرد متتابعًا: "الشر هو ما يذوب ويبيد. الخير ما يُحفظ ويبقى". وشر الروح هو الرذائل، الظلم واعتلال المزاج وغيرها، مع ذلك، لا تذوب تمامًا. لا يمكن للموت أن يموت، لأن الموت ليس شرًا مناسبًا للروح ولا يمكن تدمير شيء إلا بالشر المناسب له. لذلك، إذا كان لا يمكن تدمير الروح لا بشرها، ولا بالشر الذي ليس كذلك، فإن ذلك يعني أن الروح أبدية وغير قابلة للفساد. لا يقدم ابن رشد أي ضمانات لهذا الدليل على الخلود، ليس بسبب نتيجته، ولكن بسبب ضعف الحجة العقلانية التي تدعمه. بالإضافة، كما رأينا في مناسبات عديدة، يتجاهل فيلسوف قرطبة حكمًا عقلانيًا على خلود الإنسان، سواء أشار إلى خلود العقل الفاعل، أو حالة وطبيعة الروح. في كل هذه الحالات، لاحظنا أيضًا أن المفكر العقلاني يفسح المجال للمؤمن المدفوع بأمل يأتي يقينه من حقيقة النص المنزّل.
قضية أخرى يحافظ فيها ابن رشد على مسافة أقل مع أفلاطون، عندما يتعلق الأمر بالشعر. نحن نعلم أن النظم الشعري، ذو الطيف الكبير الواسع في الأدب اليوناني الكلاسيكي، يشير إلى ترتيب الأسطوري في جانبه الجمالي البحت، أو المرح: الشعر ليس سردًا لأسطورة تأسيسية، ولكنه محض تقليد يستخدم الإيحاء والخيال لإبهار المستمع. لهذا السبب، من بين أمور أخرى، في الفصلين الثاني والثالث في الجمهورية، يدين الفيلسوف اليوناني الشعر بسبب عيوبه الأخلاقية والتعليمية. في الفصل العاشر، يبرر هذه الإدانة لأسباب نفسية وميتافيزيقية، مشيرًا إلى أن الشعر خدعة وهمية، أو حيلة لإقناع المستمع. كل هذا يجعل الفن الشعري فنًا منحرفًا وضارًا يجب تجنّب وجوده في المدينة.




يوافق ابن رشد على إدانة أفلاطون للشعر، ويطبقها على الشعر العربي: "وليتجنبوا الأشعار التي يقوم فيها بوصف هذه الأشياء، إذ يشبه أن تكون محاكاتهم في ذلك من هذا القبيل. ولهذا كله لا ينبغي أن نجيز للشعراء في هذه المدينة الفاضلة محاكاة كل شيء، لعدة وجوه منها: أنه إنما يجيد المحاكي الواحد فعله عندما يحاكي شيئًا واحدًا بنوع واحد من المحاكاة، كما هو الأمر في الصنائع. وأيضًا فإن محاكاة الأشياء الخسيسة، أو التي لا وزن لها في تحريك الرغبة في الشيء، أو العزوف عنه، كما في كثير من أشعار العرب، هي من الأمور التي قد ينبغي ألا تكون في هذه المدينة. بل قد ينبغي أن نجيز للشعراء في هذه المدينة أن ينظموا الشعر في أخبار من كان من النساء على الهدى وبالجملة على الفضائل الخلقية" (ابن رشد، الضروري في السياسة، طبعة دار الفكر العربي، ص 94).
ثمة محاكاة ضارة يقوم بها شعراء عصر ابن رشد، سواء من رجال ذوي شخصية مضللة، أو نساء يأتين بأفعال مشينة. غير أننا نفهم رفض الفيلسوف القرطبي للشعر من وجهة نظر أيديولوجية وقانونية ودينية داخل مجتمعه الموحدي، وهو مجتمع رائد في الإمبراطورية.
كما نعلم، فإن أيديولوجية الموحدين أيديولوجية صارمة تتوافق مع مبادئ ثابتة كان لا بد من الالتزام بها تحت عقوبات رادعة. لذلك، يجب إيقاف وإدانة أي مظهر شعري يمكن أن يؤدي إلى هجمات ضمنية، أو اضطرابات خفية، أو ذكريات غير إسلامية. لهذه الوظيفة كان هناك القضاة، وكان ابن رشد واحدًا منهم، بل وعلى رأسهم وأهمهم. علاوة على ذلك، كان على كل مؤمن أصيل أن يشعر تجاه الشعر بالشيء نفسه، لأن الوحي أشار إلى ممارسة الشعر في القرآن.
عندما بدأ النبي في نقل الرسالة المنزّلة بين أهل مكة، وهي مدينة مقدسة في المخيلة المسلمة، كان بعض خصومه هم من وصفوه بالشاعر، بقصد تشويه سمعته. لقد نُزّلت آيات توضح هذا الحدث، إذ يقول تعالى: "بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون" (الأنبياء، ص5). إن الخطر والتهديد الوارد في هذا الاتهام الذي وجهه الكفار، ويصف الرسالة التي نقلها النبي بأنها مظهر من مظاهر الشعر المجرد، له في دوره جذور في التراث العربي قبل الإسلام، حيث كان يعتقد أن الشاعر موحى إليه من شيطان.

أفلاطون (Getty)

أيضًا، في ذلك الوقت كان يذاع بين الناس ما سُمّي بسجع الكهان. يضاف إلى هذه الظروف حقيقة أن الوحي الإلهي الأول الذي ينقله محمد إلى أهل مكة يأتي في نثر إيقاعي ومقفى بشكل خاص، وفي هذا، اقترب من الشعر التقليدي المقفى والموزون. ثمة عديد من الآيات يقطع فيها الوحي بشدة هذا التعريف بين الشاعر العادي والنبي، كما في قوله تعالى: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين. لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين" (يس، 69 ـ 70).
في تعليقه على الجمهورية الأفلاطونية، يردد ابن رشد نظريات أفلاطون حول الأنظمة السياسية للمدينة. في العمل المذكور، يحدد أفلاطون صفات كل طبقة اجتماعية بأسطورة فينيقية استعرضها هسيودوس: رغم أن جميع الناس متساوون بطبيعتهم، إلا أن الآلهة أعطت أرواحهم تركيبة مختلفة، وبالتالي "وضعوا الذهب في الأوصياء المثاليين، والفضة للمساعدين والبرونز والحديد للمزارعين والحرفيين". يخدم هذا التصنيف أيضًا الفيلسوف اليوناني لشرح الدورة التنكسية لتراجع الجنس البشري، وكذلك الدورة المتعلقة بأعمار البشرية وحكومات المجتمع. دعونا نلاحظ بشكل عابر أن هذا التسلسل هو نفسه الذي يضمنه ثيربانتس في دون كيخوته.
في عمله، يشير أفلاطون أيضًا، تمشيًا مع التنقلات الزمنية للعصور المذكورة، إلى صور حكومات خلّفت بعضها بعضًا في أثينا الكلاسيكية مانحًا إلى كل نمط من الروح إحدى تلك الصور. عندما تكون العناصر التي تشكل الطبيعة البشرية موحدة ومنسقة ومتناسقة تحت حكم الروح العليا، فالنتيجة هي الإنسان الحقيقي، أو الباسيليكوس، أو الفيلسوف. وعندما تفقد الروح العقلانية هيمنتها في الإنسان، في هذا الرجل/ الملك، فالحكم ينشغل بالميول الدنيا، وتبلغ، في عملية انحطاط متتالية، أن تسيطر عليها الغرائز الحسية أو العاطفية.
وبالطريقة نفسها، نظرًا لأن الطبقات الاجتماعية في المدينة تتوافق مع المتغيرات المختلفة للروح البشرية، فحكم المدينة يتدهور عندما يفقد أعلاه مكانه الطبيعي ويذوب لصالح الرتب الأدنى. مع هذا المخطط التوضيحي كأساس، يعدد أفلاطون في "الجمهورية" الأنظمة السياسية المحتملة، مع الأخذ في الاعتبار أن جميعها تقريبًا تم وضعها موضع التنفيذ في المدينة اليونانية.
الملكية، أو الأرستقراطية، هي الحكومة الأفضل، الشكل المثالي والأنقى للحكومة الممكنة في المدينة المتجسد في واحد أو عدد قليل من رجال بارزين لدرجة حِكمتهم وتمتعهم بالفضائل. كان لهذا النظام لحظة وجوده في الواقع في الماضي الأسطوري لليونان، ووفقًا لأفلاطون، ساد في ذلك الوقت الانسجام الأكثر مثالية بين جميع الطبقات الاجتماعية. عندما أهمل الحكام حساب وتطبيق عدد الزوجات والذرية، بدأ اختلال التوازن الاجتماعي ما أعطى هيمنة للطبقة الدنيا.
لقد اختلطت سلالات الذهب والفضة والبرونز والحديد، وأصبح العنصر العاطفي، الطموح في التكريم والانتصارات، سائدًا على العنصر العقلاني. ومع نهاية النظام الملكي، أو الأرستقراطية، نشأت تيموقراطية، أو تيماركية، وهي حكومة من الطبقة العسكرية استولت على الخيرات العامة وأخضعت الطبقة الدنيا لهيمنتها المطلقة.
ليست كل الحكومات التيموقراطية سيئة، في رأي الفيلسوف اليوناني، إذ تحتفظ ببعض السمات الأرستقراطية، لكن الطموح المتزايد للثروة وتركيزها في عدد قليل من المالكين يتسبب في ظهور انقسام حاد في البنية الاجتماعية: من ناحية أولئك الذين ليس لديهم شيء، ومن ناحية أخرى، قلة يملكون كل شيء. القلة التي لديها كل الموارد في أيديها تشرع في نوع من الحكومة الأوليجاركية، التي تهيمن على شعب يكرهها.
ينتهي هذا الرفض بالإطاحة بـ الأوليجاركية وتأسيس حكومة الشعب في المدينة، الديمقراطية التي يراها أفلاطون شكلًا منحطًا من أشكال الحكم القادر على ارتكاب أكبر قدر من الظلم. لقد عرفت أثينا الديمقراطية التي هيمن عليها غير القادرين على حكمها، هؤلاء الذين انغمسوا في جميع أنواع الطموحات، "عباءة متنوعة من جميع الألوان"، استطاعوا محاكمة وإعدام أفضل ممثل لنموذج الحكيم: سقراط، معلمه وبطل جميع حواراته. إن الفوضى التي تنتجها الحكومة الديمقراطية السيئة تحرّف الفضائل الملهمة للحرية والتفكير، ليحكم المصائر المدنية أولئك الذين يتمكنون من فرض أهوائهم على رغبات منافسيهم الأناركية. وبالتالي تصبح الديمقراطية ديماغوجية.
من بين جميع الديماغوجيين، الأكثر دهاءً، شخص يحصل على أكبر قدر من الدعم، يظهر أحدهم ليتولى الحكومة، ويثبت الاستبداد الذي يقمع الحرية تمامًا، ويمحو من واجهة معبد القانون مفهوم العدالة وتطبيقها. بالنسبة لأفلاطون، هذه أدنى درجة يصل إليها انحطاط أشكال الحكومة، وكان للفيلسوف أيضًا خبرة فيها في الأوقات التي عاش فيها في سيراكيوز، ولديه معرفة بطغيان الآخرين في عصره، مثل تلك الموجودة في بيزيستراتوس، وبيرياندر كورنثوس.
في عمل آخر من أعماله في العلوم السياسية، "السياسي"، يقلل أفلاطون من الأشكال المحتملة للحكومة في المدينة إلى ثلاثة: الملكية والأرستقراطية والديمقراطية. العلاج الوحيد الممكن الذي يقترحه لوقف العملية التنكسية هو قوة القانون "نظرًا لأنه من الصعب العثور على الفيلسوف المثالي، يجب استبدال سلطته بسلطة القانون" (أفلاطون، السياسي، ص 166).
هذا القانون، بالإضافة إلى إعادة امتياز العقل، يجب أن يحدد وصفاته وفقًا للأحكام الصادرة من ديلفوس، وهو ملاذ صدرت فيه أحكام وعقوبات من كل نوع. في "القوانين"، يقدم أفلاطون هذا البديل المهم في ما يتعلق بما تجلى في "الجمهورية"، كما لو كان يحاول مواءمة الامتيازات العقلانية الصارمة مع أولئك الذين ينتمون إلى نظام التعالي الإلهي، الذي يكون الإلهي في أفقه هو مقياس كل الأشياء والقاعدة العليا الكامنة وراء العلاقات الاجتماعية.
مع هذا، يتم دمج المدينة في وئام كوني تحكمه روح العالم. كما يقول الفيلسوف: "من يعتني بالعالم كله رتب الأشياء بما هو ضروري لكمال الكل، بحيث يفعل كل جزء أو يعاني ما هو مستحق له، وبقدر ما تصل إليه قدرته. فوق الأفراد، وضع هذا الحاكم الأعلى الملوك الذين يحكمون حتى أصغر دوافعهم وأفعالهم بطريقة تعزز كمال كل شيء حتى في أصغر أجزائه. الفاني: أنت واحد من تلك الأجزاء التي تعمل في وظيفة الكل من أجل الكمال الخاص بك، (...) بما أن هذا كله غير موجود لك، لكنك موجود من أجله" (أفلاطون، القوانين).

[يتبع ـ قسم ثان وأخير]

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.