عندما أُخبرُ الناس بأنّني مشتغلة بالرياضيّات (رياضيّاتيّة Mathematician) فإنّ العبارة الأولى التي يقولها معظمهم لي هي "أنا حقًّا سيّء للغاية في الرياضيّات". أستطيعُ أحيانًا تحسّس لمسة من الفخر في أصواتهم وكأنّ كون المرء سيّئًا في الرياضيّات هو مبعثُ بهجة لهم؛ لكنّني في نهاية الأمر أنتهي لقناعةٍ مفادُها أنّ نبرة الفخر هذه أقربُ لأن تكون تبجّحًا يخفي وراءه محاولة حثيثة لكبح جماح قَدْرٍ ليس بالقليل من الشعور باللاطمأنينة، أو طمس ذكريات قابعة في الذاكرة، وغالبًا ما تقترنُ هذه الذكريات بالألم الممضّ. أنا حزينةٌ حقًّا لأنّ الرياضيّات موضوعٌ صار مبعث هذا القدر العظيم من الاستقطاب المتنافر: البعضُ يرى الموضوع قريبًا منه إلى حدّ أن يسمّي أعضاء هذا البعض أنفسهم "شعب الرياضيّات"؛ وفي المقابل ثمّة بعضٌ آخر مسكون بقناعة يقينيّة ثابتة بأنّ أعضاءه سيّئون في الرياضيّات. يجب علينا في هذا الموضع أن لا نتناسى حقيقة جوهريّة: القليلُ - والقليل للغاية فحسب- من خصائص السلوك البشري يمكن توصيفه بتوصيفات قاطعة على شاكلة أبيض أو أسود. قدراتنا البشريّة غالبًا ما تقعُ في نطاق طيف مستمر Continuum؛ لكنّ الشيء الأكثر أهمّيّة فيما يخصُّ قدراتنا البشريّة هو أنّ كلّ قدرة من هذه القدرات يمكن أن تصبح أفضل لو تلقّى المرء تدريبًا جادًّا بطريقة صحيحة. ليس من الضروري أن يدع أحدنا ندوب ذاكرته الناجمة عن تجاربه المدرسيّة المؤلمة هي ما يشكّلُ رؤيته المستقبليّة تجاه أيّ حقل معرفي وليس الرياضيّات حسب. من جانبي أعلمُ من خبرتي التعليميّة المتواترة أنّني عندما مارستُ تجربة تعليم الرياضيّات لأطفال بعمر الخامسة أو السادسة فإنّهم كانوا في أغلب الأحيان يتقافزون بهجة وفرحًا وإثارة، ولم يعرفوا تجربة الخوف من الرياضيّات إلا في سنوات لاحقة.
المعضلة الأساسيّة، كما أحسبُ، تكمنُ في تعجّلنا لنقل المحتوى التقني للرياضيّات إلى الدارسين (Getty)
المعضلة الأساسيّة، كما أحسبُ، تكمنُ في تعجّلنا لنقل المحتوى التقني للرياضيّات إلى الدارسين. من أمثلة هذا المحتوى التقني: الكسور Fractions، النسب المئويّة Percentages، اللوغاريتمات Algorithms. نحن في العادة لا نمنحُ مشاعر الدارسين كفايتها من الاهتمام بمثل ما نفعلُ مع المحتوى التقني. المناهج التعليميّة للرياضيّات تفشلُ في تحبيب الأطفال بالرياضيّات وزرع حبّها فيهم. ليست هذه المثلبة مخصوصة على معلّمي الرياضيّات فحسب؛ إذ لا يمكن تبرئة المنظومة التعليميّة منها.
المنظومة التعليميّة تقيسُ مقدرة الدارسين على أساس الإنجاز التقني وليس بهجة التعلّم؛ لكن في كلّ الأحوال فإنّنا لو اتّخذنا مبدأ التركيز على المحتوى التقني على حساب المشاعر فليس من المحتمل أن تفوز مشاعر البهجة في سباق الأفضليّة التعليميّة على أساس قياس النتائج المتحقّقة من الفعاليّة التعليميّة كلّها. الأسوأ من فقدان بهجة التعلّم هو أن تنتج لنا العمليّة التعليميّة أناسًا يخافون الرياضيّات ويُشكّكون بقيمتها الفاعلة إلى حدّ يجعلهم غير قادرين على تطبيق تقنيّات القواعد المنطقيّة والكمّيّة في العالم الواقعي.
كمشتغلةٍ بالعلم مقيمة في معهد الفنّ بمدينة شيكاغو فقد درّستُ طلبة الفنّ لمرحلة ما قبل الدراسات العليا لمدّة ثماني سنوات. أغلبُ الطلبة الذين درّستهم هم ممّن تركوا دراسة الرياضيّات مبكرًا في المدرسة وكان إنجازهم في سنواتهم الأولى سيّئًا للغاية. كلّما سألتهم بشأن ما الذي وجدوه منفّرًا في الرياضيّات كانت إجاباتهم المتكرّرة تتمحورُ في موضوعات الحفظ memorisation (وبخاصّة جداول الضرب)، والاختبارات الزمنيّة، أجوبة خيارات الصحّ والخطأ، دفع المرء للشعور بالغباء لدى ارتكابه أيّ خطأ. أسرّني بعض طلبتي أنّهم شعروا بالاغتراب لأنّهم أرادوا إجابات غير تقليديّة عن أسئلة من نوع: لماذا -(-1)=1؟ أو أسئلة ذات مضامين فلسفيّة مثل: هل ثمّة وجود حقيقي للأعداد؟ هل الرياضيّات واقعيّة؟؛ لكنّهم جوبهوا بأنّ أسئلة مثل هذه لا يمكن إلا أن تكون غير ذات دلالة، وأنّ عليهم العودة سريعًا والانغماس في حلّ فروضهم البيتيّة التقليديّة المقرّرة من قبل معلّميهم. أفكّرُ أحيانًا أنّ مقاربتنا التعليميّة الحاليّة تدفعُ بالكثير من الدارسين لإبداء أقسى مظاهر النفور من الرياضيّات إلى حدّ قد يكون معه عدم تعليم الرياضيّات أفضل من تعليمها؛ لأنّنا في أقلّ تقدير إذا ما أبطلنا تعليم الرياضيّات فلن يكون للدارسين أيّ شعور نحوها؛ لكن لو درّسناها بالطريقة التقليديّة فإنّ كثيرًا منهم سيكون لهم شعور سلبي نحوها. ربّما يكون رئيس الوزراء البريطاني السابق ريتشي سوناك Rishi Sunak على حقّ عندما قال بأنّ ثقافتنا الحاضرة "مضادّة للرياضيّات" Anti-maths Culture؛ لكنّه بالتأكيد مخطئ تمامًا لو ظنّ أنّ الحال يمكن تحسينها بمجرّد مدّ تعليم الرياضيّات بصورة إجباريّة حتى سنّ الثامنة عشرة. إنّ آخر ما نحتاجه هو المزيد من سنوات تعليم الرياضيّات التي ستزيد مناسيب الألم في ذاكرة الدارسين. هؤلاء الذين يحبّون دراسة الرياضيّات سيمضون في دراستها من غير مشاكل؛ لذا فإنّ كلّ ما ستفعله فكرة سوناك غير المفيدة هو دفع الذين لا يحبّون الرياضيّات قسرًا إلى تعلّم شيء لا يريدون تعلّمه. إنّها سياسة تعليميّة فاشلة بكلّ المقاييس. ليست هذه دعوة لإبطال تعليم الرياضيّات بقدر ما هي دعوة لتعليم الرياضيّات بكيفيّة مختلفة لا تنتهي بصناعة أناسٍ يخافون الرياضيّات ويكرهون ذكراها المؤلمة ولا يعرفون كيف يستخدمونها بطريقة خلّاقة في دراسة العالم الحقيقي. عندما يواجه التلاميذ بأعمار الخامسة الرياضيّات لأوّل مرّة فإنّ تعليمها يكون فعاليّة إبداعيّة خلّاقة مفتوحة النهايات تتضمّن الكثير من اللعب والاستكشاف. يتعلّم الأطفال الكثير عن الأعداد باستخدام الكتل الملوّنة التي يستطيعون تشكيلها بطرق متعدّدة.
لو كنتَ ترى نفسك تنتمي لجماعة "أنا سيّء في الرياضيّات" فاعلم أنّ قناعتك هذه ليست لأنّك عجزت عن فهم الرياضيّات (Getty)
إنّهم يرتّبون هذه الكتل بتشكّلات مختلفة وفي الوقت ذاته ربّما يحكون العديد من الحكايات المختلفة عنها. بعد سنة أو سنتين فحسب تصبح الرياضيّات نمطًا من السلوك الصارم المنضبط بقواعد متشدّدة تحكمها إجابات الصحّ والخطأ. علينا أن نحاول استعادة حسّ الاستكشاف وانفتاح الذهن بعيدًا عن صرامة ثنائيّة (الصحّ والخطأ) التقليديّة. الأفضل دومًا أن نحاول مقاربة المعالجات الرياضيّاتيّة لمعضلة ما بطرق مختلفة ومن ثمّ معرفة ما المقاربة الأفضل من كلّ المقاربات. يجب أن يتعلّم دارسو الرياضيّات من وقت مبكّر في مسيرتهم التعليميّة - مثلًا- أنّ المهمّ في جداول الضرب ليس النتائج بل العلاقات الممكنة المختلفة بين الأعداد، وأنّ المهمّ في المعادلات ليس النتيجة بل التقنيّات المنطقيّة في مقاربة الحلول الممكنة. إنّ بعضًا من المسائل الرياضيّاتيّة يمكن تقديمها بطريقة أقرب لأن تكون معضلات كتلك التي اختصّ بها شرلوك هولمز، حيث التركيز على كيفيّة جمع الأفكار الصغيرة معًا لتكوين الحلّ الشامل بدلًا من التركيز على كيفيّة بلوغ حلّ واحد أوحد قاطع كما هي الطريقة التقليديّة في تعليم الرياضيّات. إحدى الطرق الفعّالة في الحفاظ على رغبة الدارسين في تعلّم الرياضيّات تكمنُ في ربط الرياضيّات بكلّ ما يستثيرُ رغبة الدارسين ويحفّز اهتمامهم على شتّى المستويات: الطعام، الغناء، الرقص، الرسم، الكتابة الإبداعيّة، الرياضة، الألعاب... إلخ؛ إذ عبر هذا الاقتران بين الرياضيّات والعالم الواقعي يمكن ربط المفاهيم الرياضيّاتيّة بأشياء محسوسة بدلًا من إبقائها مفاهيم تجريديّة خالصة. الخاصّيّة الإبداليّة Commutativity في الرياضيّات - مثلًا- يمكن عرضها كتمرين رقمي جاف في معادلة رياضيّاتيّة بسيطة على شاكلة: 5+2=2+5، أو يمكن ضخّ الحياة الواقعيّة في مفهوم الخاصّيّة الإبداليّة بالقول أن لا فرق جوهريّا لو حضّرنا الشاي بصبّ الماء الحار فوق أوراق الشاي الجافّة، أو لو أسقطنا أوراق الشاي الجافّة على الماء الحار.
هذا النوع من المقاربة الرياضيّاتيّة سيعني بالتأكيد قدرًا من البطء في تغطية مواد المنهج الدراسي للرياضيّات، وسيتّخذ البعض من هذا البطء سلاحًا لطعن هذه المقاربة التعليميّة؛ لكنْ في المقابل يمكن المحاجّة بأنّ تعليم الرياضيّات بواسطة هذه المقاربة الرياضيّاتيّة يعني تغلغلًا أعمق بالحياة ودفعًا لبهجة التعلّم لدى الدارسين، وهذه المقاربة هي في كلّ الأحوال أفضل من قسر الدارسين لحفظ بعض اللوغاريتمات (بمعنى الجداول) الجاهزة بطريقة مصطنعة سرعان ما سيتناسونها عندما يتوقّفون عن استخدامها. إنّ فكرة كون أحدٍ ما سيّئا في الرياضيّات - وكأنّ الطبيعة أرادته أن يكون سيّئا بطريقة قصديّة مسبقة- هي فكرة بائسة إلى حدود بعيدة ولأسباب كثيرة؛ فهي توكلُ أمر التفوّق الرياضيّاتي إلى الطبيعة بصورة كسولة وتنكرُ في الوقت ذاته حجم الجهد الذي يتطلّبه التفوّق في الرياضيّات. تعلّم الرياضيّات يتطلّب زمنًا وجَلَدا ومطاولة بالتأكيد؛ لكنّ ذلك الجهد لا يتوجّب بالضرورة أن يكون حفلة تعذيب شاقّة، وليس من مسوّغ مقبول ليكون كذلك؛ بل على العكس يمكن أن يكون تحدّيا مقرونا بحسّ المغامرة ومن ثمّ المكافأة اللذيذة بدلًا من حسّ الخذلان وفقدان رغبة الاستمراريّة وبهجة التعلّم. المقاربة التعليميّة المفتقدة لحسّ البهجة والمغامرة في تعلّم الرياضيّات ستكون سببًا كافيًا لدفع كثرةٍ من الدارسين للتوقّف عن دراسة الرياضيّات، وفي المقابل سيكون من اليسير على المنظومة التعليميّة اعتبار هؤلاء غير مناسبين أو ممتلكين للوسائل المناسبة الكافية لدراسة الرياضيّات. بعد كلّ هذا فإنّ الوسائل الرتيبة المُنفّرة في تعليم الرياضيّات ستوفّرُ للمعلّمين وصانعي السياسات عذرًا يتّخذونه سببًا لعدم مراجعة سياساتهم التعليميّة والارتقاء بها عبر جعلها أكثر مرونة وإبداعًا، وكذلك لتصميم مقاربات تعليميّة من شأنها إيقافُ هذا الهدر البشري الذي قد يجعل كثرة من الموهوبين كارهين للرياضيّات بسبب سياسات التعليم المنفّرة. إنّه لأمرٌ يوجع قلبي حقًّا عندما أرى النظام التعليمي الحالي وهو يجعلُ من بهجة غامرة لأطفال بأعمار الخامسة وهم يتعلّمون الرياضيّات لأوّل مرّة في حياتهم تستحيلُ خوفًا ونفورًا من الرياضيّات عندما يبلغون الثامنة عشرة. حقيقة واحدة أراها بكلّ الوضوح ولن أجادل أبدًا بشأن مصداقيّتها: لو كنتَ ترى نفسك تنتمي لجماعة "أنا سيّء في الرياضيّات" فاعلم أنّ قناعتك هذه ليست لأنّك عجزت عن فهم الرياضيّات؛ بل لأنّ تعليم الرياضيّات لم ينجح في جعلك تتحسّس جمال الرياضيّات وعظمتها، وقبل هذا أهمّيّتها العمليّة في عالمنا المعاصر.
قراءات إضافيّة:
Limitless Mind: Learn, Lead and Live Without Barriers by Jo Boaler (Thorsons)
The Gendered Brain: The New Neuroscience that Shatters the Myth of the Female Brain by Gina Rippon (Vintage)
Mathematics for Human Flourishing by Francis Su and Christopher Jackson
(*) يوغينيا تشينغ Eugenia Cheng: رياضيّاتيّة بريطانيّة مولودة في هونغ كونغ عام 1976. معروفٌ عنها اهتمامها بالسياسات التعليميّة فضلًا عن كونها عازفة بيانو منفردة (سولو) في العروض الموسيقيّة. تقود جهودًا عالميّة لمكافحة الخوف من الرياضيّات، كما تكرّس جزءًا كبيرًا من جهودها لتعليم الرياضيّات لغير المختصّين بها. لها كتب عديدة، أحدثها هو الكتاب المنشور عام 2023 بعنوان: Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics' Deepest Truths
ملاحظة المترجمة: الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانيّة بتاريخ 29 أيّار/مايو 2023 ضمن سلسلة The Big Idea الأسبوعيّة. العنوان الأصلي للمادّة المترجمة باللغة الإنكليزيّة هو: What if nobody is bad at maths?
صدر حديثًا عن دار ميزر للنشر والتوزيع في السويد كتابٌ بعنوان "الكِنزا رَبّا" باللغة المندائية، والذي يُعدُّ الكتابَ المقدَّسَ للصابئةِ المندائيين والمصدرَ الرئيسيَّ للتشريع. وأفاد مدير الدار بأنَّ الشكندا علاءَ ريسان السيفي قام بجهدٍ مميزٍ لإصدار الكتاب.
صدر حديثًا عن دار ميزر للنشر والتوزيع في السويد كتابٌ بعنوان "الكِنزا رَبّا" باللغة المندائية، والذي يُعدُّ الكتابَ المقدَّسَ للصابئةِ المندائيين والمصدرَ الرئيسيَّ للتشريع. وأفاد مدير الدار بأنَّ الشكندا علاءَ ريسان السيفي قام بجهدٍ مميزٍ لإصدار الكتاب.